“امرأة حيزبون”، “قرشانة”، “الكهرمانة”، و”مرضعة قلاوون”؛ عبارات اعتاد المصريون تردادها كلما قابلوا سيدة تتمتع بشخصيةٍ قوية، لكن لا يعرف الجميع أن كلّ هذه الألقاب تعود في الأصل إلى الست مسكة.
كانت الست مسكة شخصية استثنائية في تاريخ مصر، ولعبت دوراً في تحريك أحداثه بهدوء وذكاء خلال القرنين الـ13 والـ14، حين وصلت إلى رتبة كهرمانة (مديرة الجواري) وكانت أول امرأة تدخل السجن باختيارها.
وإلى جانب كلّ ذلك، عُرفت الست مسكة بالورع، فقد كانت تساعد كلّ من يطرق بابها؛ ويُقال إنها كانت تعطّر أموال الزكاة والصدقات بالمسك، ومن هنا أطلق عليها المصريون لقب “الست مسكة”.
لكن، من هي الست مسكة وما حكايتها؟
بدأت القصة عند زواج السلطان المنصور سيف الدين قلاوون -بعد سنتين على توليه الحكم- من الأميرة المغولية أشلون خندة، التي جاءت إلى مصر برفقة والدها الذي كان استقرّ في مصر هرباً من غضب سلطان المغول عليه.
وعند مجيئه إلى مصر، أحضر الوالد معه جميع أفراد أسرته والحاشية، من ضمنها “جلشانة” الفتاة فائقة الحسن والجمال (أو “حدق” بحسب المقريزي)، التي كانت في نفس عمر ابنته وعُرفت فيما بعد باسم “الست مسكة”.
حين أنجبت أشلون ابنها الناصر محمد قلاوون، لم يكن أفضل من جلشانة لتربيته؛ فصارت المرضعة والمربية للناصر، الذي حكم مصر على ثلاث فترات، رافقته خلالها الست مسكة في كل المراحل من دون أن تتركه لحظة.
تولت رعايته بعناية، وعُرفت بالحنكة والذكاء بعدما استطاعت أن تأخذ البيعة للناصر من الأمراء، حتى أصبح سلطاناً على مصر. وفي المرات الثلاث التي خُلع فيها، كانت الست مسكة تكافح بشدة لإعادة الناصر إلى الحكم.
لذا كان من الطبيعي أن تكون مكانة حدق (أو الست مسكة) كبيرة عند الناصر محمد الذي لم يرفض لها طلباً، وعيّنها كهرمانة في قصر السلطان ومسؤولة الشؤون الإدارية وترتيب شؤون الجواري وحريم السلطان.
Sunna Files Free Newsletter - اشترك في جريدتنا المجانية
Stay updated with our latest reports, news, designs, and more by subscribing to our newsletter! Delivered straight to your inbox twice a month, our newsletter keeps you in the loop with the most important updates from our website
وعندما سجن المماليك السلطان الناصر، أصرّت الست مسكة على خدمته من داخل السجن، فسُجنت معه وكانت تصرف من جيبها على مستلزمات السلطان في السجن؛ حتى توفيت في السجن.
استطاعت مسكة أن تكوّن ثروة كبيرة جداً من الأموال والهدايا التي كان السلطان الناصر يقدّمها إليها، لكنها لم تبخل يوماً في مساعدة المحتاجين. ويُقال إنها زيّنت شوارع القاهرة بالكامل وأقامت فيها احتفالات على مدى أسبوع، كما وزعت الأموال على الناس، عندما تعافى السلطان الناصر بعدما مرض لفترة.
وإلى جانب عطائها، كانت الست مسكة تتوسط للناس لدى السلطان في حال لجأوا إليها، وقد امتدّ فضلها إلى أولاد وأحفاد السلطان محمد. وغالباً ما كانت تهتم بحلّ بعض المسائل من دون الرجوع إلى السلطان، تم تدّعي أنه هو من حلّها، حتى يدعو إليه السائل.
ومن هنا لُقّبت بـ”القرشانة”؛ والقرشانة في اللغة تأتي من قرّش الشيء أي جَمَع بينه، ولكنه صار يطلق خطأً على المرأة سليطة اللسان أو صعبة المراس، إلا أن الست مسكة لُقّبت به؛ لأنها كانت توفق وتجمع بين الناس والسلطان.
كيف أسهمت الست مسكة في بناء حي السيدة زينب؟
كوّنت مسكة ثروة هائلة من السلطان، فاستخدمتها في أعمال البرّ والخير؛ وعندما طلبت منه أن يهبها أرضاً، قدّم لها الأرض التي تقع بالقرب من مقام السيدة زينب، فاستصلحتها في البداية ثم أمرت بإنشاء المسجد الذي سيحمل اسمها.
يعود تاريخ بناء مسجد الست مسكة إلى العام 1339، وهو يقع في شارع سوق مسكة المتفرع من شارع الناصرية بالسيدة زينب في القاهرة. وهو عبارة عن مساحة مستطيلة يتوسطها صحن مكشوف، يحيط به أربع ظلات، أكبرها وأعمقها ظلة القبلة.
قبل دخولك إلى مسجد الست مسكة، ستقابلك الزخارف الجميلة ولوحة التأسيس، التي كُتب عليها: “أَمَرَت بإنشاء هذا الجامع المبارك الفقيرة إلى الله الحاجة إلى بيت الله الزائرة قبر رسول الله عليه الصلاة والسلام، الستر الرفيع حدق المعروفة بست مسكة الناصرية في 740 هجرياً”.
مع الوقت، تحوّل مسجدها إلى مساحة لتدريس العلوم الفقهية على المذاهب الأربعة، كما يبدو من صحن الجامع. ولأن الناس صاروا يتوافدون إلى المسجد بشكلٍ مستمر، صارت الأرض بحاجة لأن تصبح مأهولة.
وبعد أن جاء الناس إلى المسجد للصلاة والدراسة، بنوا بيوتاً حوله ثم محالّ تجارية وأسواقاً، أشهرها سوق مسكة الذي ما زال قائماً حتى اليوم.
فعمرت المنطقة بين جامعها وجامع السيدة زينب، الذي يبعد سيراً على الأقدام حوالي 20 دقيقة في وقتنا الحالي. وتحولت المنطقة إلى حي السيدة زينب حالياً، نسبة إلى جامع السيدة زينب، أحد أهم وأكثر أحياء القاهرة ازدحاماً.
من ضريحٍ جميل إلى مخزن.. ماذا حدث لقبر مسكة؟
أوصت السيدة مسكة أن تدفن في جامعها إن ماتت؛ وبالفعل توفيت في السجن من شدة إخلاصها للسلطان، ودُفنت -كما طلبت- في الضريح الذي بنته لنفسها في مسجد الست مسكة، وبقيت هناك لسنوات.
لكن منذ حوالي 13 عاماً، وبحسب تحقيقٍ للإعلامي محمود سعد، تمت إزالة الضريح بعدما جاء أحد المتبرعين وأخبر وزارة الأوقاف أنه على استعداد بأن يفرش المسجد بالكامل بالسجاد، شرط إزالة الضريح!
وافقت وزارة الأوقاف وأزالت الضريح، رغم أن الست مسكة لا تزال حتى الآن مدفونة تحت أرضه، وقد تمّ تحويل مكان ضريحها إلى مخزنٍ للجامع.