في خضمّ التركيز الإعلامي الإقليمي والعالمي على الاجتياح الصهيوني للأجزاء الشرقية من مدينة رفح، والذي وعلى الرغم من البروباغندا الإسرائيلية التي أحاطت به، والهالة الكبيرة من الحرب النفسية والتهديد والتخويف التي استهدفت سكانه، سواء من النازحين أو السكان الأصليين لم يحقّق أيّ نتائج عملية واضحة حتى الآن، بل على العكس وبالرغم من أن القتال يدور في مناطق شبه فارغة من السكان في الشوكة وأطراف حيّ الجنينة والسلام، إلا أن المقاومة كبّدت الاحتلال خسائر فادحة، وجعلت قواته التي جيء بها من تخوم مدينة غزة، وأعيد تأهيلها لمدة تزيد عن الشهرين، وصوّرها الإعلام الإسرائيلي ولا سيما لواء الناحال بأنها من أفضل الفرق النخبوية في “جيش” العدو تراوح مكانها، من دون أيّ تقدّم يذكر باستثناء السيطرة على معبر رفح البري، والذي تعمّد مقاتلو المقاومة عدم القتال فيه أو في محيطه القريب لعدم السماح للاحتلال بتدميره أو تخريبه، ولا سيما أنه يمثّل الشريان البري الوحيد لقطاع غزة مع العالم الخارجي.
في خضمّ كلّ ذلك بدأ “جيش” الاحتلال هجوماً بدا للبعض بأنه مفاجئ ضدّ حي الزيتون جنوب شرق مدينة غزة، مستخدماً في ذلك قوات كبيرة تبلغ بحسب مصادر في المقاومة ضعفي عدد القوات التي هاجمت الحي قبل شهرين ونصف الشهر تقريباً، والتي تعرّضت في ذلك الحين لخسائر فادحة، واضطرّت بعد أحد عشر يوماً من المواجهات الشرسة للانسحاب منه بعد أن عبّرت عن عجزها وفشلها بنسف وتدمير عشرات المنازل وسط وجنوب الحي، إضافة إلى تخريب البنى التحتية من شوارع وشبكات مياه وكهرباء وغير ذلك.
الهجوم الحالي على حي الزيتون، أكبر أحياء مدينة غزة، وأكثرها سكاناً، يعتبر الرابع خلال الأشهر السبعة الأخيرة، وهو ما يجعل من هذا الحي الجميل والهادئ أكثر المناطق التي تعرّضت للهجمات البرية خلال فترة العدوان على غزة.
ففي تشرين الثاني/نوفمبر من العام الماضي هاجمت دبابات الاحتلال حي الزيتون من جهته الجنوبية الغربية مقبلة من اتجاه حي الصبرة الذي يحدّه من الغرب، ووصلت في حينها إلى منطقة “المصلبة ” وشارع المدارس ومستوصف شهداء الزيتون وسط الحي، حيث تصدّت لها المقاومة على مدار سبعة أيام وأرغمتها على التراجع إلى محيط الشارع رقم “10” حيث منطقة تمركزها الأساسي.
بعد ذلك بأقلّ من شهر، وبعد انتهاء التهدئة التي استمرت لثمانية أيام هاجمت قوات الاحتلال الحي بشكل مفاجئ ومن دون أيّ تمهيد مدفعي أو صاروخي كما العادة، إلا أنها لم تتمركز فيه مثل المرة الأولى، بل استخدمت بعض شوارعه الواسعة للمرور باتجاه حيّ الشجاعية الواقع إلى الشرق من حيّ الزيتون، باستثناء بعض عمليات التدمير لعدد من المنازل والبنايات المرتفعة خشية من استخدام المقاومين لها للقيام بعمليات الرصد على وجه التحديد.
في تلك العملية آثرت المقاومة في حي الزيتون، وضمن تكتيك اعتمدته منذ بداية الحرب في مختلف مناطق القطاع عدم الاشتباك الواسع مع قوات الاحتلال، والاحتفاظ بقدراتها ومقاتليها لمرحلة لاحقة كانت تعتقد أنها آتية لا محالة.
