أنهت إسرائيل الهدنة التي استمرت أسبوعاً، واستأنفت عدوانها على قطاع غزة، صباح الجمعة 1 ديسمبر/ كانون الأول، فمن الرابح ومن الخاسر من هدنة تبادل الأسرى بين الاحتلال والمقاومة؟
كانت الحكومة الأكثر تطرفاً في تاريخ إسرائيل قد أعلنت منذ عملية “طوفان الأقصى”، يوم 7 أكتوبر/تشرين الأول، أن القضاء على حركة المقاومة الإسلامية “حماس” في غزة هو الهدف الرئيسي، واجتاح جيشها القطاع برياً لتنفيذ هذا الهدف.
و”طوفان الأقصى” هو الاسم الذي أطلقته حركة المقاومة الإسلامية “حماس” على عمليتها العسكرية الشاملة ضد جيش الاحتلال الذي يفرض حصاراً خانقاً على القطاع منذ 17 عاماً. ففي تمام الساعة السادسة صباحاً بالتوقيت المحلي في فلسطين في ذلك اليوم، شنّت “حماس” اجتياحاً فلسطينياً لمستوطنات الغلاف المحاذية لقطاع غزة المحاصَر، حيث اقتحم مقاتلون من كتائب عز الدين القسام البلدات المتاخمة للقطاع، بعد أن اخترقوا الجدار الحديدي وسحقوا فرقة غزة التابعة لجيش الاحتلال، في ظل غطاء جوي من آلاف الصواريخ التي أُطلقت من غزة باتجاه تل أبيب والقدس ومدن الجنوب.
ووسط حالة الذعر والصدمة التي انتابت الإسرائيليين، وانتشار مقاطع فيديو وصور لدبابات ومدرعات تابعة لجيش الاحتلال، إما محروقة أو تحت سيطرة المقاومين الفلسطينيين، وأسْر العشرات من جنود جيش الاحتلال والمستوطنين، وسيطرة فلسطينية كاملة على مستوطنات، أعلنت دولة الاحتلال أنها “في حالة حرب“، للمرة الأولى منذ حرب أكتوبر/تشرين الأول 1973، وهو اعتراف بأن هجوم المقاومة الفلسطينية هو هجوم عسكري.
لماذا “وافقت” إسرائيل على الهدنة؟
بعد ما يقرب من 50 يوماً من العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة جواً وبحراً وبراً، فشلت إسرائيل في الاقتراب من تحقيق أي من أهدافها العسكرية رغم اجتياحها البري لشمال القطاع، فلم تحرر الأسرى ولم تدمر حركة حماس أو تدفعها للاستسلام كما تمنت.
لكن الشيء الوحيد الذي “حققته” إسرائيل تمثل في التدمير غير المسبوق لقطاع غزة، والاستهداف الممنهج والمتعمد للمدنيين في القطاع الأكثر اكتظاظاً بالسكان، ليرتقي أكثر من 15 ألف شهيد فلسطيني، الغالبية الساحقة منهم من الأطفال والنساء، كما أصيب عشرات الآلاف وتم تدمير أكثر من 60% من مباني القطاع، وخرجت أكثر من 80% من مستشفيات القطاع من الخدمة بشكل كامل.
ونتج عن هذه الجرائم الإسرائيلية حالة من الغضب العارم على مستوى العالم، ليواجه حلفاؤها بزعامة إدارة الرئيس الأمريكي جو بايدن ضغوطاً داخلية بسبب الدعم المطلق لما يقوم به الاحتلال والانتهاك غير المسبوق للقانون الدولي الإنساني والمعايير الأخلاقية، فبدأ الحليف الأكبر في “المطالبة” بأن تحترم إسرائيل تلك القواعد وألا تستهدف المدنيين.
