حكاية بدايتها الأصلية تعود إلى نكبة 1948 عندما قسم العالم القوي فلسطين واقتطع جزءا منها لتقام عليه دولة إسرائيل، لكننا سنحاول أن نختصر القصة ونركز على أهم المحطات خصوصاً ما جرى منذ أواخر 2022 وصولاً إلى يوم 7 أكتوبر/ تشرين الأول 2023 وانتهاءاً بتداعيات هذا اليوم التاريخي للمنطقة.
عملية “طوفان الأقصى” التي قامت بها كتائب القسام، الذراع العسكري لحركة المقاومة الإسلامية “حماس” يوم 7 أكتوبر، تشرين الأول 2023، ستؤدي إلى تبعات وتغيير في المنطقة بشكل واضح وكبير، كما يجمع كثير من المحللين.
تبعات هذه العملية غير المسبوقة في تاريخ إسرائيل ستكون له تداعيات، ليس فقط على شكل الصراع بين الفلسطينيين والإسرائيليين، لكنه يمتد إلى الجبهة الداخلية لإسرائيل وصورتها الخارجية من جهة، ويمتد إلى كامل منطقة الشرق الأوسط التي ستتغير فيها بعض قواعد الصراع.
هذا عن التبعات، والتي سنذكرها بالتفصيل في هذا التقرير، لكن ماذا عن البدايات؟ لم تكن عملية طوفان الأقصى وليدة تصاعد الأحداث في القدس الضفة الغربية والانتهاكات الإسرائيلية المستمرة للمسجد الأقصى، ربما تكون هذه الفعال سببت في تسارع حدوث العملية، لكن فكرة “طوفان الأقصى” تعود لما هو أبعد من هذا، إنها تعود للفكرة التي تأسست عليها حركة حماس، التحرر من الاحتلال.
من رحم الانتفاضة الفلسطينية الأولى، وبالتحديد يوم 14 ديسمبر/كانون الأول 1987، وُلدت حركة المقاومة الإسلامية (حماس)، لكنَّ أحداً لم يُلقِ لإعلان تأسيسها كحركة تحرُّر وطني بالاً وقتها. وشاركت الحركة في الانتخابات الفلسطينية وفازت بها، لكن الاحتلال والغرب رفضوا احترام إرادة الشعب الفلسطيني، وفرضوا حصاراً غير إنساني على القطاع. أيقن قادة حماس أنه لا سبيل لتحرير الأرض والوقوف في وجه محتل مغترّ بقوته، ولا يقيم وزناً للاتفاقيات، ولا للقرارات الدولية، إلا باللغة الوحيدة التي يفهمها وهي لغة القوة.
سنوات طويلة وثقيلة مرت على الفلسطينيين المنكوبين بالاحتلال والتواطؤ معه من جميع الأطراف، بنت خلالها المقاومة قدراتها العسكرية، من عمليات طعن ودهس منفردة، إلى تفجيرات محدودة وصواريخ سَخِرت منها أغلب الأطراف في بدايتها، وسمَّاها البعض “صواريخ عبثية”، وصولاً إلى ذلك اليوم المشهود، وهو السابع من أكتوبر/تشرين الأول 2023، حين أطلقت حركةُ المقاومة الوطنية (حماس) عملية “طوفان الأقصى”، التي زلزلت الاحتلالَ بصورةٍ لم تحدث منذ النكبة، ليعلن حالة الحرب للمرة الأولى منذ 50 عاماً!
“طوفان الأقصى” قصة بدايتها الأصلية تعود إلى سنوات عديدة مضت. لذلك سنتتبع هنا متى بدأت قصة هذا الطوفان؟ وإلى أين ستتجه إسرائيل والمنطقة بعده؟
نشأة حركة المقاومة الإسلامية حماس
يمكن القول إن قصة طوفان الأقصى كانت قد بدأت منذ ذلك اليوم الممطر وشديد البرودة، في شهر ديسمبر/كانون الأول 1987، عندما كانت الانتفاضة الفلسطينية الأولى قد اندلعت قبل أسبوع في الأراضي المحتلة، ووقف الشيخ أحمد ياسين صحبة عدد من شيوخ فلسطين، ليعلن عن نشأة حركة المقاومة الإسلامية، التي عُرفت لاحقاً باسم “حماس”.