هذه المرحلة والتي أشرنا إليها أعلاه كانت المرة الثالثة التي يهاجم فيها “جيش” الاحتلال حي الزيتون، ولكنها كانت مختلفة عن سابقتيها، سواء من ناحية الحجم، أو الفترة الزمنية التي استغرقتها، والتي بلغت اثني عشر يوماً من القتال الضاري، والمواجهات العنيفة، والتي شهدت تنفيذ المقاومة للعديد من العمليات المركّبة، وتفجيراً للعديد من المباني المفخخة على رؤوس القوات الصهيونية الخاصة، خصوصاً قرب مفترق دولة على المدخل الجنوبي للحيّ، أو في شارع المستوصف أهم شوارع المنطقة في الفترة الأخيرة وأكثرها حيوية، خصوصاً في ظل وجود المركز الصحي الوحيد في منتصفه، وهو الذي يخدم عشرات آلاف المواطنين سواء من سكان الحي أو المناطق المحيطة به.
Sunna Files Free Newsletter - اشترك في جريدتنا المجانية
Stay updated with our latest reports, news, designs, and more by subscribing to our newsletter! Delivered straight to your inbox twice a month, our newsletter keeps you in the loop with the most important updates from our website
إضافة إلى ووجد أربع مدارس حكومية في الشارع نفسه، تأوي آلاف النازحين الذين دُمّرت منازلهم في فترات سابقة.
في ذلك الهجوم دمّر العدو عشرات المنازل كما فعل في الهجوم الأول، إلّا أنّ حجم الدمار كان أوسع وأشمل، ما سبّب معاناة إضافية لسكان الحي والنازحين الذين لجأوا إليه من مناطق أخرى، والذين لم ينتظروا طويلاً حيث قاموا بعمليات ترميم لبعض الشوارع، وأعادوا وصل خطوط المياه والكهرباء التي تعمل من خلال الخلايا الشمسية، وافتتحوا مركزهم الصحي من جديد، وهو الأمر الذي شجّع كلّ سكان الحي على العودة إليه، إلى جانب آلاف آخرين من المناطق المجاورة.
في الشهرين الأخيرين، وبعد توسيع “جيش” العدو لممرّ “نتساريم” الفاصل بين المنطقة الشمالية من القطاع من جهة، والمنطقة الوسطى والجنوبية من جهة أخرى، وهو الذي يقع على الأطراف الجنوبية للحيّ، وإقامة أربعة مواقع عسكرية على امتداده، زادت قوات الاحتلال من استهدافاتها المدفعية للمناطق الجنوبية من حيّ الزيتون، إلى جانب القصف الجوي الذي استهدف العديد من البنايات المرتفعة، ولا سيما في محيط مسجد علي بن أبي طالب جنوب الحي، أو في منطقتي الوسط والغرب.
هذا القصف اليومي، والذي أودى بعشرات الشهداء من المزارعين الذين كانوا يحاولون الوصول إلى أراضيهم، أو من سكان المناطق القريبة من دوّار الكويت ومسجد أرض الرباط، شكّل معاناة لا توصف لسكان الحي، ونغّص عليهم حياتهم التي حاولوا استعادة جزء منها برغم أنف العدو، وقد نجحوا في ذلك بامتياز منقطع النظير، حيث تحوّل حيّهم إلى مقصد لمعظم أهالي مدينة غزة والمنطقة الشمالية أيضاً.
