المتاهة تتسع، ربما يكون هذا الوصف الأكثر دقة لوصف الوضعية في الشرق الأوسط مع دخول حرب غزة شهرها السابع.
لا تتغير أبداً طبيعة الحرب؛ فهي تخاض لأهداف سياسية. هكذا نظّر الجنرال والمؤرخ الحربي البروسي كارل فون كلاوزفيتز. لكن الأكيد أن خصائص الحرب تتغير تبعاً للتغييرات في الأبعاد الاقتصادية والسياسية كما الاجتماعية، لكن من دون أن ننسى التكنولوجية منها.
كانت الملاحظة الأكثر شهرة لكلاوزفيتز حول طبيعة الصراع نفسه. فالحرب والسياسة متشابكان، إذ يقول: “الحرب في حد ذاتها لا تعلق العلاقات السياسية ولا تحولها إلى شيء مختلف تماماً. العلاقات السياسية تستمر بغض النظر عن الوسائل التي نستخدمها”.
بعبارة أخرى، كان كلاوزفيتز يعتقد أن الحرب هي جزء من سلسلة متصلة تشمل التجارة والدبلوماسية وكل التفاعلات الأخرى التي تقع بين الشعوب والحكومات. وقد تحدت هذه النظرية معتقدات الأجيال الأكبر سناً من الجنود والمنظرين العسكريين الذين كانوا ينظرون إلى الحرب بوصفها “حدثاً يبدأ ثم ينتهي”، وتدفع بالمقاتلين إلى واقع بديل تحكمه مجموعة مختلفة من القواعد. كانت الحرب بالنسبة لكلاوزفيتز ببساطة وسيلة أخرى للحصول على شيء تريده.
كان النصر وفق كلاوزفيتز مسألة إيجاد وتحييد “مركز ثقل” الخصم، ويعني ذلك غالباً هزيمة الجيش المنافس، لكن تلك الطريقة ليست الأكثر فعالية دوماً، حيث يرى أن “العناصر الأخلاقية هي من أكثر العناصر أهمية في الحرب. فهي تشكل الروح التي تتخلل الحرب ككل، وتؤمن ارتباطاً وثيقاً بالإرادة التي تحرك وتقود كتلة تامة من القوة”. وهنا أبان كلاوزفيتز عن كيفية تشكيل أو تحطيم روح منافسك، وكيفية النصر عليه في الحرب. لكن كلاوزفيتز أيضاً سخر من النظرية القائلة بالحرب دون إهراق للدماء، قائلاً: “لا تحدثونا عن قادة يتنصرون دون سفك دماء”. فالحرب صراع أفراد وأنانيات وإرادات.
في تعريفه للحرب يقول: “إننا لن نحاول البدء في تعريف الحرب تعريفاً متحذلقاً وثقيلاً. ولنكتفِ بروح هذه الحرب، أي لنكتفِ بالمبارزة، فالحرب ليست شيئاً مختلفاً عن المبارزة على نطاق واسع. وإذا ما أردنا أن نجمع في مفهوم واحد النزاعات المتعددة التي تتألف الحرب منها، يحسن بأن نفكر في اثنين من المتقاتلين يحاول كل منهما بقوته البدنية إخضاع خصمه لإرادته. إن هدفه الفوري المباشر هو إلقاء خصمه أرضاً ليجعله عاجزاً عن أي مقاومة. فالحرب إذاً، وبهذا الشكل، عمل من أعمال العنف، يستهدف إكراه الخصم على تنفيذ إرادتنا”. فالحرب بهذا المعنى هي صراع الإرادات في المقام الأول.
يرى كلاوزفيتز أن الحرب لا يمكن عقلنتها وحسبتها، فهي لا تتبع قوانين التناسب والتكامل، ولا يمكن بأيّ حالٍ من الأحوال إدراكها بالعقل الحسابي وتحليلها بشكل كامل، إذ يقول في أحد تعريفاته للحرب: “إنّ الحرب كالحِرباء التي تغيّر من لونها كلّ لحظة، وهي تشكّل في عموميتها ثالوثاً يتكون من: أولاً: العنف الخالص، والحقد والعدائية التي يمكن اعتبارها غريزةً عمياء تقود هذا الصراع من أجل البقاء. ثانياً: الاحتمالات المفتوحة والصُّدفة التي تشكّل فاتحةً للإبداع. وثالثاً: الإرادة السياسية التي تحيل إلى مستوى آخر ليس أقلّ تعقيداً من ميدان الحرب الفعليّ”.