ويمكن تلخيص الأسباب الرئيسية التي أجبرت إسرائيل على القبول بالدخول في مفاوضات غير مباشرة مع حركة حماس، وهي الجهود التي قادتها قطر ومصر والولايات المتحدة، على النحو التالي:
Sunna Files Free Newsletter - اشترك في جريدتنا المجانية
Stay updated with our latest reports, news, designs, and more by subscribing to our newsletter! Delivered straight to your inbox twice a month, our newsletter keeps you in the loop with the most important updates from our website
– الفشل العسكري: على الرغم من الفارق الضخم في الإمكانيات العسكرية بين جيش الاحتلال، الذي يوصف بأنه “الأقوى والأكثر تطوراً” في الشرق الأوسط، والذي يتلقى دعماً أمريكياً وغربياً لا يتوقف، وبين المقاومة الفلسطينية في قطاع غزة المحاصر بشكل كامل منذ أكثر من 16 عاماً، لم تتمكن إسرائيل من تحقيق أية أهداف عسكرية تذكر خلال نحو 50 يوماً من عدوانها على القطاع.
فالأسرى لم يتم تحريرهم، وحركة حماس لم تستسلم، ولا تزال قياداتها بعيدةً كل البعد عن الاستسلام على الأرجح، بحسب تقرير لصحيفة Haaretz الإسرائيلية، قال فيه مايكل ميلشتاين من جامعة تل أبيب ومركز هرتسليا: “يجب ألا نخدع أنفسنا.. ليست حركة حماس قريبةً من الانهيار بعد”.
ومع مرور الوقت بدأ العدوان الإسرائيلي، على شراسته واستهدافه المستمر للمدنيين في القطاع، يبدو كأنه مجرد عقبةٍ أخرى يُمكن اجتيازها على طريق المقاومة الفلسطينية للاحتلال.
والعنصر الآخر هنا تمثل في الخسائر البشرية والمادية الضخمة التي تكبدها جيش الاحتلال منذ بدأ توغله البري في قطاع غزة، حيث فقد أكثر من 1200 من عناصره بين قتيل وجريح، بحسب التقارير الإسرائيلية، إضافة إلى أكثر من 350 آلية دمرت بشكل كامل أو جزئي، بحسب بيانات المقاومة، والخسائر الإسرائيلية البشرية هي على الأرجح أعلى بكثير مما يعلنه جيش الاحتلال بشكل رسمي، بحسب أغلب التقارير العبرية والغربية نفسها.
– ملف الأسرى: مع مرور الوقت والفشل في الاقتراب من تحرير الأسرى بالقوة العسكرية، ازدادت الضغوط التي تمارسها عائلات الأسرى على الحكومة الإسرائيلية برئاسة بنيامين نتنياهو. وهناك أسرى يحملون جنسيات مزدوجة ويعتبرون مواطنين أمريكيين وفرنسيين وألماناً وغيرهم، وهو ما مثل مزيداً من الضغوط على إدارات تلك الدول الحليفة لإسرائيل والداعمة لها.
لماذا وافقت حماس على “الهدنة”؟
تكمن الإجابة عن هذا السؤال في الأسباب الكامنة وراء عملية طوفان الأقصى من الأساس، وهي أسباب لا تتعلق فقط بالحصار المفروض على قطاع غزة، بل تتعلق بالأساس بالقضية الفلسطينية ككل، أي إن الهدف استراتيجي وليس مرحلياً أو عملياتياً. فالهدف الرئيسي هنا تمثل في إعادة إحياء قضية فلسطين ومقاومة الاحتلال الإسرائيلي بعد أن نسي العالم أو كاد أن هناك احتلالاً هو الأبشع في التاريخ الحديث، وأن هناك شعباً فلسطينياً يعاني من القتل والتهجير ومحاولات الإبادة التي لا تتوقف.