Sunna Files Free Newsletter - اشترك في جريدتنا المجانية
Stay updated with our latest reports, news, designs, and more by subscribing to our newsletter! Delivered straight to your inbox twice a month, our newsletter keeps you in the loop with the most important updates from our website
تطور المقاومة عسكرياً
على مدار السنوات التالية طوَّرت المقاومة صواريخها لتصبح أكثر قوة، وأبعد مدى، وأكثر تأثيراً، فلم تعُد الصواريخ تقتصر على الوصول إلى البلدات الجنوبية الإسرائيلية، بل وصلت إلى تل أبيب، وبئر السبع، وحيفا. وأصبحت الصواريخ تصل إلى مطارات إسرائيل الرئيسية، وتستطيع منع حركة الملاحة، وبإمكان حماس استخدام صواريخها متى شاءت، ما يدفع إسرائيل إلى إغلاق مدن كاملة، وإجبار سكانها على الفرار إلى الملاجئ، وإيقاف الحياة بشكل كامل.
هذه التبعات الاقتصادية في حد ذاتها تمثل ضغطاً على إسرائيل، لا يمكنها تحمله لفترة طويلة، وكان هذا واضحاً على وجه الخصوص خلال مواجهة مايو/أيار 2021، التي حققت خلالها صواريخ المقاومة نجاحاً غير مسبوق، وأجبرت دولة الاحتلال على القبول بوقف إطلاق النار بعد 11 يوماً من القصف المتبادل، وإن كان غير متوازنٍ بطبيعة الحال.
إذ أصبحت المقاومة تمتلك مجموعة متنوعة من صواريخ أرض- أرض. ويُعتقد أن بعض هذه الصواريخ (إلى جانب أنظمة أخرى مستخدمة مثل صواريخ كورنيت المضادة للدبابات التي استخدمت في السابق)، يقول محللون إنه تم تهريبها عبر الأنفاق من شبه جزيرة سيناء المصرية في أوقات سابقة.
لكن الجانب الأكثر أهمية هو الصواريخ المصنعة محلياً إلى حد بعيد، حيث توجد قدرات تصنيع نشيطة ومتطورة نسبياً، داخل قطاع غزة نفسه. وحالياً تمتلك حماس مخزوناً كبيراً من الصواريخ قصيرة المدى مثل القسام (يبلغ مداه 10 كيلومترات)، والقدس 101 (يبلغ مداه حوالي 16 كيلومتراً)، كما أن لديها نظام صواريخ غراد (ويصل مداه حتى 55 كيلومتراً)، وصاروخ سجيل 55 (ويصل مداه حتى 55 كيلومتراً). ومن المحتمل أن تكون هذه الأنواع تمثل الجزء الأكبر من مخزون حركة حماس، وفيما يتعلق بالمدى الأقصر يمكنها استخدام قذائف الهاون.
لكن بحوزة الحركة أيضاً مجموعة متنوعة من الأنظمة الصاروخية طويلة المدى مثل إم- 75 (يصل مداه حتى 75 كيلومتراً)، والفجر (يصل مداه حتى 100 كيلومتر)، و160- آر (ويصل مداه حتى 120 كيلومتراً)، وبعض صواريخ إم -302 إس، التي يبلغ مداها 200 كيلومتر، لذلك من الواضح أن لدى حماس أسلحة يمكنها استهداف القدس وتل أبيب على حد سواء، وتهديد الشريط الساحلي الذي يضم أكبر كثافة سكانية في إسرائيل والبنية التحتية الحيوية بأكملها. كما كشف أول صاروخ كاتيوشا، وأحدث طائرة استطلاع مسيرة، أن قدرات حماس العسكرية مثل جبل الجليد، ما يظهر منه أقل بكثير مما خفي.
الحكومة الإسرائيلية الأكثر تطرفاً
نأتي هنا إلى واحدة من أبرز اللحظات الفارقة في قصة الوصول إلى “طوفان الأقصى”. عندما شكّل بنيامين نتنياهو الحكومة الحالية في إسرائيل، يوم 27 ديسمبر/كانون الأول 2022، بدأت حكاية الطوفان بشكل واضح. فتلك الحكومة لها جدول أعمال معلن وغير سري، وهو جدول أعمال متسق مع الكثير من تطلعات وطموحات شركاء هذا الائتلاف الحكومي الأيديولوجية، وبصفة خاصة الأحزاب الحريدية وتحالف الصهيونية الدينية والأحزاب الممثلة للمستوطنات غير الشرعية، وجميعها تسعى إلى ترسيخ مبدأ “يهودية الدولة”، على حساب أصحاب الأرض من الفلسطينيين، وذلك في جميع أراضي فلسطين التاريخية.
