يواصل جيش الاحتلال القصف العشوائي لقطاع غزة لليوم الخامس منذ بدأت عملية “طوفان الأقصى“، فكيف يمثل القصف والحصار جريمة جديدة من “جرائم الحرب” التي ترتكبها إسرائيل بحق الفلسطينيين بمباركة من أمريكا ورئيسها جو بايدن؟
“طوفان الأقصى” هو الاسم الذي أطلقته حركة المقاومة الإسلامية (حماس) على العملية العسكرية الشاملة، التي بدأت فجر السبت 7 أكتوبر/تشرين الأول 2023، رداً على “الجرائم الإسرائيلية المتواصلة بحق الشعب الفلسطيني”. ففي تمام الساعة السادسة صباحاً بالتوقيت المحلي في فلسطين، شنّت “حماس” اجتياحاً فلسطينياً لمستوطنات الغلاف المحاذية لقطاع غزة المحاصر، حيث اقتحم مقاتلون من كتائب عز الدين القسام البلدات المتاخمة للقطاع، في ظل غطاء جوي من آلاف الصواريخ التي أطلقت من غزة باتجاه تل أبيب والقدس ومدن الجنوب.
ووسط حالة الذعر والصدمة التي انتابت الإسرائيليين، وانتشار مقاطع فيديو وصور لدبابات ومدرعات تابعة لجيش الاحتلال، إما محروقة أو تحت سيطرة المقاومين الفلسطينيين، وأسر العشرات من جنود من جيش الاحتلال والمستوطنين وسيطرة فلسطينية كاملة على مستوطنات، أعلنت دولة الاحتلال أنها “في حالة حرب“، للمرة الأولى منذ حرب أكتوبر/تشرين الأول 1973.
تصريحات غالانت.. “جريمة حرب”
رصد تقرير لموقع The Intercept الأمريكي كيف استخدم وزير الدفاع الإسرائيلي يوآف غالانت لغة الإبادة وأمر بارتكاب جرائم حرب جماعية في قطاع غزة المحاصر، يوم الإثنين التاسع من أكتوبر/تشرين الأول، وذلك رداً على “طوفان الأقصى”، ومهد غالانت بذلك الطريق أمام تصعيد واسع النطاق للعنف الذي تمارسه إسرائيل بحق الفلسطينيين بشكل مكثف منذ تولي حكومة بنيامين نتنياهو الحالية المسؤولية.
وقال غالانت إنه أمر بفرض “حصار كامل على قطاع غزة” الذي يقطنه 2.2 مليون فلسطيني نصفهم من الأطفال تقريباً؛ حيث أوضح: “لن تكون هناك كهرباء، أو طعام، أو وقود. سنغلق كل شيء.” ويُمكن القول إن ما أمر به غالانت -العقاب الجماعي لشعب مدني- يرقى إلى اعتباره جريمة حرب بموجب القانون الدولي، وكذلك جريمة محتملة ضد الإنسانية وجريمة إبادة جماعية، وفقاً لما أشار إليه بعض خبراء القانون الدولي.
ويجادل الإسرائيليون المترنحون من هول الصدمة والفشل الذريع، وداعمهم الأبرز الرئيس الأمريكي جو بايدن، بأن هجوم المقاومة على المستوطنات في غلاف غزة وأسر العشرات من المستوطنين ومن جنود الاحتلال، هو استهداف للمدنيين، لتبرير ما يقوم به جيش الاحتلال الآن من جرائم حرب في قطاع غزة.
وتصاعدت جرائم إسرائيل ضد المدنيين خلال الأيام الماضية ولا تزال، حيث تسبب القصف غير المسبوق للقطاع المحاصر في استشهاد أكثر من 950 فلسطينياً وإصابة أكثر من 5 آلاف، أغلبهم نساء وأطفال ومدنيون ارتقوا تحت الأنقاض بفعل أطنان القنابل التي تسقطها طائرات الاحتلال من ارتفاعات شاهقة فوق المباني والأسواق دون تمييز أو تحذير.