بعد الساعة الثانية عشرة من فجر الخميس الماضي شنّت الطائرات الصهيونية الحربية عمليات قصف عنيفة جداً على وسط الحي، ولا سيما في محيط مسجد حسن البنا، مدمّرة عدة بنايات، ومنذرة أخرى بالإخلاء تمهيداً لقصفها، ما اعتبره أهالي الحي حلقة في سلسلة التصعيد المتواصل الذي يتعرّضون له خلال الفترة الأخيرة، إلا أن ما حدث بعد ذلك بساعتين تقريباً قد حوّل الأوضاع إلى وجهة أخرى، بدت في مرحلتها الأولى دراماتيكية وغير متوقّعة، إذ توغّلت عشرات الدبابات والجرّافات الصهيونية في الأطراف الجنوبية الغربية للحي، مستهدفة محيط عيادة الوكالة، والمدرسة الموجودة إلى جوارها، حيث ترافق ذلك مع قصف مدفعي وجوي متواصل، استهدف كلّ مناطق الحي ما دفع عشرات آلاف المواطنين للنزوح سريعاً رفقة أطفالهم من دون أن يصطحبوا معهم أيّاً من أغراضهم الشخصية، أو الطعام والشراب اللازمين لرحلة الهجرة القسرية المتجددة بفعل عدوان الاحتلال.
حتى كتابة هذا المقال ما زالت العملية العسكرية الصهيونية مستمرة ومتواصلة، ترافقها عمليات قصف جوي ومدفعي لا تتوقّف، أودت حتى الآن بالعديد من الشهداء، ونتج عنها دمار كبير في الشوارع والبيوت، مع توسّع واضح في حجم الاستهدافات الجوية والمدفعية التي وصلت إلى وسط وشمال الحي.
كلّ ذلك يترافق مع عمليات تصدٍّ نوعية لفصائل المقاومة على مختلف محاور القتال، والتي تركّزت في محيط مستوصف الزيتون، وشارع رقم 8 جنوب الحي، إضافة إلى المناطق القريبة من عيادة الوكالة ومسجد بدر ومنطقة الصالات.
ولكن لماذا هذا الإصرار الصهيوني على استهداف حيّ الزيتون؟ ولماذا يحرص “جيش” الاحتلال على إدامة التصعيد تجاهه على خلاف الكثير من المناطق الأخرى؟ وهل يسعى لتحويل الحيّ إلى منطقة فارغة من السكان كما فعل مع المناطق القريبة من الحدود الشرقية من القطاع؟
في اعتقادي وأنا من سكان هذا الحيّ، وقد وُلدت وترعرعت فيه، وقضيت فيه أجمل أيام حياتي، وأحفظ تفاصيله عن ظهر قلب، أنّ هناك عدة أسباب لهذا الاستهداف المتواصل، سنشير إلى بعضها في هذه العجالة ونحن نكتب من أحد مراكز الإيواء القسرية، وربما نشير إلى أخرى لاحقاً عندما تنجلي غمامة هذا العدوان، ونعود من جديد إلى حيّنا الذي نحب برغم أنف العدو وآلة حربه المجرمة.
أولى هذه الأسباب أنّ حي الزيتون يشكّل المساحة الجغرافية الأكبر التي تحاذي الممر العسكري المستحدث جنوب مدينة غزة، والذي بات يُعرف إعلامياً بممر نتساريم، والذي أفردنا له مقالاً خاصاً قبل عدة أيام.
حيث أن هذا الممرّ أو المحور بحسب التعريف العسكري بات المنطقة الوحيدة التي يسيطر عليها “جيش” الاحتلال بشكل كامل ومطلق، ويتحكّم من خلالها بحركة المواطنين من الشمال إلى الجنوب وبالعكس، ويمنع من خلاله أيضاً عودة المواطنين إلى منازلهم في المنطقة الشمالية من القطاع.
وبالتالي فإن “جيش” الاحتلال يريد كما يبدو توسيع دائرة الأمان حول هذا المحور كما فعل خلال الشهر الماضي في اتجاه المنطقة الجنوبية منه، عندما هاجم منطقة المغراقة ومدينتي الزهراء والأمل، وصولاً إلى المخيم الجديد شمال النصيرات.
