رغم اجتياح إسرائيل البري لشمال غزة، لا يزال الوضع العسكري في القطاع مفتوحاً على جميع الاحتمالات، فلماذا لا تزال المقاومة الفلسطينية قادرة على تسيير المعارك وإجهاض أهداف الاحتلال؟
بدأت إسرائيل اجتياحها البري لقطاع غزة مساء الجمعة 27 أكتوبر/تشرين الأول، في أعقاب حملة قصف جوي بربرية استهدفت البشر والحجر في القطاع المحاصر، وذلك منذ عملية “طوفان الأقصى” في السابع من أكتوبر/تشرين الأول الماضي.
و”طوفان الأقصى” هو الاسم الذي أطلقته حركة المقاومة الإسلامية “حماس” على عمليتها العسكرية الشاملة ضد جيش الاحتلال الذي يفرض حصاراً خانقاً على القطاع منذ 17 عاماً. ففي تمام الساعة السادسة صباحاً بالتوقيت المحلي في فلسطين في ذلك اليوم، شنّت “حماس” اجتياحاً فلسطينياً لمستوطنات الغلاف المحاذية لقطاع غزة المحاصَر؛ حيث اقتحم مقاتلون من كتائب عز الدين القسام البلدات المتاخمة للقطاع، بعد أن اخترقت الجدار الحديدي وسحقت “فرقة غزة” التابعة لجيش الاحتلال، في ظل غطاء جوي من آلاف الصواريخ التي أُطلقت من غزة باتجاه تل أبيب والقدس ومدن الجنوب.
ووسط حالة الذعر والصدمة التي انتابت الإسرائيليين، وانتشار مقاطع فيديو وصور لدبابات ومدرعات تابعة لجيش الاحتلال، إما محروقة أو تحت سيطرة المقاومين الفلسطينيين، وأسْر العشرات من جنود جيش الاحتلال والمستوطنين، وسيطرة فلسطينية كاملة على مستوطنات، أعلنت دولة الاحتلال أنها “في حالة حرب”، للمرة الأولى منذ حرب أكتوبر/تشرين الأول 1973، وهو اعتراف بأن هجوم المقاومة الفلسطينية هو هجوم عسكري.
ماذا حققت إسرائيل في غزة؟
على مدى 40 يوماً، منها ما يقرب من ثلاثة أسابيع من بداية الاجتياح البري، تمكنت خلالها قوات الاحتلال من التوغل داخل شمال قطاع غزة، وصولاً إلى مجمع الشفاء الطبي ومخيم الشاطئ، واقتحمت الدبابات مجمع الشفاء مساء الثلاثاء 14 نوفمبر/تشرين الثاني، وعزلته تماماً عن العالم، ويبدو أن القيادات العسكرية والسياسية في إسرائيل المأزومة والمنفلتة تستعد لعمل “عرض ما” يوحي بتحقيق “الانتصار”.
والسبب هنا هو أن مجمع الشفاء الطبي، وهو أكبر مستشفيات قطاع غزة على الإطلاق، تحوَّل منذ الأيام الأولى للعدوان الإسرائيلي إلى نقطة “البروباغاندا” الرئيسية، حيث زعمت إسرائيل أن حماس تتخذ من المجمع مقراً رئيسياً للقيادة والتحكم، وأن حركة المقاومة الفلسطينية تحتجز الأسرى في أنفاق أسفل الشفاء.
لكن بعد ساعات طويلة من اقتحام الشفاء، خرجت الإذاعة الإسرائيلية بتقارير تفيد بعدم وجود “الأسرى” وأن “التمشيط” لا يزال مستمراً، بينما تفيد جميع الشهادات الواردة من المجمع بعدم وجود أي مظهر من مظاهر المقاومة المسلحة، وإن كان ليس مستبعداً بطبيعة الحال أن تصر إسرائيل على العكس، دون تقديم أدلة موثوقة على مزاعمها.
على أية حال، من وجهة النظر العسكرية البحتة، من المهم محاولة استيضاح صورة ما حققه جيش الاحتلال بالفعل ومدى نجاحه في الاقتراب من تنفيذ هدفه الرئيسي من هذا العدوان الذي ارتكبت وترتكب خلاله أفظع جرائم الحرب بأنواعها على مرأى ومسمع من العالم، وآخرها اقتحام مجمع الشفاء الطبي.
Sunna Files Free Newsletter - اشترك في جريدتنا المجانية
Stay updated with our latest reports, news, designs, and more by subscribing to our newsletter! Delivered straight to your inbox twice a month, our newsletter keeps you in the loop with the most important updates from our website
تهاجم إسرائيل غزة برياً بثلاث فرق مدرعة، تمثل في مجموعها أكثر من نصف قوة جيش الاحتلال الأساسية والاحتياطية، هذا بخلاف سلاح الجو والاستخبارات العسكرية وقوات الأمن الداخلي، وفوق كل ذلك الدعم العسكري الأمريكي، الذي لا يظهر منه في وسائل الإعلام إلا ما يوصف بأنه قمة جبل الجليد.
