في وقت تتواصل فيه الاعترافات الإسرائيلية بضراوة المواجهات مع المقاومين الفلسطينيين في أحياء جباليا شمال قطاع غزة، والزيتون في وسطه، ورفح في أقصى جنوبه، تدور أسئلة حول تكتيكات المقاومة التي استطاعت بها إدارة المعارك بهذا الشكل الذي جعل الرقابة العسكرية الإسرائيلية لم تعد تُحكم سيطرتها على خروج الأنباء من مواقع القتال عن أعداد القتلى والجرحى في صفوف الجنود.
وكشفت الاشتباكات في المناطق الثلاث، رفح والزيتون وجباليا، عن خطط عسكرية محكمة للمقاومة، تمكن “عربي بوست” من التعرف على بعض معالمها من خلال إجرائه لبعض الأحاديث مع عدد من شهود العيان في مناطق الاشتباكات الذين عاينوها عن قرب، ونقلوا صورة أقرب للدقة عما حصل بالضبط هناك.
التصدّي للاجتياحات
عند الحديث عن طبيعة الاشتباكات التي شهدتها أحياء غزة في شمالها ووسطها وجنوبها، فإن كتائب القسام شكّلت منذ سنوات طويلة وحدات قتالية، تتركز مهامها بحراسة المناطق المعرضة للاجتياح، والمرابطة للرصد والاستطلاع، ويتركز معظم عملها في ساعات الليل، وفي أماكن متقدمة مع خطوط التماس مع قوات الاحتلال، وفي مداخل المدن والأحياء.
تضم هذه الوحدات عدة خلايا أهمها الاستشهاديون الذين ينتظرون دورهم لتنفيذ مهام قتالية عندما تحين الفرصة، وقد شهدت أحياء جباليا والزيتون حجم تسليحها وتجهيزها، فكل مجموعة لديها عبوات جانبية وأرضية، بعضها يتم زرعه بشكل ثابت، وآخر يتم استخدامه ونقله حسب الحاجة، ويحمل أفراد كل مجموعة قذائف مختلفة ومتنوعة، وقد وثّقت الأحداث دخول ثلاثة استشهاديين بأحزمة ناسفة إلى منزل يتحصّن فيه قرابة 30 جندياً شرق جباليا، وتم نسفه بالكامل.
ميدانياً، ركّزت عمليات التوغل والاجتياح باتجاه مشارف أحياء الزيتون وجباليا ورفح على المناطق القريبة من مواقع الجيش، بأعداد كبيرة من الجنود الإسرائيليين المزودين بآليات عسكرية ودبابات حربية ومساندة مروحية، تحت غطاء كثيف من إطلاق النار وقذائف المدفعية، فيما يتمركز القناصة فوق البنايات المرتفعة، ويحولونها لثكنات عسكرية لرصد المقاومين، وتفتح النار باتجاه أي جسم متحرك.
وكشفت المواجهات الأخيرة أن وحدات المقاومة الخاصة هذه بمواجهة الاحتلال تقوم بمهام قتالية متنوعة، وموزعة على مواقعها، وعند وصول البلاغات عن حشود إسرائيلية تمهيداً لعملية اجتياح، لاسيما شرقي حي الزيتون ومخيم جباليا، يتم تعميمها على المجموعات الأخرى، واستنفارها، ونشرها في الخطوط الوسطى والخلفية.
لا يقتصر الأمر على الوحدات المناوبة المتقدمة والقريبة من خطوط التّماس، بل تتم مراعاة النطاق الجغرافي، وتوقع أماكن ومحاور الاجتياح، وهدف قوات الاحتلال، وعلى ضوء ذلك يتم توزيع المجموعات، حيث إن لديها خرائط خاصة معدّة سلفاً، وكل مجموعة تعرف موقعها ومهمتها.
Sunna Files Free Newsletter - اشترك في جريدتنا المجانية
Stay updated with our latest reports, news, designs, and more by subscribing to our newsletter! Delivered straight to your inbox twice a month, our newsletter keeps you in the loop with the most important updates from our website
لم تتردد المحافل العسكرية للاحتلال في الاعتراف بأن أهم سلاح واجهه الجنود والمدرعات خلال اجتياح الأيام الأخيرة هو العبوات الموجهة، التي يتم وضعها وتحريكها حسب الحاجة، إضافة للقذائف المضادة للدروع مثل “الآر بي جي”، وقذائف الياسين.