ثاني الأسباب هو إيقاف الاستهدافات المتواصلة التي تقوم بها المقاومة من الأطراف الجنوبية، والجنوبية الشرقية لهذا الحي ضد قواته المرابطة على هذا المحور، والتي ارتفعت وتيرتها في الأسابيع الأخيرة ولا سيما باستخدام قذائف الهاون من العيار الثقيل، والصواريخ قصيرة المدى من عياري 107، و114 ملم، والتي أوقعت خسائر فادحة في صفوف الجنود الصهاينة والمواقع المقامة هناك، وهو الأمر الذي أدى إلى انسحاب لواء الناحال المرهق والمستنزف، واستبداله بكتيبتين من قوات الاحتياط.
ثالث الأسباب أن هناك اعتقاداً لدى “جيش” الاحتلال وأجهزة استخباراته بأنّ الأجنحة المقاتلة لفصائل المقاومة في حي الزيتون وخصوصاً كتائب القسام وسرايا القدس، ما زالت تحتفظ بمعظم قوتها العسكرية وإمكانياتها القتالية، إضافة إلى المقاتلين الأشدّاء الذين خبرتهم جيداً وذاقت بأسهم خلال شهور الحرب، وفي سنوات الانتفاضات الفلسطينية السابقة وخصوصاً انتفاضة الأقصى في العام 2000، وهي تسعى كما يبدو لضرب هذا الجسم المقاتل والتأثير على إمكانياته وقدراته.
رابع الأسباب أنّ هناك ثأراً قديماً بين “جيش” الاحتلال وهذا الحيّ الصامد والعزيز، إذ إنه في إحدى التوغّلات الصهيونية في العام 2004 قامت المقاومة في حيّ الزيتون بتفجير ناقلة جند من نوع “بوما” كانت تتبع لسلاح الهندسة الصهيوني، حيث تمّ استهدافها في ذلك الوقت بعبوة ناسفة شديدة الانفجار بالقرب من مدخل شارع مسجد الرحمن جنوب الحي، ما أدّى إلى وقوع انفجار هائل بفعل انفجار العبوة إضافة إلى المواد المتفجّرة التي كانت داخل الناقلة، والتي كانت مخصّصة لنسف بعض ورش الحدادة كما قال “جيش” الاحتلال حينها.
وهذا الأمر أدّى إلى مقتل ستة جنود كانوا بداخلها، وتطاير أشلائهم مئات الأمتار، حيث استولت المقاومة في ذلك الوقت على رأس أحد الجنود الذي استخدمته لإجبار “جيش” العدو على الانسحاب من الحيّ بعد مفاوضات غير مباشرة بين حركة الجهاد الإسلامي من جهة، وبين العدو من جهة أخرى شاركت فيها الأمم المتحدة ومصر والسلطة الفلسطينية.
منذ ذلك الحين و”الدولة” العبرية تخصّص لحيّ الزيتون نصيباً وافراً من اعتداءاتها ضدّ عموم الشعب الفلسطيني، ولم تترك فرصة إلا واغتنمتها لرد جزء من هيبتها التي كسرت على تخوم هذا الحي الصلب والعنيد.
ختاماً نقول ونحن نراقب عن قرب كلّ ما يجري داخل أروقة هذا الحيّ الحبيب والعزيز، ونتطلّع بشوق إلى تلك اللحظة التي ستندحر فيها قوات الاحتلال منه، إنّ حيّ الزيتون كما كلّ أحياء غزة الحبيبة سيبقى عصيّاً على الانكسار، صلباً وعنيداً ومقاوماً كما عهدناه على الدوام، وسيعيد أهله الطيبون والكرماء بناء وإصلاح ما خرّبه الاحتلال مهما بلغ حجمه، مؤمنين بأنّ وجودهم فيه هو رسالة صمود وتحدٍ لكلّ أعداء هذا الشعب، مكتوب في مقدمتها إننا ها هنا باقون، برغم القتل والخراب والتدمير، لن نبرح أرضنا، ولن نغادر بيارات البرتقال وحواكير الزيتون، ولن نجعل الاحتلال يهنأ لحظة واحدة في أرضنا.
سنواصل القتال بسلاحنا ولحمنا وعظمنا، حتى يتوقّف العدوان، ويندحر الاحتلال، ويخرج من أرضنا إلى غير رجعة بإذن الله تعالى.