وعلى الجانب الآخر، تتصدى المقاومة الفلسطينية في القطاع، بأعدادها التي تقل عن 10% من أعداد قوات الاحتلال، وعتادها الذي لا يمكن مقارنته بترسانات الأسلحة الفتاكة التي يمتلكها الاحتلال والتي يتم تجديدها باستمرار من خلال الدعم الأمريكي غير المحدود.
وبالتالي فإنه، بأي مقياس عسكري، كان من المفترض أن تكون القوات الإسرائيلية قد حسمت الحرب وحققت أهدافها خلال أسبوع أو أسبوعين على الأكثر من بداية التحرك البري، لماذا؟ لأن هذا التحرك سبقته حملة قصف مكثفة، من الجو والبحر، أسقطت خلالها إسرائيل أطناناً من المتفجرات بأنواعها، سواء المحرمة دولياً أو غير المحرمة، تعادل أضعاف ما أسقطته قوات التحالف الأمريكي-الغربي على أفغانستان خلال عام كامل، بحسب التقارير الأمريكية والغربية وحتى الإسرائيلية.
وبالتالي فإن التحرك البري الإسرائيلي جاء بعد أن أصبحت ساحة الاجتياح البري ممهدة تماماً من خلال تطبيق نظرية “الأحزمة النارية”، أي الأرض المحروقة بشكل كامل. لكن الآن وقد ما يقرب من ثلاثة أسابيع، يقر أغلب المراقبين والمحللين والخبراء العسكريين الإسرائيليين أنفسهم بأن “هزيمة حماس لا تزال سيناريو يبدو غير وارد من الأساس”.
لماذا لا تزال للمقاومة اليد العليا عسكرياً؟
بعيداً عن غبار المعركة وسفك دماء المدنيين الفلسطينيين المستمر من جانب قوات الاحتلال على مرأى ومسمع من العالم أجمع، لا تزال المقاومة تدير المعركة عسكرياً من موقف الطرف الأقوى، وهذا ليس كلام المقاومة، ولكن ما يراه المحايدون من الخبراء العسكريين الغربيين بل والإسرائيليين أنفسهم.
النقطة الأولى في هذا السياق تتعلق بإطلاق الصواريخ من جانب المقاومة تجاه المستوطنات والمدن الإسرائيلية، وصولاً إلى أبعد من تل أبيب، وذلك رداً على “المجازر الإسرائيلية بحق المدنيين”، بحسب بيانات المقاومة. فإذا كانت القدرات الصاروخية للمقاومة لا تزال قائمة وفعالة، فهذا مؤشر حاسم على أن ما ارتكبه ويرتكبه جيش الاحتلال من جرائم حرب ومجازر بحق المدنيين واستهداف للمستشفيات والمباني السكنية لا يحقق أي إنجاز عسكري على الأرض.
وقد عبَّرت عشرات البيانات الصادرة عن عواصم عربية وغربية عن هذه النقطة تحديداً، وهي أن “استهداف الأطفال من جانب إسرائيل” لا يمكن اعتباره نصراً عسكرياً بأي حال من الأحوال.
أما النقطة الثانية فتتعلق بالخسائر الفادحة التي يتكبدها جيش الاحتلال في القوات والعتاد بصورة يومية، حيث تجاوزت خسائر المدرعات، من دبابات وعربات نقل جنود وجرافات، عدد 150، أي ما يقرب من لواء مدرع كامل، سواء بشكل كلي أو جزئي، وما يعنيه ذلك من خسائر بشرية بطبيعة الحال.
اعترف جيش الاحتلال الإسرائيلي، حتى صباح الأربعاء 15 نوفمبر/تشرين الثاني، بمقتل 49 من قواته البرية، دون أن يحدد عدد المصابين الإجمالي أو طبيعة تلك الإصابات، وتشير التقارير إلى وجود رقابة صارمة من جانب قيادات الاحتلال السياسية والعسكرية على وسائل الإعلام فيما يخص خسائر إسرائيل في اجتياحها البري حفاظاً على ما تبقى من تماسك في الجبهة الداخلية شبه المنهارة منذ السابع من أكتوبر/تشرين الأول.
كما أشارت تقارير غربية متعددة إلى لجوء إسرائيل لاستئجار آلاف من المرتزقة يحاربون إلى جانب قواتها في قطاع غزة، وذلك لتجنب كشف الصورة الكاملة عن خسائر جيش الاحتلال، فمن يقتلون من المرتزقة لا يتم الإعلان عنهم في الإفادات العسكرية اليومية للمتحدثين باسم جيش الاحتلال.
