اعتمد مجلس الأمن الدولي بعد امتناع الولايات المتحدة الأمريكية عن التصويت قراراً هو الأول من نوعه، يدعو إلى وقف إطلاق النار في قطاع غزة “احتراماً لشهر رمضان”، وذلك بعد مرور حوالي 6 أشهر من حرب الإبادة الإسرائيلية ضد القطاع، والتي أدت لاستشهاد أكثر من 32 ألف فلسطيني، وبعيداً عن الغضب والعواطف والتعبئة الشعبوية، فمن الصعب اتخاذ حكم وموقف متفائل أو متشائم حيال فاعلية مشروع القرار المتعلق بغزة، والذي تم تمريره أمس الإثنين.
يمكن القول مبدئياً إن النقطة الإيجابية الوحيدة التي يمكن رؤيتها هي أنه مشروع القرار الأول الذي يتم اعتماده بشأن غزة في مجلس الأمن منذ بدء الإبادة الجماعية الإسرائيلية ضد غزة، والذي يدعو لـ”وقف فوري لإطلاق النار في غزة خلال شهر رمضان قد يُفضي إلى وقف دائم، وإدخال مزيد من المساعدات”.
وأما النقاط السلبية فهي حاضرة أيضاً، وهي أنه عبارة عن مشروع قرار معدل عن مشروع قرار عدلته روسيا وتم رفضه بالفيتو الأمريكي قبيل ساعات من اعتماد الحالي، لأن الروسي كان يدعو إلى “وقف دائم” لإطلاق النار في غزة، وبالتالي لا توجد في الحالي دعوة مباشرة وصريحة لوقف دائم لإطلاق النار في غزة وهذه نقطة ضعف، كما أنه يعطي أولوية للأسرى الإسرائيليين على مأساة الفلسطينيين، وفوق مسألة فك الحصار والسماح بإدخال المساعدات ووقف مجزرة التجويع الإسرائيلية في شمال غزة، إذ يدعو المشروع المعتمد في نصه علانية إلى “الإفراج الفوري وغير المشروط عن جميع الرهائن، وضمان وصول المساعدات الإنسانية لقطاع غزة”، وهاتان النقطتان، الأولى منهما تجعل الامتياز والأفضلية للأسرى الإسرائيليين على حساب دماء الفلسطينيين.
ماذا يعني تبني مجلس الأمن قراراً بوقف إطلاق النار في غزة؟
كما أنه في هذا الخصوص من غير الواقعي دعوة المقاومة الفلسطينية لإفراج غير مشروط عن كل الأسرى الذين لديها، بمن فيهم العسكريون، ما دامت المقاومة لا ترفض صفقة تبادل واتفاقاً شاملاً، بل الاحتلال الإسرائيلي هو من يتعنت و يتملص، وما دام الوقف الدائم للعدوان والمجازر وعدم انسحاب القوات الإسرائيلية من القطاع كله غير متضمن في نص المشروع، ولأن الطلب يعني الاستسلام للاحتلال دون شروط، في حين أن النقطة الثانية المتعلقة بإدخال المساعدات لا تحمل أي آلية تنفيذ أو قوة ردع تلزم إسرائيل بتنفيذها، خاصةً أن جيش الاحتلال يستخدم الحصار والتجويع كأداة للضغط على المقاومة من جهة، وكسلاح ضغط قد يفضي إلى تهجير الفلسطينيين وإعادة احتلال قطاع غزة وربما استيطانه لاحقاً، ما يعني أن صيغة المشروع مازالت تخدم إسرائيل، ولا تقارن في مطلبها الخجول نسبياً بحجم المجزرة الإسرائيلية المرتكبة والمتواصلة على الأرض في غزة.
ماذا يعني امتناع أمريكا عن التصويت على قرار مجلس الأمن؟
وفيما يتعلق بالامتناع الأمريكي عن التصويت، وهو الأمر الذي سمح بتمرير المشروع، من الممكن أن يتم فهم ذلك على أن واشنطن تحاول أن تعبر عن انزعاجها من سياسة نتنياهو في إدارة الحرب على غزة، وأنها تهدف لإعادة ضبط استراتيجي للحرب، لإثبات أن واشنطن حاضرة وبقوة، وأنها حرب ضد غزة والفلسطينيين، وبأنه يجب أن تتم مواصلة القتال إسرائيلياً، لكن على الطريقة الأمريكية، وأخذ نصيحتها وتوصياتها من قبل نتنياهو ومجلس حربه، لأن واشنطن الداعم الرئيسي لإسرائيل عسكرياً ودبلوماسياً وسياسياً واقتصادياً.