صحيح أن الدمار الهائل الذي لحق بقطاع غزة والخسائر المروعة في أرواح المدنيين يشكلان ضربة مؤلمة للفلسطينيين، تذكر بنكبة عام 1948، لكن في الوقت نفسه تحطم الوهم المتمثل في إمكانية تنحية القضية الفلسطينية جانباً مع استمرار الفصل العنصري الإسرائيلي. وعادت قضية فلسطين إلى قمة الأجندة العالمية مع إدراك متزايد لضرورة معالجتها، حتى ولو كان ما وقع في السابع من أكتوبر/تشرين الأول قد أدى إلى استقطاب المناقشة حوله، بحسب تحليل نشرته مجلة فورين بوليسي الأمريكية، تحدث عن التحول الاستراتيجي الذي صنعته حركة حماس في السابع من أكتوبر/تشرين الأول، وكيف أنهى الخطط الإسرائيلية للقضاء على القضية الفلسطينية وتجاوزها إقليمياً.
وعلى مستوى عملياتي مرحلي، فإن هدف عملية طوفان الأقصى العسكرية تمثل بشكل أساسي في “تبييض” السجون الإسرائيلية من الأسرى الفلسطينيين، وذلك عبر أسر جنود وضباط إسرائيليين لإجبار الاحتلال على عقد صفقة لتبادل الأسرى. وأدى النجاح غير المسبوق لطوفان الأقصى والانهيار التام لجيش الاحتلال وسوره الحديدي وفرقة غزة إلى مشاركة فصائل أخرى وحتى مدنيين فلسطينيين في الهجوم على مستوطنات غلاف غزة، وأسر عدد كبير من المستوطنين.
وفي هذا الإطار، من الطبيعي أن تقبل حماس بالهدنة مادامت في سياق تبادل الأسرى، وهو ما حدث بالفعل على مدى أيام الهدنة السبعة، والتي بدأت صباح الجمعة 24 نوفمبر/تشرين الثاني، وشهدت تبادلاً يومياً لأسرى إسرائيليين وأسرى فلسطينيين في سجون الاحتلال بنسبة أسير إسرائيلي مقابل 3 أسرى فلسطينيين.
ولا شك هنا في أن المفاوضات التي أدت إلى تلك الهدنة تمثل انتصاراً سياسياً للمقاومة بقيادة حماس، فهي اعتراف بالأمر الواقع الذي عجزت إسرائيل عن تغييره، وهو أن حماس حركة تحرر وطني يستحيل تدميرها أو تجاهلها أو شيطنتها كما أرادت إسرائيل أن تفعل.
ماذا بعد استئناف العدوان على غزة؟
الآن وقد أنهت إسرائيل الهدنة واستأنفت، منذ صباح الجمعة 1 ديسمبر/كانون الأول، عدوانها على قطاع غزة، يصبح السؤال الرئيسي هنا هو: هل هذا الاستئناف للعدوان من جانب الاحتلال مقدمة للتوصل إلى هدنة أخرى تحصل بموجبها إسرائيل على بعض التنازلات من المقاومة؟ أم أنه إصرار إسرائيلي على تحقيق أهدافها بالقوة العسكرية بعد فشلها في الأيام الخمسين الأولى؟
لا أحد يمكنه الجزم بطبيعة الحال بإجابة هذا السؤال، لكن المتاح الآن هو رصد المعطيات المحيطة بهذه الجولة الثانية من العدوان الإسرائيلي، سواء من ناحية الاحتلال أم من ناحية المقاومة أم من ناحية الموقف الإقليمي والدولي.
على الجانب الإسرائيلي، يمثل الوقت سيفاً على رقبة حكومة نتنياهو وقيادات جيش الاحتلال، فإسرائيل لا تمتلك الوقت الذي تريده كي تستمر في عدوانها على غزة لأسابيع أو أشهر، بحسب تقارير عبرية وغربية. فالتململ الأمريكي من هذا العدوان الإسرائيلي الغاشم بدأ يطفو على السطح ويخرج للعلن، ولم يعد مقصوراً على الغرف المغلقة.