ورغم الخلافات بين هذه الأحزاب على المناصب الوزارية، وتوزيع الصلاحيات الأمنية والمدنية، فإنها اتفقت فيما بينها على أمر واحد معلن وغير سري أيضاً، ألا وهو قمع الفلسطينيين مع تعزيز الهُوية “اليهودية والقومية” لدولة إسرائيل.
وقبل أن تكمل تلك الحكومة شهرها الأول أزعجت قراراتها وقمعها المستمر للفلسطينيين البيتَ الأبيض نفسه، ونشرت صحيفة The New York Times تقريراً يرصد كيف أن حكومة إسرائيل اليمينية المتطرفة تزيد من خطر التصعيد في الأراضي الفلسطينية المحتلة، في ظل تصاعُد اعتداءات المستوطنين الإسرائيليين في الضفة الغربية المحتلة، ووضع الحكومة الاستيطان في طليعة ملفاتها.
تسبَّب الاعتداء المتكرر على المسجد الأقصى، وسياسة التهجير والقمع في الضفة الغربية المحتلة، وإطلاق يد جنود وشرطة الاحتلال والمستوطنين في التنكيل بالفلسطينيين في اقتراب الأمور من حافة الانفجار حرفياً، وارتفعت فرص اندلاع انتفاضة فلسطينية ثالثة ضد الاحتلال، فسارعت إدارة جو بايدن بإرسال وزير خارجيته أنتوني بلينكن إلى المنطقة لاحتواء الموقف.
طوفان الأقصى لم تحدث من فراغ
جاءت طوفان الأقصى بعد نحو عقدين من تجاهل الولايات المتحدة وزعماء العالم لأكثر من 2 مليون فلسطيني يعيشون في غزة، في ظل كابوس إنساني، حيث تسيطر إسرائيل بشكل كامل على أجواء القطاع وشواطئه وحدوده البرية، بحسب تقرير لموقع Vox الأمريكي، عنوانه “هجوم حماس لم يأتِ من فراغ”. رصد هذا التقرير كيف أن “طوفان الأقصى” لم تكن سوى الخطوة المنطقية الوحيدة في ظل الفشل المستمر للتعامل مع الموقف الخطير الذي وضع فيه الاحتلال الفلسطينيون في الضفة الغربية والقدس المحتلتين وقطاع غزة المحاصر، حيث صعدت الحكومة اليمينة المتطرفة- منذ توليها المسؤولية في تل أبيب- من “الآلام اليومية والوحشية التي يعيش الفلسطينيون في ظلها يومياً بسبب الاحتلال”.
من مأساة بلدة حوارة إلى الاجتياحات القاتلة والمتكررة لمخيمات الضفة الغربية، جنين وغيرها، إلى سياسات الضم والتهجير التي تتبعها الحكومة الإسرائيلية في القدس الشرقية والضفة الغربية المحتلتين، إلى الاعتداءات اليومية والتدنيس المستمر للمسجد الأقصى، بدا كما لو أن جميع الأطراف قد اختارت أن تغض الطرف عن الفلسطينيين، فماذا بيد هؤلاء المحتلين والمحاصرين أن يفعلوا؟
يمكن تلخيص التطورات التي دفعت حماس إلى اختيار هذا التوقيت لبدء طوفان الأقصى في عدد من الأسباب المباشرة:
1- قيام الحكومة اليمينية الأكثر تطرفاً في تاريخ دولة الاحتلال بتصعيد إجراءات الأمر الواقع، والتي استهدفت تجاوز الجانب الفلسطيني والمضي قدماً في إجراءات نهائية، مثل الضم العملي للضفة الغربية المحتلة، والتقسيم الزماني والمكاني للمسجد الأقصى، وفرض السيادة الكاملة على القدس المحتلة كعاصمة موحدة لدولة الاحتلال.
2- كما تشير تقديرات إلى أن الهجوم الفلسطيني المباغت استبق مخططاً إسرائيلياً لتوجيه ضربة قاسية لحركة حماس بعد انتهاء الأعياد اليهودية، حيث عقد نتنياهو اجتماعاً أمنياً قبيل عملية “طوفان الأقصى” بـ7 أيام، لهذا الغرض، بحسب منصة “أسباب“، المختصة بالتحليل الاستراتيجي والسياسي.