والنقطة اللافتة في هذا السياق هي أن بيانات المقاومة تأتي دائماً موثقة بالصوت والصورة لعمليات الاستهداف التي تقوم بها عناصرها للقوات البرية الإسرائيلية، بينما يتكتم جيش الاحتلال على المسار العسكري لعملياته ويكتفي فقط بترديد عبارات باتت شبه محفوظة بشكل يومي من قبيل “تواصل قواتنا تنفيذ مخططاتها كما هو مرسوم لها وقتلنا المئات من العدو.. وسننتصر”.
هل اقتربت إسرائيل من تدمير حماس؟
هذه الصورة تطرح سؤالاً رئيسياً بطبيعة الحال: إلى أي مدى اقتربت إسرائيل من تحقيق أي من أهدافها المعلنة من هذا العدوان الغاشم واللا إنساني على قطاع غزة؟ دعونا أولاً نسترجع تلك الأهداف كما جاءت في التصريحات المتكررة لنتنياهو ووزير الدفاع يوآف غالانت وغيرهما: “القضاء تماماً على حركة حماس” و”تحرير الأسرى”.
نعم، اجتاحت القوات الإسرائيلية شمال قطاع غزة برياً، لكنها لم تحقق بعد أي أهداف عسكرية ذات مغزى. فالقدرة على إطلاق الصواريخ من جانب المقاومة لا تزال قائمة، والمواجهات المباشرة مع القوات البرية تتسبب في خسائر فادحة للاحتلال، إذ أفادت المقاومة ظهر الأربعاء 15 نوفمبر/تشرين الثاني بأنها “قتلت 9 من جنود العدو ودمرت عدداً من آلياته كلياً أو جزئياً وأن المقاومين يشتبكون مع قوات العدو المتوغلة في شمال القطاع في عدة محاور”.
وقياساً على ما حدث ويحدث خلال الأربعين يوماً من العدوان الإسرائيلي، يمكن القول إن جيش الاحتلال ربما يحتاج إلى شهور طويلة وربما سنوات حتى يقترب من تحقيق أي من أهدافه العسكرية، فهل تمتلك إسرائيل وداعمها الأكبر في البيت الأبيض رفاهية الوقت هذه؟
هناك عدة مؤشرات في سياق محاولة الإجابة عن هذا السؤال:
– مسألة الأسرى: يوجد ضمن الأسرى المحتجزين لدى المقاومة 9 أمريكيين وعاشر يحمل الإقامة الدائمة، بحسب البيت الأبيض. وأصبحت عودة هؤلاء تحديداً تمثل أولوية لدى جو بايدن، الذي يواجه عاماً انتخابياً شرساً ولا يمكنه المخاطرة بأن يُقتل أي من هؤلاء جراء القصف الإسرائيلي، الذي تقول حماس إنه تسبب بالفعل في مقتل العشرات من الأسرى.
– الموقف الداخلي في إسرائيل: تواصل عائلات الأسرى الإسرائيليين والداعمون لهم الضغط على الحكومة الإسرائيلية لوقف العدوان وتنفيذ صفقة تبادل الأسرى مع حماس لعودة ذويهم. وكل يوم، وآخرها مساء الثلاثاء، يتظاهر مئات الإسرائيليين أمام مبنى الكنيست (البرلمان) للمطالبة بإقالة رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو. وقالت صحيفة “يديعوت أحرونوت” العبرية إن المتظاهرين حملوا لافتات تطالب نتنياهو بالاستقالة من منصبه أو عزله.
ورفع المتظاهرون لافتات كُتب عليها عبارات من قبيل “العزل الآن”، و”ارحل”، و”بيبي (نتنياهو) مذنب”، و”استقل”، و”حكومة الفشل هي المسؤولة عن الكارثة”، و”بيبي = مكافأة لحماس”.
– الموقف الدولي: تفقد إسرائيل الدعم على المستوى العالمي كل ساعة يستمر فيها عدوانها الغاشم واستهدافها للمدنيين في غزة، وأصبحت الاحتجاجات المليونية في العواصم الغربية حدثاً شبه يومي، وهذا يمثل بطبيعة الحال ضغطاً على المسؤولين المنتخبين في تلك الدول الداعمة لإسرائيل. وبالتالي فإن استمرار العدوان الإسرائيلي من شأنه أن يسارع من وتيرة تآكل الدعم الغربي لها.
الخلاصة هنا هي أن الآلة العسكرية الإسرائيلية، المدعومة أمريكياً وغربياً بشكل لا محدود، لا تزال فاشلة في تحقيق أي إنجاز عسكري في قطاع غزة، حيث لا تزال المقاومة الفلسطينية تمتلك زمام المبادرة بشكل كامل في الميدان، والصواريخ تسقط في عسقلان وغيرها من المدن الإسرائيلية بينما تتساقط الآليات والجنود من “المسافة صفر” كل ساعة تقريباً. ولا تزال الورقة الأهم في المواجهة “وهم الأسرى” بيد المقاومة.