هناك معارك في التاريخ إمّا أن تفوز بها فتفوز بالمستقبل لسنين طويلة، وإمّا أن تخسرها فتكون خسارتك شاملة، لن تفقد فقط مستقبلك المأمول، وإنما قد يتدمّر حاضرك أيضاً أمام عينيك، بهذا المنطق دخلت بعض الدول الأوروبية معركةً حاسمة أمام الدولة العثمانيّة الفتيّة؛ معركة فارنا.
بسبب هذه المعركة استطاع العثمانيون تأكيد حضورهم في منطقة البلقان (جنوب شرق أوروبا) لقرون لاحقة، بل وبسببها استطاعوا لاحقاً تحقيق حلمهم القديم بفتح القسطنطينية، الذي تحقّق على يد السلطان محمد الفاتح.
السلطان مراد الثاني.. استعادة هيبة الدولة العثمانية بعد الدمار
لنتحدث عن معركة فارنا وآثارها يجب علينا أولاً الحديث عن السلطان مراد الثاني والظروف السياسية المحيطة به. فقد تفككت الدولة العثمانية بعد غزو تيمورلنك لها عام 1402 وقتل السلطان العثماني بايزيد الأول.
وبعد 10 سنوات من التفكك استطاع محمد الأول توحيد الدولة من جديد، لكنّها كانت قد خسرت الكثير من أراضيها في الأناضول وأيضاً في أوروبا، لهذا كان على مراد الثاني ابن السلطان محمد الأول دورٌ كبير في استعادة هذه الأراضي وضمّها من جديد للدولة العثمانية.
استطاع السلطان مراد الثاني الذي كان يتمتع بلياقةٍ عسكريةٍ وحنكةٍ سياسية كبيرة ضمّ الأراضي التي سُلبت من العثمانيين، وبدأ في التفكير باستكمال مسيرة جدّه بايزيد الأوّل الذي حاصر القسطنطينية وحاول فتحها ولم يستطِع.
ومن هنا بدأ السلطان مراد الثاني معاركه الضارية مع الدول الأوروبيّة، خصوصاً أوروبا الشرقية والوسطى منها. ومن هنا وصلنا إلى معركة فارنا.
الهزائم المتتالية كانت وراء الصلح والسلام
بدأ السلطان مراد الثاني حكمه عام 1421، وبعد 12 عاماً، وتحديداً في عام 1433 اعترف فلاد ملك الأفلاق (أجزاء كبيرة من رومانيا وتقع شمال نهر الدانوب) بسيادة الباب العالي العثماني على بلاده، هرباً من حربٍ مكلفةٍ عليه.
لكنّه ما لبث أن ثار هو وملك الصرب على السلطان مراد فحاربهما وعاد إلى عاصمته آنذاك أدرنة بحوالي 70 ألف أسير، على ما ذكر محمد فريد باشا في كتابه تاريخ الدولة العثمانية العليّة.
Sunna Files Free Newsletter - اشترك في جريدتنا المجانية
Stay updated with our latest reports, news, designs, and more by subscribing to our newsletter! Delivered straight to your inbox twice a month, our newsletter keeps you in the loop with the most important updates from our website
لكنّ ملك الصرب وأبو زوجة السلطان مراد عاد من جديد وثار عليه، فكانت عاقبته وخيمة هذه المرة، وفتح السلطان مراد عاصمته، وهرب هو إلى ملك المجر.
أرسل السلطان مراد جيوشه وحاصر مدينةً مجرية، إلّا أن القائد العام لجيوش المجر واسمه هونياد استطاع هزيمة الجيش العثماني، وعندما علم السلطان مراد بذلك أرسل لهم مدداً بقيادة شهاب الدين باشا، إلّا أنّ هونياد هزمه وأخذه أسيراً.
تحت زهوة انتصاراته، سار هونياد إلى بلاد الصرب، حيث يعسكر السلطان مراد، واستطاع هزيمة السلطان مراد نفسه، وانتصر على الجيش العثماني في عدّة لقاءات أخرى أثناء الانسحاب العثماني. وتحت وطأة هذه الهزيمة رضي السلطان مراد الثاني بتوقيع اتفاقية سلام لمدّة عشر سنوات، على أن يتخلّى عن سيادته الاسمية على بلاد الأفلاق، وأن يتخلى لملك الصرب عن بعض المناطق التي سيطر عليها.