وفي وسط هذه الظروف القاتمة وحالكة السواد بالنسبة للفلسطينيين، وفي فجر السابع من أكتوبر/تشرين الأول 2023، بدأت عملية “طوفان الأقصى” العسكرية، حيث اخترق المئات من مقاتلي حركة المقاومة الإسلامية (حماس) السور الحديدي الذي شيدته دولة الاحتلال بطول 40 ميلاً حول القطاع، والذي تكلف المليارات من الدولارات، بحسب ما جاء في تقرير لصحيفة وول ستريت جورنال الأمريكية، رصد تزويد الجدار بأحدث التقنيات الفائقة والرادارات والمستشعرات المصممة لاكتشاف التوغلات الماكرة للفلسطينيين العازمين على تنفيذ هجمات سرية في إسرائيل.
لكن ما حدث يوم السبت، 7 أكتوبر/تشرين الأول، ضرب مثالاً صارخاً على الأساطير التي يسعى جيش الاحتلال الإسرائيلي لإحاطة نفسه بها، والأسطورة هذه المرة متمثلة في تسليط الضوء على القدرات السيبرانية وجمع المعلومات الاستخباراتية والأسلحة المتطورة، وتركيز كل ذلك على منع هجمات المقاومة الفلسطينية المسلحة، حيث جاءت “طوفان الأقصى” لتأخذ إسرائيل على حين غرة، من خلال هجوم بري وجوي وبحري منخفض التقنية نسبياً.
و”طوفان الأقصى” هو الاسم الذي أطلقته “حماس” على العملية العسكرية الشاملة، ففي تمام الساعة السادسة صباحاً بالتوقيت المحلي في فلسطين، شنّت “حماس” اجتياحاً فلسطينياً لمستوطنات الغلاف المحاذية لقطاع غزة المحاصر، حيث اقتحم مقاتلون من كتائب عز الدين القسام البلدات المتاخمة للقطاع، في ظل غطاء جوي من آلاف الصواريخ التي أُطلقت من غزة باتجاه تل أبيب والقدس ومدن الجنوب.
ووسط حالة الذعر والصدمة التي انتابت الإسرائيليين، وانتشار مقاطع فيديو وصور لدبابات ومدرعات تابعة لجيش الاحتلال، إما محروقة أو تحت سيطرة المقاومين الفلسطينيين، وأسْر العشرات من جنود جيش الاحتلال والمستوطنين، وسيطرة فلسطينية كاملة على مستوطنات، أعلنت دولة الاحتلال أنها “في حالة حرب“، للمرة الأولى منذ حرب أكتوبر/تشرين الأول 1973، وهو اعتراف بأن هجوم المقاومة الفلسطينية هو هجوم عسكري.
التضليل ومحاولة تشويه المقاومة
لن نتوقف هنا طويلاً عند المسميات والتوصيفات، ففصائل المقاومة الفلسطينية يسميها المحتل الإسرائيلي وأعوانه وداعموه من الغرب “منظمات إرهابية”، ويتعامل فقط مع السلطة الفلسطينية الموجودة في الضفة الغربية المحتلة. إذ عاشت المنطقة والعالم بأسره، ولا تزال، ساعات وأياماً مليئة بالمشاعر المتناقضة بشكل حاد، بين الصدمة والرعب في نفوس الإسرائيليين المهزومين عسكرياً ونفسياً للمرة الأولى منذ 50 عاماً، وبين الفلسطينيين الذين بدا وكأنهم يتنفسون أخيراً ويصرخون بصوت عالٍ “ما زلنا على قيد الحياة وقادرين على المقاومة”، مهما كانت سطوة الاحتلال وجبروته والدعم الذي يلقاه.
أطلقت إسرائيل المترنحة العنان لحنجرتها بالصراخ طلباً للنجدة من حليفتها الكبرى أمريكا، وأعلنت بكل وضوح، على لسان وزير دفاعها، يوآف غالانت، أن ردها سيكون إبادة جماعية للفلسطينيين في قطاع، غزة “لا ماء لا طعام لا كهرباء”، وانطلقت آلة الإعلام الغربي لتجييش الشعوب الغربية ضد الفلسطينيين من خلال شيطنتهم، وتصوير المقاومة على أنها “إرهاب”!