بالإضافة لذلك تبدو كمحاولة من الإدارة الأمريكية لتخفيف غضب المواطنين الأمريكيين المسلمين منهم خاصةً والمناصرين لفلسطين، بهدف كسب صوتهم الانتخابي خلال الانتخابات الرئاسية القادمة، وكذلك لتخفيف الضرر الكبير الذي تعرضت له صورة إسرائيل ومعها واشنطن عالمياً على مستوى الرأي العام ونظرة كثير من الدول لمستقبل علاقتها بهما في أعقاب حرب الإبادة ومشاهد القتل الجماعي للفلسطينيين الأبرياء في قطاع غزة.
وربما يكون الامتناع الأمريكي مجرد خدعة ظاهرية تستخدمها الإدارة الأمريكية بتفاهم ضمني مع حكومة الاحتلال لكسب مزيد من الوقت، وإيهام العالم بوجود خلاف بينهما حول الحرب على غزة، يفضي هذا المشهد المزيف إلى إتاحة الفرصة لإسرائيل لمواصلة إبادتها بهدف إخضاع الفلسطينيين وكسر صمودهم مع قتل أكبر عدد منهم، مع تقليل الضغط عن واشنطن، وتحقيق الأخيرة مزيداً من التغطية على جرائم الاحتلال أمام المجتمع الدولي، وهذا كله يندرج ضمن التحليلات رغم أنه هو الأقرب للواقع، ولا سيما أن منسق الاتصالات الاستراتيجية لمجلس الأمن القومي الأمريكي جون كيربي أكد أن الامتناع عن التصويت في مجلس الأمن، وعدم استخدام الفيتو ضد المشروع، لا يمثل تحولاً في السياسة الأمريكية تجاه إسرائيل.
Sunna Files Free Newsletter - اشترك في جريدتنا المجانية
Stay updated with our latest reports, news, designs, and more by subscribing to our newsletter! Delivered straight to your inbox twice a month, our newsletter keeps you in the loop with the most important updates from our website
على الجانب الآخر، وفيما يتعلق بروسيا والصين، فإن كانت كل من روسيا والصين كعضويين دائمين في مجلس الأمن الدولي قد رفضتا مشروع قرار سابق عدلته الولايات المتحدة قبل أيام، لأنه وفقاً لتصريحاتهما يمنح امتيازاً وفرصة للإفراج عن الرهائن، ويجعلها القضية المركزية في المشروع، وليس وقف المعاناة والحرب وقتل الأبرياء في غزة.
ولأنه لا يدعو لوقف فوري لإطلاق النار بشكل صريح، لذا رأوا أن المشروع يطلق يد إسرائيل في غزة لمزيد من الإفلات من العقاب مستقبلاً، فإن كان الفيتو لروسيا والصين بني على ذلك الأساس قبل أيام، فما هو الاختلاف الذي وقع في مشروع القرار الحالي، الذي تم اعتماده، سوى بضع كلمات؟! لا سيما أن المشروع المعتمد يذكر قضية الرهائن الإسرائيليين لدى حركة حماس، ويوليها أهميةً خاصةً، كما لا يوجد اختلاف جوهري بين نص المشروعين المعدل أمريكياً والحالي، إن تم اعتبار الوقف (الدائم) للحرب والقتال هو الشيء الجوهري غير المذكور في النصين، وإن اعتبرت مسألة عدم إدانة روسيا والصين لعملية طوفان الأقصى “هجمات 7 أكتوبر” مسألة غير جوهرية بالنسبة للأعضاء الدائمين الذين يدعمون الاحتلال الإسرائيلي، هذا التساؤل أيضاً يقع ضمن الرؤية الناقدة ويصعب اعتباره حكماً على بطلان مشروع القرار وعبثيته، بسبب مراوحته في نفس إطار المشاريع التي تم إفشالها.