وتأتي هذه الجرائم بحق المدنيين بعد أن أفلتت إسرائيل من العقاب على جرائمها المستمرة بحق الفلسطينيين طيلة سنوات. ولا شك أن غياب المساءلة تاريخياً قد أدى إلى ازدهار ثقافة تجاهل القانون الدولي، ما أسفر بشكلٍ مباشر عن أحداث العنف الأخيرة، بحسب ما قاله نشطاء حقوق الإنسان للموقع الأمريكي.
Sunna Files Free Newsletter - اشترك في جريدتنا المجانية
Stay updated with our latest reports, news, designs, and more by subscribing to our newsletter! Delivered straight to your inbox twice a month, our newsletter keeps you in the loop with the most important updates from our website
إذ قال عمر شاكر، مدير منظمة هيومن رايتس ووتش في فلسطين وإسرائيل: “إن تعمُّد قتل المدنيين، وأخذ الرهائن، وإسقاط العقاب الجماعي هي جرائم مشينة لا مبرر لها. وستتواصل الهجمات غير القانونية وعمليات القمع الممنهجة التي سادت المنطقة لعقودٍ مقبلة، طالما أنه ليس هناك أي اعتبار لحقوق الإنسان والمساءلة”.
ففي أعقاب “طوفان الأقصى” السبت؛ شن جيش الاحتلال الإسرائيلي حملة قصف على غزة، حيث دكّت الغارات الإسرائيلية البنايات السكنية، واستهدفت أحد مخيمات اللاجئين المكتظة بالسكان. كما أبلغ العاملون في الإغاثة الإنسانية داخل القطاع أن أعداد الضحايا فاقت قدرة المستشفيات، وأن سيارات الإسعاف تتعرض للاستهداف، علاوةً على احتمالية تنفيذ عملية اجتياح بري للقطاع المحتل خلال الأيام المقبلة.
وكانت وزيرة الصحة الفلسطينية، مي الكيلة، قد اتهمت سلطات الاحتلال بـ”تعمد” قصف المستشفيات وسيارات الإسعاف وقتل وإصابة الطواقم الطبية في قطاع غزة، وذلك في بيان ناشدت من خلاله “المجتمع الدولي التحرك العاجل لِلجم العدوان الإسرائيلي على مراكز العلاج وسيارات وطواقم الإسعاف في قطاع غزة”، وقالت الكيلة إن “الاحتلال يتعمد قصف المشافي وسيارات الإسعاف وقتل وإصابة الطواقم”، مشيرة إلى أن استهداف الطواقم الطبية “يعد خرقاً كبيراً وواضحاً لكافة القوانين والأعراف الدولية”.
وأشار الخبراء إلى أنه حتى ممارسة “تحذير” المدنيين التي كانت تتبعها إسرائيل من قبل ليست كافية، كما أنها تخلت عنها هذه المرة، بحسب التقارير الإعلامية من الأرض داخل القطاع، فالقصف الإسرائيلي “الجنوني” لا يتوقف تقريباً. وكان رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو قد وجه سكان غزة بـ”المغادرة الآن؛ لأننا سنتحرك بقوةٍ في كل مكان”، فإلى أين قد يذهبون، فقطاع غزة من أكثر المناطق اكتظاظاً بالسكان في العالم، ولا يملك سكانه أي مكان آمن يمكنهم الذهاب إليه؛ لأن إسرائيل تفرض حصاراً جوياً وبرياً وبحرياً على المنطقة منذ عام 2007.
