إن الله تبارك وتعالى رضي لعباده التواضع فقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “من تواضع لله رفعه” رواه مسلم بن الحجاج في الصحيح، ولذلك كان خُلق الأنبياء التواضع لله تعالى بالتخلق بالتواضع مع المؤمنين. وروينا في مسند الإمام أحمد وغيره أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: “أنا زعيم ببيت في ربض الجنة لمن ترك المراء وإن كان محقا”.
فالمراء وهو الجدال الذي لا يراد به إحقاق الحق وإبطال الباطل، الجدال الذي ليس لوجه الله تعالى بل يراد به إخفاء الحق أو يراد به التعاظم على الناس والترفع عليهم مذموم ممقوت عند الله تعالى ويوجب البعد من الله.
كان الإمام الشافعي رضي الله عنه يقول “إني أجادل المرء لا أحب أن أكسره إنما أحب أن يظهر الحق ولو في جانبه” فكان الإمام الشافعي قصده من جداله إظهار الحق ولم يكن قصده تهشيم الذي يجادله كما يكون قصد كثير من الناس عندما يجادلون، وهذا من ذميم الخصال لا يحبه الله تعالى، وإلى ذلك يدل حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي رواه ابن حبان في الصحيح: “ليس الشديد الذي يغلب الناس ولكن الشديد من غلب نفسه” ومعنى من غلب نفسه أي يقهرها حتى لا يكون قصدها الرياء والاستعلاء على الناس والترفع عليهم، فمن غلب نفسه ومنعها عن الترفع على الناس وكان يرى في كل ما يحدث أنه لا يحدث إلا بمشيئة الله تعالى وعلمه الأزليين الأبديين وشهد ذلك شهودًا ذوقيًا، ابتعد عن حب العلو في الأرض وعلى الناس لأنه أيقن أنه لا تكون منفعة ولا مضرة إلا بمشيئة الله، فكان همه وقصده في معاملاته مع الناس أن يقرب الله له الخير ويبعده من الشر لأن الله هو مالك الأمر، فيكون هو هذا العبد المؤمن الذي أيقن بذلك إيقانًا كاملًا طلب الخير من الله تعالى، قلبه يقول في أحواله “اللهم ءات نفسي منها تقواها وزكِّها أنت خير من زكاها” ويقول سره أيضًا “واصرف عني سيء الأخلاق إنه لا يصرفها إلا أنت” فهذا العبد الذي لزم تقوى الله وتخلق بهذا الخلق هو الذي يتحقق فيه قول الله تعالى: ﴿إِنَّ اللهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا﴾ هذه معية خاصة وهي معية النصرة والكلاءة، الله ينصر عبده المؤمن التقي على الشيطان فلا يستولي الشيطان عليه مهما حاول أن يطغيه وينصره على نفسه الأمَّارة بالسوء، وأما من ابتعد عن هذا الشهود فإنه بين شرين بين شر نفسه الأمَّارة بالسوء وبين شر شيطانه القرين الذي وكِّل به والمعصوم من عصمه الله، من تمسك بهذا الحديث كُفي كثيرًا من الشرور والمهالك ومن أغفله وابتعد من العمل به فقد وُكِّل إلى نفسه، ومن وكِّل إلى نفسه فقد هلك. انظروا إلى سير الأنبياء وأخلاقهم، هذا يوسف عليه السلام قد قصَّ الله تعالى في القرءان الكريم قصته التي فيها حِكَم كثيرة.
ذكر الله تبارك وتعالى لنا عنه أنه لقي من إخوته لأبيه وهم عشرة ما لقي، حاولوا أن يقتلوه حدًا منهم لأنه كانت له محبة في قلب والده لِما اشتمل عليه من محاسن الأخلاق، حاولوا أن يقتلوه ثم عدلوا عن القتل إلى أن يلقوه في الجب أي البئر فألقوه فحفظه الله تعالى من الهلاك ومن أن يُعْطَب في هذه البئر. ثم ءال أمرهم إلى أنهم صاروا محتاجين إليه، صاروا يذهبون من أرضهم إلى مصر ليجلبوا الطعام من شدة حاجتهم إليه، ثم هو عرَفهم فلم ينتقم منهم بقتل ولا قطع أطراف ولا حبس في السجون. وكان قد عرفهم وهم لم يعرفوه ولكن كان أمره معهم بعد عشرات السنين أن أحسن إليهم مع أنه كان قد أوتي مقدرة على الانتقام منهم. ثم هم تابوا، رجعوا إلى الإسلام فتاب الله عليهم لكن لا يكونون أهلاً للنبوة لأن النبوة لا يستأهلها إلا من نشأ على الخلق الحسن، على الصدق على الوفاء على الصيانة، وهؤلاء إخوة يوسف سبقت لهم هذه السوابق الخبيثة فلا يستحق واحد منهم أن ينال النبوة، فمن قال من المؤرخين والعلماء إنهم صاروا بعد يوسف أنبياء فقد كذب.
فينبغي للمؤمن أن يقتدي بأنبياء الله فلا يكون مجبولًا على حب الترفع على الناس ولا متخلقًا بالكبر بل يكون خُلقه التواضع، وفي ذلك جاء حديث حسن الإسناد رواه الترمذي في جامعه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: “اللهم أحيني مسكينًا ـ أي متواضعًا ـوأمتني مسكينًا ـ أي واجعل ءاخر أحوالي في الدنيا التواضع ـ واحشرني في زمرة المساكين” أي المتواضعين ليس معنى الحديث أن لا يرزقه كفايته لأن الله تعالى أخبرنا في القرءان بأنه رزق كفايته، قال الله تعالى: ﴿وَوَجَدَكَ عَائِلا فَأَغْنَى﴾ ومعنى ﴿فَأَغْنَى﴾ أي أناله كفايته، فهذا الحديث متفق مع الآية.
هذا أبو بكر الصديق رضي الله عنه اجتمع عنده المال الكثير، أنفق على رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل الهجرة أربعين ألفًا والأربعين ألفًا في ذلك الوقت تساوي أضعاف أضعافها في هذا الزمن، ومع ذلك كان من المتواضعين كان يخف صوته حين يقرأ القرءان، أحيانًا ما كان يسمع الناس حين يغلبه البكاء إسماعًا جيدًا، والذي عناه الرسول صلى الله عليه وسلم أن يكون مسكينًا بمعنى المتواضع، ومن شأن المتواضع أنه لا يكون ألدًا إذا جادل، إنما يحاول أن يتوصل إلى إحقاق الحق وإبطال الباطل. أما الذين يجادلون ليترفعوا على الناس فإنهم في خطر عظيم لأن حب الجدل قد يسوق صاحبه إلى المهالك، قد يخرج به عن الشريعة إلى الباطل الصرف، العياذ بالله. فعلى المؤمن أن يتوخى إذا حاول أن يجادل أن يكون كل همه إحقاق الحق وإبطال الباطل ويغلب نفسه من أن يتغير قصده إلى حب الترفع على الناس ونصرة رأيه بحق أو باطل.
Sunna Files Free Newsletter - اشترك في جريدتنا المجانية
Stay updated with our latest reports, news, designs, and more by subscribing to our newsletter! Delivered straight to your inbox twice a month, our newsletter keeps you in the loop with the most important updates from our website