الرجل الأقوى في العالم يخرج متأثراً حد البكاء ليعلن: “رأيت بأم عيني صوراً لأطفال حُرقوا وقطعت رؤوسهم”، هكذا قال بايدن! “لقد ربطوا أطفالاً رضعاً وحرقوهم وقطعوا رؤوسهم”، هكذا زعم نتنياهو! وتحولت الصحف ووسائل الإعلام الغربية إلى أبواق تنشر تلك الأكاذيب والتضليل دون أدنى قدر من المسؤولية أو الخجل. وانتشرت تلك القصة المقززة عن قتل 40 طفلاً إسرائيلياً وقطع رؤوسهم في أحد مستوطنات غلاف غزة، انتشار النار في الهشيم، ووضعتها صحف بريطانية وشبكات أمريكية، منها CNN وFoxnews، في صدر تغطيتها.. فقد تحدث بها الرئيس الأمريكي نفسه!
انطلقت حملة تضليلية كاملة الأركان، يشارك فيها نتنياهو (يمكن تفهم ذلك بطبيعة الحال)، وبايدن، ورئيس وزراء بريطانيا ريشي سوناك، ومستشار ألمانيا أولاف شولتز وغيرهم، هدفها نزع صفة “الإنسانية” ليس فقط عن فصائل المقاومة الفلسطينية، وأكبرها حماس، ولكن أيضاً عن الفلسطينيين جميعاً، حتى يتم تقديم تبرير مسبق لأي جرائم حرب ترتكبها إسرائيل، وهو ما حدث بالفعل!
ففي زمن التواصل الاجتماعي والإنترنت المنتشر في كل مكان، أصبح التضليل والمعلومات المغلوطة سلاحاً رئيسياً في حشد الرأي العام، وهو ما توظفه إسرائيل المهزومة والفاشلة منذ بدأت عملية “طوفان الأقصى” تبريراً لما ترتكبه في غزة من استهداف متعمّد، حتى للمستشفيات والطواقم الطبية وعربات الإسعاف، التي تنقل المصابين، وهو ما يرقى إلى “جريمة حرب” موثقة بالصوت والصورة.
لكن الإعلام الغربي، في معظمه، يستغل الانحياز المطلق لمنصات التواصل الاجتماعي، وبخاصة فيسبوك وإكس (تويتر سابقاً)، للرواية الإسرائيلية والتضييق التام على الحسابات والمواقع التي تسعى لنقل الجانب الفلسطيني مما يحدث، ويقوم بالترويج للأكاذيب الإسرائيلية التي تصور المقاومة ورجالها على أنهم “وحوش” لا يحترمون المدنيين ويقتلون الأطفال.
على أية حال، الحقيقة لن تختفي مهما حدث! كانت القناة 12 الإسرائيلية قد نشرت مقابلة مع إحدى المستوطنات، روت فيها ما حدث معها ومع طفليها عندما اقتحم 6 من المقاومين منزلها، وكيف أنها احتمت مع طفليها بالملجأ في المنزل، وعندما اقتحمه المقاومون وقالت لهم باللغة الإنجليزية إن معها طفليها، رد عليها أحد شباب المقاومة “لا تقلقي، نحن مسلمون لا نؤذي النساء والأطفال”، وغادروا المنزل دون التعرض لها أو لطفليها.
كيف يمكن تصوّر أن من “يسترون” مستوطنة، ويتمنى أحدهم لو أنه يجيد العبرية كي يطمئنها ويطمئن أطفالها، يمكن أن “يقطعوا رؤوس أطفال؟ وكيف يمكن التغاضي عما يرتكبه جيش الاحتلال والمستوطنين أنفسهم بحق الفلسطينيين المدنيين العزل، أطفالاً ونساءً وكبار سن، نهاراً جهاراً، وأمام عدسات الكاميرات؟ وكيف يمكن التغاضي عن استهداف الصحفيين الذين يقومون بعملهم بالرصاص الحي، وما جريمة اغتيال مراسلة قناة الجزيرة، شيرين أبو عاقلة، برصاص جيش الاحتلال ببعيدة.
لكن إسرائيل المهزومة تريد انتصاراً بأي ثمن، فعلى مدار 5 أيام، ألقت دولة الاحتلال أكثر من 4 آلاف طن من المتفجرات على رؤوس سكان قطاع غزة، ليرتقي أكثر من 1527 شهيداً- حتى مساء الخميس 12 أكتوبر/تشرين الأول- ويصاب أكثر من 10 آلاف، 60% منهم من الأطفال والنساء، في جريمة حرب متكاملة الأركان، بحسب خبراء القانون الدولي، لكن بايدن- زعيم العالم الحر- يتباكى على إسرائيل وما تعانيه!
