في قلب الصحراء الجزائرية، حيث يحكم الصمت المطلق والهدوء العميق، تتكشف لوحة طبيعية تحبس الأنفاس، وسط هذه المساحة الهائلة من الرمال التي تصدح تحت الأقدام، يمكن للزائر أن يختبر معرضاً طبيعياً نادراً، حيث نحتت البراكين تشكيلات صخرية تتحدى الخيال بجمالها، مقارنةً بما يشاهد في أرقى معارض النحت المعاصرة.
على امتداد النظر في مدينة سيفار الجزائرية، تبدو السماء الصافية كأنها تلامس أرض الصحراء القاحلة في انسجام تام، مخلفة انطباعاً عميقاً بأن الأرض تضم السماء في حضنها، بينما تتنزل السماء لتمس الأرض بحنان. هذا المشهد، الذي كان يوماً ما موطناً لواحة خضراء زاخرة بالحياة في غابر الأزمان، يقدم شهادةً حيةً على التحولات المذهلة التي يمكن أن تشهدها الطبيعة عبر الآلاف من السنين.
مدينة سيفار الجزائرية وخرافات متنوعة
في قلب صحراء الجزائر تقع مدينة سيفار الأثرية، ضمن منطقة “طاسيلي ناجر”، أو “هضبة الثور” كما يُطلق عليها في لغة قبائل الطوارق التي سكنت هذه المنطقة منذ آلاف السنين. هذه السلسلة الجبلية، التي ترتفع وسط الرمال الذهبية للصحراء في الجنوب الشرقي للجزائر، تخفي بين ثناياها واحداً من أبرز الكنوز التاريخية: نقوشاً على جدران الكهوف تعود إلى عصور ما قبل التاريخ.
تلك النقوش البدائية ليست مجرد شهادات تاريخية، بل أصبحت محوراً للعديد من الشائعات والأساطير التي غذت الخيال الشعبي على مر العصور. صعوبة التنقل بين الدهاليز الضيقة والممرات الوعرة لجبال طاسيلي لم تفعل سوى إضافة المزيد من الغموض حول هذه المنطقة، حتى إن البعض ذهب إلى تصديق نظريات تفيد بأن كائنات فضائية أو حتى الجن هم من خلف هذه النقوش الغامضة.
ومن بين الحكايات المثيرة للفضول تبرز قصة الساحر والشاعر ومتسلق الجبال البريطاني، آليستر كراولي، الذي رُوي أنه زار طاسيلي برفقة مجموعة من أصدقائه لاستكشاف أسرارها العتيقة. وتحكي الأسطورة أن جميع من كان معه اختفوا في أعماق الصحراء، ليعود هو وحده، مضيفاً طبقة أخرى من الإثارة والغموض حول هذا المكان الفريد.
الرسومات والطقوس الدينية الغريبة
بينما تثير الشائعات والتفسيرات السطحية الفضول الشعبي حول نقوش الرجال ذوي الرؤوس المستديرة في كهوف طاسيلي، اعتبر الباحثون هذه الصور إشارات إلى طقوس دينية وروحانية معقدة. هذه الرموز، التي قد تبدو غريبة للعين المعاصرة، تشير في الواقع إلى عقائد إيمانية عميقة للبشر الأوائل الذين استوطنوا سيفار ومنطقة طاسيلي عموماً.
تعكس هذه النقوش فهمًا متقدماً للرمزية الدينية، مشابهاً للتقاليد المصرية القديمة التي تصور الرجال يرتدون أقنعة الحيوانات في طقوس التحنيط، لا سيما قناع ابن آوى المرتبط بأنوبيس، إله الموتى. هذه الممارسات لم تكن تعبيراً حرفياً عن الواقع، بل كانت ترمز إلى مفاهيم روحانية عميقة، مثل إرشاد الأرواح في العالم الآخر.
طقوس الموت والدفن في موقع طاسيلي في مدينة سيفار الجزائرية، كما يكشف البحث، كانت تحمل أهمية بالغة وتُظهر اهتماماً معقداً بالحياة الآخرة. الدراسات التي أجراها الباحثون عن المدافن في المنطقة، بما في ذلك الجثث المدفونة بوضعيات محددة والمقابر المزودة بأثاث جنائزي، تشير إلى وجود عقيدة دينية راسخة وممارسات جنائزية مفصلة.
Sunna Files Free Newsletter - اشترك في جريدتنا المجانية
Stay updated with our latest reports, news, designs, and more by subscribing to our newsletter! Delivered straight to your inbox twice a month, our newsletter keeps you in the loop with the most important updates from our website
مثل هذه الاكتشافات تدعم النظرية التي تقول إن الرسومات في كهوف طاسيلي لم تكن مجرد فنون بصرية، بل كانت تعبيراً عن معتقدات وطقوس دينية معقدة. يُظهر هذا كيف أن فهم الفن الصخري لا يقتصر على تقديره الجمالي فحسب، بل يتطلب أيضاً فهم السياق الثقافي والروحي الذي أنتجه.
بينما قد يجد البعض تفسيرات بسيطة في الخرافات أو الأساطير، يكشف التحليل العلمي والأكاديمي عن طبقات من المعنى والتقاليد تعكس تعقيد الفكر البشري وعمق الروحانية لدى الحضارات القديمة.
في سياق الاستكشافات المستمرة لأسرار مدينة سيفار، لم تقتصر الكشوف على الجوانب الدينية والروحانية وحدها، بل تعدتها لتشمل إسهامات حضارية قديمة في مجال صناعة الأدوات. يشير الأثريون إلى الفترة المعروفة بـ”الأشولينية” خلال العصر الحجري القديم، حيث أبدع الإنسان القديم في تشكيل الأدوات الحجرية بأشكال متنوعة، وكان لسكان سيفار دورهم في هذه الحضارة من خلال إسهاماتهم في تصنيع هذه الأدوات.
تطورت منطقة طاسيلي لتشهد مرحلةً حضارية أخرى يعرفها الأثريون بالحضارة الموستيرية، التي تعتبر من ركائز العصر الحجري القديم الأوسط. هذه المرحلة شهدت تصنيع أدوات من الشظايا الحجرية الناعمة والمشذبة بدقة، على نقيض الأدوات الآشولية الأكثر استدارة أو بيضاوية، واستخدم سكان المنطقة هذه الأدوات في مهام متعددة مثل القطع والخدش. ولم يقتصر انتشار الحضارة الموستيرية على طاسيلي فحسب، بل تعدتها إلى آسيا وأوروبا، وبدرجة أقل في شمال أفريقيا.
بالإضافة إلى ذلك، تؤكد الدراسات على وجود ثقافة العاترية ضمن الحضارات التي أثرت في طاسيلي، وهي تعود للعصر الحجري الوسيط، وتميزت بوجودها في شمال أفريقيا، من موريتانيا إلى مصر. استغل سكان طاسيلي في هذه الفترة مواد مثل الكوارتز والأحجار البركانية لإنتاج أدواتهم، ما يعكس تطورهم التقني والحضاري عبر مختلف العصور.