عالم اليوم خاضع لنظام التفاهة، إن اختياراً أو جبراً، وهذه التفاهة إنما هي بنت “السيولة” التي تحدث عنها عالم الاجتماعي البولندي الكبير “زيمجونت باومان”، باعتباره أهم ناقد معاصر للحداثة الغربية، ألف عنها سلسلة ضخمة تحمل نفس الاسم، ويقصد بعالم السيولة أو الأزمنة السائلة كما سماها، ذاك العالم الذي يتسم بمعالم أهمها:
- تفكك الروابط الاجتماعية وصعود الفردانية المقيتة.
- انفصال السلطة الحاكمة عن السيطرة الفعلية على السياسة التي تحددها توازنات خارج حدود الدولة.
- محنة المعاناة الفردية بعد تشرذم الروابط الاجتماعية.
- المسارات الأفقية والسطحية للحياة الاجتماعية والمهنية من مرحلة لأخرى دون إحداث تراكم رأسي نتيجة الوضع سريع التغير.
هذه المعالم أسهمت في صعود الفردانية المؤثرة على الشخص نفسياً وعقلياً، فصار إنسان اليوم يفكر بصيغة الفرد مزيلاً عنه كل الروابط التي تقيده في جماعة بشرية ومتعلقاتها من القوانين والأعراف… بل إن هناك دعوات ورغبة حقيقية في الغرب تنادي باعتماد هذه الصيغة، أي التفكير بفردانية والفكاك من التجمع المنضبط، كفلسفة في الحياة.
أسس الفيلسوف الأمريكي بول كورتز (1925 – 2012) مجلةً باسم: “center free inquiry” عرف فيها الإنسانية العلمانية بأنها: “أسلوب حياة غير ديني شامل”، ووضح المصطلح أكثر قائلاً: “إن الإنسانية العلمانية هي أسلوب حياة، وهي مجموعة من المبادئ المناسبة لتوجيه حياة إنسانية كاملة. وبصفتها أسلوب حياة علماني، تتضمن الإنسانية العلمانية مبدأ الفردية التنويري، والذي يحتفي بتحرير الفرد من القيود التقليدية التي تفرضها العائلة والكنيسة والدولة؛ مما يعزز قدرة كل فرد على تحديد شروط حياته أو حياتها”. وهذه الدعوة جاءت بعدما اعتقد الفلاسفة في الغرب أن الحياة القائمة أو المتصلة بالدين تم تجاوزها نهائياً.
في حين أن المسارات الأفقية للحياة الاجتماعية تجعل الفرد يدور في فلكه الخاص في محاولة لصنع ذاته وتطويرها بشتى السبل، لكنه يفشل بحكم سرعة الأحداث من حوله التي تحول دون أن يصنع ذاك التراكم الضروري لبناء الذات بناءً سليماً، فيحرق كل المراحل التي كان عليه اجتيازها، وبالتالي يصل ذاتاً مشوهةً منفوخة.
كيف يؤثر هذا العالم في سلطة المثقف؟
إن المثقف تربطه روابط تأثير وتأثر بالمجتمع الذي يعيش فيه، ويمكننا اصطلاح ذلك بـ “المجال التداولي” حسب تعبير الفيلسوف المغربي طه عبد الرحمن، وطبيعي أن أي تغير في طبيعة تكون هذا المجتمع سيؤثر إيجاباً أو سلباً على المثقف، فمع صعود هذه الفردانية بتفكك الروابط الاجتماعية والوعي الجمعي، صارت مهمة المثقف في تشكيل قاعدة اجتماعية توحدها أفكار معينة شبه مستحيلة، كما أن المسارات الأفقية للحياة الاجتماعية تجعل الإنسان يدور في فلكه الخاص ويقاتل من أجل صناعة ذاته، فتكون النتيجة؛ مجتمعاً مفككاً يفكر فيه الفرد بنفسه دون الاهتمام بالقضايا الأساسية المشتركة، وبالتالي يفقد المثقف فرصة تعميم المشروع الفكري الخاص به
أما عامل عجز السلطة الحاكمة عن ضبط الإيقاع الاجتماعي من خلال التحكم في السياسات الفعلية للبلد، بحكم وجود توازنات خارجية تحول دون ذلك، فقد ساهمت فيه العولمة بشكل كبير، من خلال جعل العالم قرية صغيرة، تعمم فيه أفكار شبه موحدة أو متقاربة -على الأقل- في كل الميادين، خصوصاً الحياة والسياسة العامة، مما سيؤدي إلى انسحاب قسري لسلطة الدولة في التحكم والهيمنة، وبالتالي فقدت هي الأخرى فرصة فرض مشروعها وسلطتها على المجتمع.
أمام تراجع كل من المثقف والدولة في علاقتهما بالمجتمع، الأول يمثل جانبه الواعي والثاني يمثل جانبه العملي، برز نوعٌ جديدٌ من القيادة المجتمعية، وهي ما اصطلحنا عليه في المقال بـ “المؤثرين”.