تداعيات طوفان الأقصى
كما ذكرنا، فإن ما حدث يوم 7 أكتوبر/ تشرين الأول، سيكون له تبعات بغض النظر عن نتيجة الحرب الجارية حالياً على قطاع غزة.
1- نهاية نتنياهو
رغم استغلال إسرائيل للغياب التام لصوت العقل، وأبسط قواعد المنطق، وسيادة قانون الغاب، وشن حملة مسعورة من الدك غير المسبوق لقطاع غزة، بهدف قتل أكبر عدد ممكن من سكانه، البالغ عددهم أكثر من 2.2 مليون نسمة، وإجبارهم على نزوح جماعي تجاه شبه جزيرة سيناء المصرية، فإن تنفيذ الاحتلال لأهدافه الرئيسية من هذا السعار يظل أمراً غير محتمل.
فعملية “طوفان الأقصى” تمثل حدثاً غير مسبوق في تاريخ الصراع العربي الإسرائيلي؛ من حيث قدرة المقاومة الفلسطينية على اختراق “الحدود الآمنة” على امتداد غلاف قطاع غزة المحاصر منذ نحو عقدين من الزمان. كما عكست العملية تطوراً نوعياً تجلّى في عدم قدرة المؤسسة العسكرية والاستخبارية الإسرائيلية على التنبؤ به والاستجابة له.
وإذا كان قادة الاحتلال قد أجلوا خلافاتهم مؤقتاً لضرورة الوحدة أثناء إدارة حالة الحرب، فالأمر الوحيد المؤكد الآن هو أن “طوفان الأقصى” وضعت كلمة النهاية لمستقبل الكثيرين من القادة السياسيين والأمنيين، وعلى رأسهم نتنياهو، أكثر من شغل منصب رئيس الوزراء في إسرائيل، والمتشبث بالمنصب بأي ثمن تفادياً للسجن، إذ يحاكم بتهم مشينة كتلقي الرشوة وخيانة الأمانة واستغلال النفوذ.
2- سقوط أساطير “السلام مقابل السلام”
يوفال شاني، أستاذ القانون الدولي في الجامعة العبرية في القدس، قال لصحيفة نيويورك تايمز الأمريكية: “لقد اهتزَّ الإسرائيليون حتى النخاع. هناك غضب ضد حماس، لكن أيضاً ضد القيادة السياسية والعسكرية التي سمحت بحدوث ذلك، كنت تتوقع من دولة بهذه القوة أن تمنع مثل هذه الأمور، لكن برغم مرور 75 عاماً على إنشاء إسرائيل، فشلت الحكومة في الاضطلاع بمسؤوليتها الرئيسية؛ وهي حماية حياة مواطنيها”.
وبحسب شاني، فإن “الحكومة كانت مهووسة بخطة لا علاقة لها بالأمن القومي. وهناك صلة واضحة بين ذلك والأداء الإسرائيلي السيئ في الأحداث الأخيرة. ولا يبدو الأمر جيداً بالنسبة لنتنياهو”. ورغم أن حرب أكتوبر/تشرين الأول 1973 -أو ما يسميها الإسرائيليون “يوم الغفران”- شكَّلت أيضاً صدمة نفسية عميقة لإسرائيل، فإنها لم تقلب السياسة الداخلية رأساً على عقب على الفور. لكن في غضون أربع سنوات، في عام 1977، هُزِمَت حكومة حزب العمل التي حكمت إسرائيل منذ تأسيسها، واستولت حكومة الليكود اليمينية على السلطة بانتصار ساحق، وبالكاد استطاع حزب العمل التعافي من آثارها خلال العقود الخمسة الماضية.
3- سقوط وهم القضاء على المقاومة
ربما يكون السؤال الأكثر أهمية الآن هو طبيعة الأهداف السياسية والأمنية التي تسعى دولة الاحتلال لتحقيقها من حالة السعار، المدعومة أمريكياً وغربياً. هم يعلنون أن الهدف هو القضاء نهائياً على فصائل المقاومة الفلسطينية، وبخاصة حماس، فما مدى إمكانية تنفيذ هذا الهدف؟
لا يمكن الزعم حالياً بأن لدى قادة الاحتلال تصوراً نهائياً إزاء ما يجب عمله وما يمكن إنجازه لاستعادة الردع والقضاء على التهديد الوجودي، أي أن هذا “النموذج الجديد” مازال قيد التشكل، ولن تكون صورته النهائية وطبيعة معادلاته المقبلة متوقفة فقط على قرار الاحتلال، ولكن أيضاً على قدرة حماس، ومجمل الشعب الفلسطيني على الصمود، وإثبات أنهم غير قابلين للاقتلاع.