وأما الرأي الشعبي والانطباع العام بخصوص كل المنظومة الدولية والمنظمات الأممية ومجلس الأمن لدى معظم المتابعين والمناصرين لفلسطين والقضايا العادلة، ولدى عامة الناس، فهو أن مجلس الأمن بشكل رئيسي فاقد أخلاقياته وأهليته ومكانته ومبررات وجوده كمكان لحفظ التوازن في العالم، منذ زمن بعيد، سواء مرر أعضاؤه مشروع قرار أو أفشله أحدهم بما يسمى حق النقض “الفيتو”، وكله مجرد حبر على ورق لا أكثر، ولا يرقى للتنفيذ وفرضه لإحقاق العدالة الدولية للضحايا، وهو مجرد مكان لتسجيل المواقف لغايات تخص كل دولة دائمة العضوية، أكثر من كونه شيئاً ملزماً للتنفيذ يجدر العمل على إنجازه، خاصةً حين تكون هناك مجزرة تُرتكب ضد شعب أعزل مازالت مستمرة على الهواء مباشرة في فلسطين وما حولها، والأدلة ماثلة بخصوص فلسطين، حيث اعتمد سابقاً مشروع قرار يدعو لإنهاء الاستيطان في الضفة الغربية وشرقي القدس، في ديسمبر/كانون الأول 2016، قبيل انتهاء ولاية الرئيس الأمريكي باراك أوباما، ولكن المشروع لم يتم فرضه حتى اليوم على إسرائيل، بل تضاعف الاستيطان منذ ذلك الحين، وازدادت وتيرته لعدم توفر قوة ردع أو نية دولية حقيقية لإلزام إسرائيل بوقف الاستيطان وإنهاء الاحتلال للأراضي الفلسطينية المحتلة العام 1967.
كما أن مجلس الأمن في المنظور الشعبي العربي ولدى الشعوب ما بعد الاستعمار وشعوب الجنوب هو مكان للاجتماع فقط، وإثبات من هو شرطة الكوكب (الدول الكبرى) أنهم موجودون ومهيمنون، ما يعني أن الفكرة في هذا المجلس لا تقوم على تمرير أو عدم تمرير المشاريع بالضرورة، أو تنفيذ قرار من عدمه، بل تقوم فقط على إثبات الحضور وبأن الهيمنة هي للكبار الدائمين يحيط بهم بعض من الأعضاء غير الدائمين، الذين يتبدلون مع كل دورة وليس لهم دور سوى في تسجيل الحضور وتوزيع الأوراق وتقديم الاقتراحات، تماماً مثل مقترح مشروع القرار غير الحاسم الذي تم اعتماده بشأن غزة، إلا أن موافقتهم من عدمها لا تعني شيئاً.
مجلس الأمن بالمنظور الشعبي إذا هو مكان للاختباء والتحايل والتلاعب والتآمر والمعاتبة السياسية أو التوبيخ المبرح بين الخصوم والأعداء، وحتى بين الحلفاء أو بين الدولة الكبرى وأحد تابعيها الذين تشغلهم بالإنابة عنها، وهو مكان يقصد منه ممارسة لعبة الحفاظ على الكراسي السياسية ومنافرة المواقف والكلمات وضربها ببعضها بعضاً، لمواصلة الاستعمار متعدد الأقطاب والعبودية بحق البشر، وبطريقة عصرية “مودرن” وأكثر لباقة، وبالتالي هو ليس مكاناً للتفاؤل بتمرير مشروع قرار، أو التشاؤم بمنع مرور آخر؛ بل هذا دور يراد منه التأثير على مشاعر البشر المستعبدين والضحايا وسلوكياتهم، ومكان لتبادل الأدوار بين 5 قبائل حاكمة للعالم، تارةً تتفاهم على توزيع الحصص، وتارةً أخرى تتنازع على كيفية تقاسمها، دون أن يلحق النزاع أذى جوهرياً نهائياً بأي منها، لأن جميعها تضمن البقاء على حالها نسبياً مع بقاء الآخرين على حالهم.
وعليه فإن كل ما سبق يشير إلى أن الباب مازال مفتوحاً لمزيد من المد والجزر بين الأعضاء الدائمين في مجلس الأمن بخصوص غزة ومشروع القرار، ويمكن أن يفضي ذلك إما لوقف مؤقت أو دائم لإطلاق النار في قطاع غزة، أو قد لا يفضي إلى أي شيء، وفي كل الأحوال وقبيل اتضاح الرؤية كلياً بخصوص نتائج هذا المشروع فإن المذبحة في غزة مازالت متواصلة، وارتُكبت مجازر إسرائيلية عدة بالتزامن مع التصويت في مجلس الأمن وبعده، استُشهد على إثرها عشرات الفلسطينيين.