وبهذا انتهت مرحلةٌ هامة من مراحل حكم السلطان مراد. فقد توفي في نفس الوقت ابنه وولي عهده علاء الدين، وشعر السلطان بحزنٍ شديد، ومال إلى العزلة والعبادة، فاعتزل الحكم وأسلمه لابنه الصغير، محمد الثاني، الذي سيلقّب لاحقاً – بعد عشر سنوات فقط – باسم محمد الفاتح بعد فتح القسطنطينية.
كانت معاهدة أدرنة التي رضخ لها السلطان مراد الثاني دليلاً على تضاؤل قوّة العثمانيين في أوروبا، بل لقد رافق بعض القادة المسيحيين الأمل في القضاء على النفوذ العثماني في أوروبا نهائياً. وربما حاول بعض القادة إقناع القائد هونياد بالزحف على أدرنة (عاصمة العثمانيين) قبل الصلح لكنّه رفض ذلك، ويبدو أنّ الظروف العسكرية لم تكن مواتية لمثل هذا التحرك.
نقض العهد وتدمير الجيش الصليبي!
تزعّم البابا الدعوة لحلفٍ أوروبيّ مسيحي للقضاء على النفوذ العثماني في أوروبا، واستطاع مبعوث البابا الكاردينال سيزاريني إقناع ملك المجر فلاديسلاف أنّه يجوز دينياً نقض العهد مع العثمانيين باعتبارهم “كفاراً”. وبالفعل بدأت الجيوش الأوروبية في الانطلاق نحو الأراضي العثمانية.
من الجدير بالذكر أنّ معركة فارنا يشار إليها باعتبارها “حرباً صليبية”، لأنّ البابا هو الذي دعا لها. وقد تكون الجيش الصليبي من جيوش: المجر ومملكة بولونيا ومملكة كرواتيا وليتوانيا وإمارة الأفلاق والبغدان، وقد شاركت فرنسا وبلجيكا مشاركة وجدانيةً فقط مع الحملة، ولم تشارك الدولة البيزنطية خوفاً من أن تهزم فلا يتبقى لها جنود ليدافعوا عما تبقى لها من أراض، أي العاصمة: القسطنطينية.
أمام هذه الأحداث الكبرى، انتفض الوزراء العثمانيون وطلبوا من مراد الثاني العودة للسلطنة لمجابهة هذا الحلف الضخم، فعاد من عزلته من فوره إلى سلطنته وقيادة جيوشه، وزحف إلى مدينة فارنا أو “وارنه” في بلغاريا، والتحم الجيشان.
كانت القيادة الشرفية عند المسيحيين لملك المجر فلاديسلاف، لكنّ القيادة الفعلية للجيش كانت في يد يوحنا هونياد القائد العسكري الذي هزم العثمانيين مراراً. لكنّه لن يحظى بنفس الانتصار في معركة فارنا نوفمبر/تشرين الثاني 1444.
حمي الوطيس في المعركة، وقتل الكاردينال سيزاريني ممثل البابا، كما قتل ملك المجر فلاديسلاف الثالث، وارتبك الجيش الصليبي تماماً، ورغم الصعوبة البالغة، فإنّ السلطان مراد الثاني استطاع الانتصار على هذا الجيش الضخم، لكنّه لم يستطع القضاء على يوحنا هونياد الذي هرب عندما مالت الكفة للعثمانيين.
لاحقاً دخل هونياد في معركة أخرى مع السلطان مراد لكنّه هزم أيضاً، وهي معركة كوسوفو الثانية عام 1448، وبهزيمته وتحت وطأة مشكلاتٍ سياسية داخلية عزل عن حكم المجر التي حكمها بعد وفاة فلاديسلاف في معركة فارنا.
بنهاية معركة فارنا، استطاع العثمانيون استعادة نفوذهم في منطقة البلقان، بل إنّ هذه المعركة التي كسرت الجيش الصليبي، ثمّ هزيمة يوحنا هونياد في معركة كوسوفو الثانية كانت تمهيداً لفتح القسطنطينية عام 1453، بعد انتصار العثمانيين في معركة فارنا بتسع سنواتٍ فقط!