وحتى الآن لا يمكن لأحد التنبؤ بكيفية نهاية هذه المواجهة، بما في ذلك حماس نفسها، التي نجحت بصورة مذهلة في مباغتة أجهزة الاستخبارات الأكثر تطوراً في العالم، إذ تقول مجلة فورين بوليسي الأمريكية إنه بعيداً عن تصريحات نتنياهو “النارية”، فمن الناحية العملية يعد هذا الأمر أقل وضوحاً. وتتساءل المجلة: هل إسرائيل في وضع يسمح لها بالقضاء على حماس؟ أم أن حماس أصبحت حتماً عنصراً ثابتاً في السياسة الفلسطينية، ما دام لا يوجد حل دائم للصراع الإسرائيلي الفلسطيني؟
رغم أن نتنياهو قد لا يعترف بذلك فمن المرجح أنه يدرك أن حماس لديها شريان حياة يتمثل في عدد كبير من الأسرى الإسرائيليين، وما داموا في أيدي المقاومة فسوف يتعرض نتنياهو لضغوط للتفاوض في نهاية المطاف على إطلاق سراحهم.
وفي مقابلة مع قناة الجزيرة، قال صالح العاروري، نائب رئيس المكتب السياسي لحماس إن الحركة أسرت عدداً كافياً من الإسرائيليين للمطالبة بالإفراج عن جميع الأسرى والمعتقلين الفلسطينيين لدى الاحتلال: “ما في أيدينا هو إطلاق سراح جميع أسرانا”.
تقول فورين بوليسي إن إنقاذ الأسرى الإسرائيليين يمثل أولويةً بالنسبة لإسرائيل، ولكن هذا ليس سوى واحد من الأسباب العديدة التي تمنع إسرائيل من القيام بتوغل بري شامل للقطاع، حيث تعتقد الأجهزة الأمنية الإسرائيلية أن “استئصال حماس” سوف يتطلب ما هو أكثر من مجرد عملية عسكرية قصيرة الأمد لمرة واحدة، علاوة على أن شن حملة أوسع نطاقاً يشكل مجموعة من التحديات للسلطات الإسرائيلية. ولم يكن من قبيل الصدفة أن تقرر إسرائيل من جانب واحد إخلاء القطاع في عام 2005، بعد عقود من احتلالها له في عام 1967.
لكن أي توغل بري يسعى إلى إضعاف حماس بشكل دائم، لا يتطلب التمكن من الدخول إلى القطاع فحسب، بل البقاء هناك وإعادة احتلال القطاع، فمن دون وجود قوات على الأرض لا يمكن إيقاف حماس، لكن الوجود على الأرض لا يعني فقط إنفاق مبالغ ضخمة من المال- مليارات الدولارات- لتحمل المسؤولية عن الفلسطينيين في مرحلة ما بعد الصراع، بل يعني أيضاً خسارة الكثير من الأرواح على كلا الجانبين، وخاصة الإسرائيليين.
ما قبل طوفان الأقصى ليس كما بعدها
ما قبل طوفان الأقصى ليس كما بعدها، هذه هي الحقيقة الأخرى المؤكدة رغم أن الحرب لا تزال مستعرة، إذ سيكون للعملية العسكرية الأكبر للمقاومة الفلسطينية منذ نشأة إسرائيل ارتدادات عميقة، فالعملية تعد تمرداً مباشراً على الاستراتيجية الأمريكية والإسرائيلية حيال المنطقة، التي كانت تعطي الأولوية في الآونة الأخيرة لتطوير وتعزيز اتفاقات التطبيع مع الاحتلال الإسرائيلي، ودمج الاحتلال في البنية الإقليمية عبر مشاريع اقتصادية وتنموية كبيرة، دون أن يرتبط هذا بالقضية الفلسطينية نفسها.
وقد لا تتخلى دول إقليمية، مثل السعودية، عن مشروع التطبيع في المدى الطويل، لكنّ هذه التطورات من المرجح أن تجمد هذه الجهود في الأجل القصير أو المتوسط.