المؤثر بديلاً عن المثقف
في قاموس العرب، المؤثر: اسم فاعل من أثر. ويعني كل تأثير بسطوة الفكر والإقناع على الآخر، وهذه المهمة كانت قاصرة على المثقفين فقط الذين يملكون السطوة الفكرة وأدوات الإقناع قديماً، لكن تغير معناه حسب سياق المجتمع المعاصر.
Sunna Files Free Newsletter - اشترك في جريدتنا المجانية
Stay updated with our latest reports, news, designs, and more by subscribing to our newsletter! Delivered straight to your inbox twice a month, our newsletter keeps you in the loop with the most important updates from our website
إذ إن مجتمع السيولة المعاصر فكك الأبنية الصلبة التي كانت تحتكم إلى قواعد صارمة وبنى فكرية واجتماعية قوية جداً، بحيث كانت معانٍ كالأسرة والآداب العامة والتعاليم الدينية والمدرسة والدولة والقانون وغيرها تكتسي طابعاً شرعياً في تكوين الفرد والمجتمع وضبط سلوكه وفق قواعد واضحة يتم وضعها ورسمها وفق مشروع المجتمع والدولة الأيديولوجي، “النظرة إلى العالم”.
ومع هذا الوضع، حصل التغيير في وظيفة المثقف، باعتباره نتاج البنى الصلبة، وتولى مهمته المؤثر الذي نتج عن عالم السيولة. فلنعقد مقارنة بسيطة بين المثقف والمؤثر -بمعناه المعاصر- ليتضح الخلل الذي يعيشه المجتمع الذي يخضع لهذا النوع من القيادة:
- البيئة التي أنتجت المثقف هي بيئة صلبة تخضع لمفاهيم ومبادئ واضحة ومشروع واضح، بينما البيئة التي ظهر فيها المؤثر تتميز بعدم الاستقرار والسرعة وغبش في المفاهيم والمبادئ والأفكار.
- المثقف تكوينه رصين، معرفياً وفكرياً وأخلاقياً، وبالتالي أفكاره ناضجة يسهم بها في إصلاح المجتمع، بينما تكوين المؤثر مغشوش، لأن تكوينه ضعيف وسطحي إن لم نقل منعدم، وبالتالي لا يملك أفكاراً ولا مشروعاً إصلاحياً للمجتمع، ورأس ماله الشهرة التي اكتسبها من وسائل التواصل الاجتماعي، فقدم فيها نفسه بالعلل التي فيها.
- المثقف يعيش لمجتمعه ويفكر له ويناضل من أجله ويمثل المعاناة التي يتعرضون لها، من موقع المسؤولية المعنوية التي يتحملها في وعي الجماعة، باعتباره كما قال إدوارد سعيد: “اللامنتمي أو الهاوي الذي يعكر صفو الحالة الراهنة” . بينما المؤثر همه الربح، الجري وراء شهوة المال والشهرة في غالب الأحيان، وإن كان مناضلاً لبعض الوقت فإن السلطة تخضعه بسهولة، لأن هاجس المال والشهرة أساسه ومنطلقه وهدفه، ونظراً لأنه ليست لديه ثقافة التضحية من أجل الآخرين؛ المناعة التي تحميه من بطش السلطة.
- رأس مال المثقف أفكاره ورؤيته المتبصرة للواقع والمستقبل، ينشغل همه وجهده بالتداول في الأسئلة الكبرى والتوجهات الرئيسية، ويعيش قلقاً يدفعه إلى التفكير في الحلول وابتكار النماذج، بينما المؤثر رأس ماله التفاهة التي تستهوي متتبعيه وتضمن له المتابعات التي يستدفئ بها طيلة مسيرته ما دام يتناول ما يجذب المشاهدين باستمرار.
- ظهور المثقف كان مُلحاً وضرورياً، وقد انتخبه المجتمع بطريقة غير مباشرة لتمثيلهم، بينما المؤثر ارتبط ظهوره بالمساحة التي فرضتها وسائل الاتصال الحديثة دون رقابة من المجتمع ولا انتخاب، بل وفرت له هذه الوسائل الوصول إلى أكبر عدد ممكن من المتتبعين دون إذنهم ولا استشارتهم.
- القيود التي تفرض على المثقف في علاقته مع سلطة الدولة أكثر بكثير من القيود التي توضع للمؤثر، باعتبار الأول صاحب مشروع يناضل من أجله عكس الثاني.
هذه بعض المعالم التي توضح الفرق الشاسع بين “المثقف” و”المؤثر” لاعتبارات متعددة، تبين في مجملها صلابة المثقف ودوره، في مقابل هشاشة المؤثر ودوره.
بقلم الزميل الطاهر بلقائد