“رمضان جانا” ولكن..
رمضان زمان كان أحلى، وأيامه كانت أفضل، والناس فيه كانوا أرحم، والحياة خلاله كانت أطيب، وكل شيء تغيّر، كل شيء.
تطفو تلك الحالة من النوستالجيا كلما هلَّ هلال الشهر الكريم عبر السنين، فيرى الأجداد والجدّات أن رمضانَ هذه الأيام وهذا الجيل مختلفٌ تماماً عن رمضانهم السحيق الذي اعتادوا. ويعتقد أبناء “جيل زد” أن رمضانَهم البعيد نسبياً مختلفٌ كليّاً عن رمضان جيل التيك-توك والسوشيال ميديا، وكلٌّ يدَّعي وصلاً بـ ليلى، وليلى لا تُقرُّ لهم بذاك.
جديرٌ بالملاحظة أن شعائر الشهر الفضيل كما هي: الصوم والإفطار والسحور والتهجد والقيام والقرآن. والمحظورات أيضاً لم تتغير، منذ عهد النبوة الأولى: لا طعام ولا شراب في نهار الصيام، ولا جدال ولا فسوقاً ولا تعدياً في نهاره وليله، فما الذي تغيَّر تحديداً؟ ولماذا يشعر كل الناس بأن رمضان زمان أحلى، وأن طابع البهجة المسروقة والحنين الغامض صار الطابع الشرقي الغالب حديثاً على رمضان؟ وكيف عزفت العولمة على أوتار تلك الفكرة وأسهمت في ترسيخها؟
نوستالجيا رمضانية.. مَن الذي سرق بهجة رمضان؟
قدَّم الطبيب السويسري “جوهانس هوفر”، أول وصفٍ للنوستالجيا في القرن السابع عشر، على أنها مرض عصبي، يجعل الإنسان منغمساً في فكرة الحنين للوطن والرغبة الملحّة للعودة إليه، بشكل مرضيّ.
كان ذلك حتى القرن التاسع عشر، حين ارتأى للأطباء النفسيين تغيير تلك الفكرة عن النوستالجيا بوصفها مرضاً، وتحويلها إلى شعورٍ إيجابي عاطفي بالحنين إلى الماضي.
ظلَّ هذا التصور قائماً حتى الآن، ومعه تم ربط النوستالجيا بالأماكن والأشخاص والذكريات الطيّبة عنهما، وعن الأصوات والروائح أيضاً. ومن هنا يمكن تفسير ذلك الارتباط بين شهر رمضان والنوستالجيا.
Sunna Files Free Newsletter - اشترك في جريدتنا المجانية
Stay updated with our latest reports, news, designs, and more by subscribing to our newsletter! Delivered straight to your inbox twice a month, our newsletter keeps you in the loop with the most important updates from our website
يشرع أصحاب محلّات الأنتيكات والمعارض في عرض الفوانيس والزينة للبيع، وتبدأ الأغاني القديمة المرتبطة بالشهر الكريم في الانبعاث من المقاهي والبيوت، وتعمُرُ الأسواقَ التمورُ والياميش الرمضانيّ بأنواعه المختلفة، وكل تلك العوامل تهيّج في النفس مشاعرَ جمّةً مختلطة، أولها الفرح، وأقواها الحنين، ولكن لماذا الحنين تحديداً، وليس الفرحة الخالصة غير المشوبةِ بأية منغِّصات؟
يمكن إرجاع ذلك للأجواء الاجتماعية والثقافية التي ترسَّخت عبر السنين بحكم العادة والثقافة العامة. والتي أسهمت في خلق حالةٍ فلكلوريّة مميزة ترتبط بالشهر الكريم، عبر الأزمنة والأماكن المختلفة، ثم ما لبثت ظواهر تلك الحالة بمكوناتها المختلفة أن تغيرت عبر السنين، وطالها ما طال كافة نواحي الحياة من عوامل التعرية الثقافية والاجتماعية والمادية.
والأمثلة على ذلك كثيرة، فالمسحراتيُّ مثلاً كان جزءاً من تلك الثقافة، حتى وقتٍ قريب، خصوصاً في مصر القديمة، منذ عصر الخليفة العثماني المنتصر بالله، يوقظ “عباد الله للسحور”.