أما هناك في واشنطن، فتدرك إدارة بايدن خطورة المشهد الراهن، وتعمل منذ اللحظة الأولى على زيادة حجم تدخلها، لضمان التحكم بمسار الأحداث، متبنيةً استراتيجية “منع التصعيد”، والتي تقوم على ردع إيران وحلفائها من التدخل، خشية تحول الحرب الحالية لصراع إقليمي تتورط فيه الولايات المتحدة على حساب أولوياتها المتمثلة في الحرب الأوكرانية والتنافس مع الصين. ومن المؤكد أن دعم الإدارة الأمريكية لإسرائيل سيكون كاملاً، في ظل أن المسألة ستكون مادة انتخابية بين الحزبين الديمقراطي والجمهوري.
تستهدف الخطوات الأمريكية أيضاً تهيئة بيئة إقليمية ودولية مواتية للعمليات العسكرية الإسرائيلية، والتي من المرجح أن تشمل عملية برية واسعة داخل قطاع غزة، لاسترداد معادلة الردع ضد المقاومة الفلسطينية. وبالنظر لانهيار القوات الإسرائيلية في الجنوب، والحاجة لحشد قوات عسكرية من باقي المناطق، فإن القيام بمثل هذا الهجوم الواسع على القطاع يتطلب العمل على ضمان عدم فتح ساحات مواجهة متزامنة أخرى، خاصة في الضفة الغربية المحتلة وأراضي 48، والجبهة الشمالية مع حزب الله؛ لذلك فإن الضغوط الأمريكية على إيران وحزب الله للبقاء خارج المعادلة تمثل ضرورة، كي تتفرغ الآلة العسكرية للاحتلال للانتقام من قطاع غزة.
لكن لا تزال بعض التقديرات إزاء معالجة احتمالات العملية العسكرية البرية الواسعة في قطاع غزة أسيرة للمحاذير السابقة، التي منعت جيش الاحتلال طوال السنوات الماضية من اتخاذ مثل هذه الخطوة، والتي أبرزها حجم الخسائر المتوقعة للاحتلال، وتجنب الجيش التورط في معركة طويلة الأمد داخل القطاع، على حساب الجهوزية القتالية في الجبهة الشمالية والضفة الغربية.
إلا أن هذه التقديرات لا تستوعب بالقدر الكافي طبيعة النموذج الجديد، أمنياً واستراتيجياً، الذي تأسس في السابع من أكتوبر/تشرين الأول، والذي لا يخضع للحسابات السابقة، حين كانت حماس تهديداً أمنياً يمكن احتواؤه، وإدارة الصراع معه، بمزيج من الضغوط والإغراءات المالية والعسكرية المحسوبة.
وفي حين كان التهديد الوجودي لدولة الاحتلال هو النووي الإيراني قبل أي شيء آخر، الآن أظهرت المقاومة الفلسطينية أن الرهان على احتوائها خيار فاشل بقدر ما هو خطير، وانتقلت من التعامل معها كتهديد أمني إلى تهديد وجودي لا يمكن لدولة الاحتلال التعايش معه دون فرض معادلات جديدة. في النموذج السابق كان يُنظر لحماس كطرف غايته الاستمرار في حكم قطاع غزة، أما الآن فقد باتت طرفاً متمسكاً بالرغبة، وإظهار القدرة للمضي قدماً في مشروع التحرير، وهو ما يعني تهديداً وجودياً لم يعد قائماً، دون مبالغة، منذ انتصار الاحتلال في حرب 1948.
تشير عملية “طوفان الأقصى” إلى انهيار المقاربة الاستراتيجية التي عملت عليها دولة الاحتلال حيال القضية الفلسطينية، وهي ترسيخ الأمر الواقع و”إدارة الصراع” مع الفلسطينيين، دون الدفع باتجاه حلول لصالح الفلسطينيين، باعتبار أن التطبيع الإقليمي يُنهي عملياً هذا الصراع، من خلال معادلة نتنياهو “السلام مقابل السلام”.
كانت أغلب التقديرات، في المنطقة وخارجها، تشير إلى أن التطبيع الإقليمي المنفصل عن حل القضية الفلسطينية ربما يجعل دولة الاحتلال أكثر اندماجاً في الشرق الأوسط، لكنها ستكون أقل أمناً، وهو ما أشارت له منصة “أسباب” من قبل، لأن التهديد الحقيقي لم يكن مصدره الدول الإقليمية، ولكنه نابع من داخل المشروع الإسرائيلي القائم على الاحتلال والاستيطان والفصل العنصري ضد ملايين الفلسطينيين، وعملية طوفان الأقصى هي برهان عملي على أن هذا الاستنتاج مازال صحيحاً وفعالاً.