فوزير الخارجية الأمريكي أنتوني بلينكن قال للصحفيين، الخميس 30 نوفمبر/تشرين الثاني، إنه أبلغ نتنياهو بأن إسرائيل لا يمكن أن تكرر في جنوب غزة ما حدث في شمال القطاع من خسائر فادحة في أرواح المدنيين ونزوح للسكان.
وقال بلينكن، خلال زيارته الثالثة لإسرائيل منذ السابع من أكتوبر/تشرين الأول: “ناقشنا تفاصيل الخطط الحالية لإسرائيل”، وشدد على أنه من الضروري بالنسبة للولايات المتحدة عدم تكرار ما حدث في الشمال من خسائر فادحة في أرواح المدنيين ونزوح السكان في الجنوب، موضحاً أن الحكومة الإسرائيلية وافقت على ذلك، بحسب رويترز.
لم يعلق بلينكن، وهو في طريقه إلى الإمارات صباح الجمعة، على استئناف إسرائيل عدوانها على غزة، موضحاً أن مفاوضات تمديد الهدنة لا تزال مستمرة، وأعلنت وزارة الخارجية القطرية في بيان أن المفاوضات لا تزال مستمرة مع الإسرائيليين والفلسطينيين “بهدف العودة إلى حالة الهدنة”. وقال البيان إن “استمرار القصف على قطاع غزة في الساعات الأولى بعد انتهاء الهدنة يعقّد جهود الوساطة” .
لكن القصف الإسرائيلي استهدف جميع المناطق في قطاع غزة، شمال ووسط وجنوب القطاع، وتسبب في ساعته الأولى في ارتقاء أكثر من 20 شهيداً مدنياً وإصابة العشرات، وطال القصف مباني سكنية في خان يونس ورفح ومخيم يبنا وغيرها من مناطق ومخيمات القطاع، في مؤشر على أن العدوان الإسرائيلي تم استئنافه بنفس الأسلوب الذي أثار حفيظة واشنطن.
على الجانب الآخر، ردت المقاومة بإطلاق الصواريخ على المستوطنات والمدن الإسرائيلية، كما استهدفت كتائب القسام (الجناح العسكري لحماس) تجمعات لآليات جيش الاحتلال بقذائف الهاون الثقيلة، بحسب بيان للقسام، في مؤشر على أن المقاومة مستعدة لمواصلة تصديها للعدو وإيقاع خسائر ضخمة بقواته البرية بشرياً وفي العتاد.
المؤكد هنا هو أن تمديد وقف إطلاق النار هو الخيار الصحيح لجميع الأطراف، باستثناء حكومة نتنياهو، بحسب تقرير لمجلة Foreign Affairs، التي تقول إنه يتعيّن على إدارة بايدن الآن توضيح الأسباب التي تُثبت أن تمديد وقف إطلاق النار يصب في صالح الشعبين الإسرائيلي والفلسطيني، وكذلك في صالح الولايات المتحدة وشركائها الدوليين.
وأضافت: “لا شك أن تمديد وقف إطلاق النار سيُسهل عودة المزيد من الرهائن الإسرائيليين، ويقلل خطر تعميق الكارثة الإنسانية بين المدنيين في غزة. كما قد يساعد على تهدئة التوترات في الضفة الغربية، وتقليل خطر تصعيد الحرب وجرّ أطراف خارجية إليها”.
الخلاصة هنا هي أن استئناف إسرائيل عدوانها على قطاع غزة قد يكون “مناورة تفاوضية”، هدفها الضغط على حماس للوصول إلى “صيغة ما” يستطيع نتنياهو تسويقها داخلياً على أنها “انتصار”، وقد يكون قفزة إسرائيلية نحو المجهول على أمل “النجاح” فيما فشل فيه جيش الاحتلال قبل الهدنة، وهو ما قد يفتح الأمور على جميع السيناريوهات وأقربها قد يكون التصعيد وجر المنطقة إلى حرب شاملة.