إسرائيل وسياسة الإفلات من العقاب
سارع نشطاء حقوق الإنسان إلى وصف تصريحات غالانت بأنها “اعتراف بالنية” في ارتكاب جرائم حرب، مع مطالبة المدعي العام للمحكمة الجنائية الدولية كريم خان بمتابعة الأمر. لكن تعليقات المسؤولين الدوليين على تصريحات غالانت كانت خافتة إلى حد كبير. بينما صرحت إدارة بايدن مراراً بأنها تدعم إسرائيل بعد هجوم يوم السبت، مع إعلان وزير الخارجية أنتوني بلينكن عن “تركيز الولايات المتحدة الثابت على وقف هجمات حماس”، دون الإدلاء بأي تصريحات فورية عن إعلان إسرائيل أنها ستنتقم من المدنيين الفلسطينيين.
حذر نشطاء حقوق الإنسان وخبراء القانون الدولي لوقت طويل من أن الإفلات من العقاب على جرائم الحرب لن يؤدي إلّا إلى المزيد من الجرائم. ففي العام الماضي، ومع شن روسيا لهجومها الشامل ضد أوكرانيا، الذي تصفه موسكو بأنه “عملية عسكرية خاصة” بينما يصفه الغرب بأنه “غزو عدواني غير مبرر”، أشار العديدون إلى أن إفلات روسيا من العقاب على جرائم الحرب المرتكبة في سوريا وغيرها من الأماكن هو السبب، مجادلين بأن غياب المساءلة كان السبب المباشر لارتكاب جرائم مماثلة في أوكرانيا.
وردت المحكمة الجنائية الدولية من جانبها على ما يصفها الغرب بأنها “جرائم روسية” في أوكرانيا بإرسال محققين إلى هناك على الفور، ما أسفر عن توجيه اتهامات تدين القيادة الروسية بالكامل وصولاً إلى الرئيس فلاديمير بوتين العام الجاري.
لكن، على الجانب الآخر، لم تصدر عن المحكمة أي استجابة مماثلة في أعقاب الجرائم الإسرائيلية المرتكبة في غزة، وحتى بعد الحملات العسكرية التي خلفت مئات الضحايا من المدنيين الفلسطينيين أعوام 2018 و2021 و2022.
وأوضح شاكر للموقع الأمريكي: “إذا كنا قد تعلمنا أي شيء من التصعيدات السابقة، فقد تعلمنا أن استمرار الإفلات من العقاب على الانتهاكات الخطيرة يُسفر عن المزيد من القمع والسفك لدماء المدنيين”. فيما دعت منظمة هيومن رايتس ووتش المحكمة الجنائية الدولية إلى “التعجيل بالتحقيق في الجرائم الخطيرة المرتكبة بواسطة جميع الأطراف داخل فلسطين”.
وعلى الرغم من الحديث عن “كلا الطرفين”، إلا أن دعوة غالانت إلى فرض حصار كامل على غزة كشفت عن حجم غياب التوازن الكامل في المشهد. إذ صدم هجوم حماس الإسرائيليين والعالم، ويرقى إلى اعتباره أخطر هجوم على إسرائيل منذ خمسة عقود، لكنه لا يُقارن على الإطلاق بتهديدات غالانت الذي وعد بتجويع مليوني مدني تحت الحصار. وقالت الناقدة الإعلامية سناء سعيد يوم الإثنين: “لهذا السبب لم تكن هذه حرباً بين خصمين متكافئين -ولن تكون كذلك مطلقاً. إذ يمتلك أحد الجانبين قدرة القضاء على مجموعة كاملة من السكان، والتحكم فيما إذا كانوا سيعيشون أم سيموتون”.
لم يكن غالانت الزعيم الإسرائيلي الوحيد الذي تبنى خطاب الإبادة رداً على هجوم حماس. حيث أعلن وزير المالية بتسلئيل سموتريتش أن “الوقت قد حان للتصرف بقسوة”. كما دعا عضو الكنيست آرييل كالنر إلى ارتكاب “نكبةٍ يطغى أثرها على نكبة 48″، في إشارة إلى المذابح وعمليات الطرد التي طالت أكثر من 750 ألف فلسطيني إبان تأسيس دولة الكيان.