Sunna Files Free Newsletter - اشترك في جريدتنا المجانية
Stay updated with our latest reports, news, designs, and more by subscribing to our newsletter! Delivered straight to your inbox twice a month, our newsletter keeps you in the loop with the most important updates from our website
هذا الكلام لا يعني بالطبع عدم الاهتمام بكل محاولات التخطيط الاستراتيجي للحرب أو بناء نظريةٍ صلبة للمجريات وتقديرات لموازين القوة في الحرب، لكنه يوضح أن ميدان الحرب يفضح مشاكل لوجستية كثيرة لا يمكن حسابها، الأحوال الجوية غير مناسبة، عدم الانضباط، التردد والخوف، ضعف التنظيم، الشك، كلها عوامل تجعل الحرب تختلف في الواقع والأرض عن الخطط الموضوعة على الورق، إذ إن الصدفة والاحتكاك يلعبان دوراً كبيراً في الحرب ومساراتها. فالعوامل غير المضمونة والظروف غير المتوقعة تقوم بوسم الحرب بسمتها “النسبية” وتبعدها عن الإطلاقية. وهنا يتضح مدى الأرضية المتحركة للحرب.
خلال سبعينيات القرن العشرين، وفي تعليقه على مسار الحرب الأمريكية ضد فيتنام، كتب أحد أهم مهندسي سياسة أمريكا الخارجية، هنري كيسنجر: “لقد خضنا حرباً عسكرية، خصومنا خاضوا معركة سياسية. سعينا للاستنزاف الجسدي. كان خصومنا يهدفون إلى إنهاكنا نفسياً. وفي هذه العملية فقدنا رؤية أحد المبادئ الأساسية لحرب العصابات: إن حرب العصابات تفوز إذا لم تخسر. والجيش التقليدي يخسر إذا لم ينتصر”.
وهذا يوضح، أن فكرة المقاومة لا تقوم، بالضرورة، على إمكانية هزيمة الاحتلال، وإنما تهدف إلى إجباره على دفع الثمن، وإنهاكه، بحيث يقرر الانسحاب أو بحيث تخور قواه على الأقل كي يكون جاهزاً للضربة القاضية عندما تراكم المقاومة قواها لهذه اللحظة، أو إخضاع الاحتلال للجلوس على طاولة المفاوضات.
يدرك العديد من الاستراتيجيين أن حرب العصابات والقتال في المدن شيء شديد الصعوبة، لذلك ينصح أغلبهم جيوش بلدانهم بتجنب تلك الحروب، لأنها تتطلّب جهداً كبيراً في العدد والعتاد والوقت. في المدينة تتساوى القوى (Force Equalizer)، وتصبح الدبابة لقمة سائغة لسلاح أقل وزناً حتى من قذيفة مدفع هاون. ففي المدينة تصبح الدبابة عمياء. بينما يَلزم لكل مدافع 6 أو أكثر من المهاجمين. والفارق بين المدافع والمهاجم أن الأول يعي المكان والزمان. فالساحة ملعبه، وبيته في الجوار، وملاذه الآمن موجود، وهو منخرط تماماً في المحيط الاجتماعي (Situational Awareness)، وحربه هي مسألة حياة أو موت.
في حرب المدن، كل تدمير يحدثه المهاجم بسبب قوته النارية يصبح عائقاً وحاجزاً أمام دبابته عن التقدم فيما بعد، ويتحول في الوقت نفسه لمتراس للمدافع عند قنصه الدبابة.
رغم ذلك، يجب أن نذكر، أن لكل حرب مدن ظرفاً ووضعاً خاصاً بها، ولا يمكن إسقاط تجربة مدينة على أخرى. لكن الشيء المشترك بينها بجانب الدمار والخسائر البشرية، أنها تعد مصيدة للمهاجم الذي في الأغلب يكون المحتل، بينما تصبح الأرض حينها ميزة وتقاوم مع أهلها حقيقة لا مجازاً، فتلغم وتنصب فيها الكمائن للآليات بكثرة، وتصبح جحيماً للاحتلال مادامت المقاومة مستمرة.
حرب غزة جمعت ومزجت بين كل هذه النظريات والمعطيات، حيث حاصر الاحتلال غزة ظناً منه أنه سيجني بسرعة نصراً يعيد به تشكيل منطقة الشرق الأوسط، ويجعل القضية الفلسطينية مجرد فصل منتهٍ في كتب التاريخ، لكن غزة هي من حاصرته وجعلته لا يستطيع الخروج منها إلا مهزوماً.