ولكن تلك الظاهرة كادت تختفي من المدن الكبيرة التي لا تنام، بأجوائها الصاخبة ولياليها الطويلة. وربما خرجت أجيال جديدة ترى تلك الثقافة جزءاً من ماضٍ سحيقٍ لا منطقَ له، إذ كيف يحتاج المرء لمسحراتي، في عصر الهواتف المحمولة والإنترنت؟!
حالة البساطة الشعبية تلك، إن جازت تسميتها بهذا الاسم، هي التي أوحتْ بشكلٍ لا واعٍ للأجيال الشاهدة عليها، أن شهر رمضان مرتبطٌ ارتباطاً شرطياً بالبيوت المفتوحة على بعضها، والطقوس التي يشترك الصغار في إعدادها بطرق البيوت وجمع أموال الفوانيس والزينة، ويضطلع الكبار بمهمة تعليقها وتوزيعها بين البيوت.
ولكن ثقافة النزوح إلى الكومباوندات والتجمعات السكنية الجديدة جَنت على تلك الروحِِ كما جنت عليها مدودُ الهجرة والاغتراب. وجعلت حالةُ الانقسام والاستقطاب الشديدة، التي صاحبت الواقع السياسي بعد ثورات الربيع العربي، وسادت الشارع المصري بشكل خاص، تلك الروحَ ممزقةً مهلهلةً، سواء بتغييب أُسرٍ كاملة وإطفاء بهجتها، أو بتأليبِ الناس على بعضهم وغلق الأبواب فيما بينهم بدلاً من فتحها.
كما لا يمكن بالطبع إغفال الواقع الاقتصادي، الآخذ في التدهور يوماً بعد يوم، والذي يمثل المادة المطلوبة لإبقاء جذوة تلك الروح حارّةً مشتعلةً.
تحضر النوستالجيا أيضاً في التكوين الثقافي المرئي والمسموع، لأجيالٍ شبّت وشابت على “بكار، والمغامرون الخمسة، وعالم سمسم”، وأجيالٍ أبعد حضرت فوازير “نيللي وشريهان”، وأجيالٍ عاشت وماتت يبدأ عندها الشهر بـ”أهو جه يا ولاد” وينتهي مع “والله لسه بدري يا شهر الصيام”.
العولمة ورمضان.. النوستالجيا كـسبوبّة
إن كان للعولمةِ هدفٌ واحدٌ من وراء نظرياتها وسياستها واقتصادها؛ فهي أن تغير مكوناتِ السلع المتاحة للاستهلاك، ومن ثمَّ تغير أذواق الناس وسلوكياتهم، وهذا التأثير يتبدّى في شهر رمضان بشكل ملحوظ.
ولمّا كانت السلعة الكبرى في سوق رمضان هي العبادات من صومٍ وصلاةٍ وقراءة القرآن وغيرها، أصبحت التسلية هي السلعة الضخمة التي بارت بجانبها كل سلعةٍ سواها، وتقوم تلك التسلية على المسلسلات التلفزيونية الطويلة وبرامج الترفيه والمقالب والفواصل الإعلانية التي تستمر دهراً.
وقد بلغ منتج المسلسلات العربية في الموسم الرمضاني 2022، حسب إحصاءات غير رسمية، حوالي 172 مسلسلاً، تحتاج لمشاهدتها جميعاً حوالي 86 ساعةً في اليوم.
جعلت العولمة النوستالجيا سلعةً غاليةً جداً، واستهلكت تلك العوامل آنفةَ الذكر، في محاولة خلقِ سلعة جديدة، يكون المهربُ إليها إذا ما اشتدّ بالناس الحنين، وأضناهم البحث عن الأجواء القديمة للشهر الكريم.
تم ذلك عن طريق خلقِ أجواء جديدة تماماً، تحلُّ فيها فواصل الإعلانات المغنَّاة بأصواتٍ معروفة وبتكوين تمثيلي جامع لعددٍ من نجوم الفنّ المألوفةُ وجوههم، محلَّ أغاني رمضان القديمة.