جذور الأزمة
يُدين المراقبون عادةً سعي “أي من الطرفين” لاستغلال جرائم الطرف الآخر كذريعةٍ لارتكاب المزيد من الجرائم، إذ قالت سارة لي ويتسون، مديرة منظمة الديمقراطية الآن للعالم العربي: “إن إخفاق أحد الطرفين في الامتثال لقوانين الحرب لا يُعفي الطرف الآخر من الامتثال لقوانين الحرب”.
وأدلت منظمة بتسيلم الحقوقية بتصريحات مشابهة: “لا يمكن لإسرائيل أن تزعم امتلاكها اليد الأخلاقية العليا بكل تأكيد؛ حيث يدعو وزراء الحكومة الإسرائيلية الآن إلى قتل، وتدمير، وتحطيم، وتجويع سكان غزة، متناسين أن هذه هي السياسة الإسرائيلية المعتمدة هناك بالفعل”.
كما دعت منظمات حقوق الإنسان الفلسطينية والدولية الأمم المتحدة إلى علاج الأسباب الكامنة وراء أحداث عطلة نهاية الأسبوع. وكتبت منظمة العفو الدولية في بيانٍ يدعو الجماعات الفلسطينية المسلحة للامتناع عن استهداف المدنيين: “تمتلك إسرائيل سجلاً حافلاً وبشعاً من ارتكاب جرائم الحرب مع الإفلات بفعلتها خلال الحروب السابقة على غزة. ولا بد من التعامل مع السبب الأساسي لدورات العنف المتكررة تلك بشكل عاجل. وسيتطلب ذلك إنفاذ القانون الدولي وإنهاء حصار إسرائيل غير الشرعي المفروض على غزة منذ 16 عاماً، وإنهاء كافة جوانب نظام الفصل العنصري المفروض على جميع الفلسطينيين”.
وأكدت جماعات حقوق الإنسان الفلسطينية على الدعوة نفسها؛ إذ كتبت مؤسسة الحق، ومركز الميزان لحقوق الإنسان، والمركز الفلسطيني لحقوق الإنسان في خطاب مفتوح إلى الأمم المتحدة يوم الإثنين: “يطالب الفلسطينيون المجتمع الدولي منذ عقود باتخاذ خطوات ملموسة وهادفة تتجاوز حدود تصريحات الإدانة من أجل إنهاء هذه الانتهاكات. لكن غياب الإرادة السياسية من جانب المجتمع الدولي لتحميل إسرائيل المسؤولية لا يسفر سوى عن تشجيع إسرائيل على الاستمرار في ارتكاب الجرائم ضد الشعب الفلسطيني ككل”.
الخلاصة هنا هي أنه منذ تولت حكومة نتنياهو الحالية المسؤولية، وهي الحكومة التي توصف بأنها الأكثر تطرفاً على الإطلاق، يتعرض الفلسطينيون في القدس والضفة المحتلتين وقطاع غزة المحاصر إلى ما يصفها مراقبون بأنها حملة “إبادة ممنهجة”، إلا أن بايدن وإدارته يتجاهلون ذلك ويديرون حملة مكثفة وشاقة للتوصل إلى “اتفاق سلام تاريخي بين المملكة العربية السعودية وإسرائيل، لكن هذه الحملة تعرضت لضربة عنيفة من خلال غزو حماس لإسرائيل”، بحسب ما جاء في تقرير لموقع Axios الأمريكي، رغم استخدام مصطلح “غزو” للإشارة إلى طوفان الأقصى، وكأن المقاومة الفلسطينية “تغزو” أرضها المحتلة. وبات واضحاً للجميع أن “المعايير المزدوجة” أصبحت العنوان الرسمي للإعلام الأمريكي والغربي عندما يتعلق الأمر بالصراع بين الفلسطينيين ودولة الاحتلال.