وتصبحُ الأجواء الشعبية التي أضاعها الناس ويفتشون عنها في كل مكان موجودةً في أماكن معروفة، لكنها باهظةَ الثمن، وتُسمى بالخيام الرمضانية، لها ديكورات وتكوينات تشبه كثيراً التكوينات القديمة من فوانيس وزينة وصخبٍ وأزياء، وربما استأجروا المسحراتي وعربة فولٍ، ليصبح التكوين أكثر واقعيّة.
ولا بأس من تحوِّل السَّمرِ المسائي حول أكواب الشاي والقطايف على المقاهي والمصاطب وفي صالونات البيوت، إلى “Ramadan Nights”. ولا ضررَ إن تحوَّلَ “السحور” هو هو، بمكوناته المعروفة إلى “Sohoor”، وأن يكون ذلك مبرراً كافياً لأن تبلغ تكلفته ما يعادلُ قوتَ أسرةٍ تعيش على الكفاف، في التكوين الاجتماعي الجديد، لأسبوعٍ كامل.
ولكن تلك الأغاني الجديدة، رغم ما تعزف عليه من أوتار حساسة، هي بالأساس إعلانات مدفوعة لشركات اتصالات عملاقة وكومباوندات سكنيّة، قد يفني المرء عمره ولا يعرف لها طريقاً، ناهيك عن سُكناها، وكلها توسِّع من هوّة النوستالجيا لصالح المادة.
وتلك الـ”Ramadan Nights” إنما تستغل حاجة بعض الناس في خلق أجواء يتوقون إليها، ويمكن التكسّب من ورائها، نظيرَ تسكين ذلك الإحساس بالحنين إلى الشارع، أو بخلقِ شارع جديدٍ في ثقافة جديدة.
وذلك التغيير في مسميات الإفطار والسحور إنما لتبرير الزيادة الباهظة في أسعار الفول والطعمية وشرائح البطاطس والمخلل، مقابل رشّة غير جريئة من النكهة الرمضانية الجديدة عليها.
وليست العولمة وأياديها بهذا الجفاء وتلك الغلظة، بأن يحضروا سلعتهم الجديدة ويذروا السلعة الكبرى مهملةً قليلة، هناك ركن في الإسلام اسمه الزكاة، سيحضرون رهطاً من الفنانين العظام والدعاة الجدد ليحاولوا بكل ما أوتوا من قوة أن ينتزعوا منك تبرّعاً لجهات لا حصر لها، وينسون أن تبرع أحد أولئك الفنانين بأجرة عملٍ فنيٍّ واحد فقط لهذه الجهة أو تلك، يكفيها مؤونة الإعلان سنين عدداً.
يمكن أن نخلص من كل ذلك إلى أن الناس لو أرادوا أن يحفلوا بالشهر نفسه ويعظموا شعائره فإن شعائره باقيةٌ ما بقي الناس واستمر الدين، أما النوستالجيا الرمضانية فهي مجرد حنينٍ فلكلوريّ لموروثات وعادات وثقافات قديمة، ولو أرادوا سبباً للنوستالجيا، فإن زماننا الحالي يمنحهم من الأسباب ألفاً.
مثلاً، يمكن للناس أن يحنّوا لزمنٍ ليس ببعيد، كان جيران لنا لا يبعدون إلا مسيرة خمس ساعات تقريباً، من قلبِ العاصمة العربية الأولى القاهرة، يأتيهم رمضان كما يأتينا، بألوانِ الزينة وأغاني البهجة، ومفرقعات الصغارِ في الشارع.
اليوم ربما تتملكهم النوستالجيا والحنين هم أيضاً، حنين لصوت مفرقعات الأطفال التي لا تهد البيوت فوق أهلها، حنين لأضواء الفوانيس وأعمدة الزينة لا ألسنة اللهب الممطر من فوقهم، حنين لمجرد السكنى في البيوت وفوق الأرض لا تحت أنقاضها، وحنين لجيرانٍ لا يصمّون آذانهم عن جيرانهم حين يطلبون كسرةَ خبزٍ وشربةَ ماء