القنابل والعبوات
أكدت الإفادات الميدانية التي حصل عليها “عربي بوست” أنه عند بدء الاجتياح الإسرائيلي لمناطق رفح والزيتون وجباليا، توزعت المسؤولية على القادة الميدانيين لكل منطقة وكل مجموعة، وأُسند إليها التعامل والتصرف مع المعطيات في الميدان، بحيث لا يمكن الرجوع في كل عمل للقائد العسكري العام، لأن المواجهة تكون قاسية، بل يفسح المجال لكل قائد ميداني، الذي يبلغ قيادته الأعلى أولاً بأول عن تنفيذ عمليات تفجير واستهداف آليات الاحتلال.
وأظهرت أشرطة الفيديو التي بثّتها حماس عن اشتباكات مقاتليها مع جنود الاحتلال تطوراً مهماً في قتالها البري، ما أكد أنهم أبدوا استعدادات عسكرية لأي مغامرة إسرائيلية برية، عبر خطط ميدانية قد تجعل الجيش يندم على القرار، خاصة باتجاه قتل عدد كبير من جنوده باستهداف آلياتهم.
ومع اقتراب الجيش من الأماكن السكنيّة برزت وحدات القنّاصة التابعة للقسّام، حيث واجه مئات العبوات والقنابل المموّهة في كلّ ممرّ وطريق، وكلّما تقدّم أكثر داخل المناطق السكنية في جباليا والزيتون ورفح، ظهرت الأفضليّة لمقاتلي حماس، لأنّهم أصحاب الأرض، ويمكنهم رصد آليّاته التي سعت لإيجاد مناطق آمنة على مشارف هذه الأحياء، خشية منظومة الصواريخ المضادّة للدبّابات لدى المقاومة، ما دفع الجيش لتنفيذ عمليات خاطفة تدخل وتخرج بسرعة لتحقيق صورة ترضي حكومة الاحتلال التي تتلقى سهام الانتقادات نحوها.
وقد سبق للمقاومة أن هددت جنود الاحتلال بأن غزوهم البري للأراضي الفلسطينية يعني أن خياراتهم محدودة، إما “قتلى أو جرحى أو أسرى أو التسبب بإعاقة دائمة”، ونفذت عمليّات ميدانيّة لعرقلة التقدّم البريّ نحو عمق الأحياء السكنية، عبر استدراج الاحتلال نحو كمائن محكمة وهو يحاول التقدّم باتجاه المناطق الشرقية للقطاع، وترك مقاتلوها الدبّابات تدخل حقول ألغام من عبوات برميليّة عدّة تم تفجيرها، ما أسفر عن تدميرها بالكامل، ومقتل وإصابة عشرات الجنود.
وجد الاحتلال مقاومة عنيفة من مقاتلي حماس المتحصّنين في مواقع حدوديّة حدّدوها سلفاً، وفق خطّة ترمي لمباغتته في عمليّات دفاعيّة وهجوميّة لإنزال الخسائر فيه، في حرب استنزاف يصعب على الرأي العام الإسرائيليّ تحمّلها، واعترف قادة الاحتلال أنّ معارك حي الزيتون ومخيم جباليا من أصعب المعارك التي خاضوها منذ بدء العدوان على غزة.
فيما تواترت اعترافات الجنود بأن المقاومين حوّلوهم إلى “بط” في ميدان رماية خلال مشاركتهم في التوغل البري لهذه الأحياء، عقب استغلالهم للفترة الزمنية التي أعقبت الاجتياح الأول لتحسين مواقعهم القتاليّة، ما يؤكد أن حماس استطاعت بناء جيش قوي منظم يحتوي على تشكيلات عسكرية مماثلة لألوية جيش الاحتلال، خاصةً النخبة، لا يُستهان به، مع ملاحظة تطور أداء مقاتليها بشكل مفاجئ وغير محسوب، دفعتهم لخوض حرب عصابات واشتباكات شوارع وجهاً لوجه برعوا فيها، وأثبتوا قدرة عالية على الصمود والتحدي والجرأة بشكل غير مسبوق.
الالتحام المباشر
تتزايد التقديرات الفلسطينية والإسرائيلية أن اشتباكات الزيتون وجباليا بين الاحتلال والمقاومة كشفت عن تلقيها تدريبات عسكريّة صعبة ومتقدمة، ورغم تلقيها ضربة قاسية خلال هذه الحرب الممتدة منذ قرابة ثمانية أشهر، لكن الاشتباكات الحالية أثبتت أنها ما زالت تتمتع بقوتها، وباستطاعتها مواصلة إطلاق الصواريخ، وفق اعترافات الإسرائيليين أنفسهم.
وفيما اتهمت أوساط صحفية إسرائيلية قيادة الجيش بأنها تخفي ما حصل لها شرق غزة وجباليا، فقد نشرت كتائب القسام بعضاً من تفاصيل عملياته الالتحام المباشر مع جنود النخبة في جيش الاحتلال، وكشفت عما شاهده المقاتلون، وعايشوه طوال فترة القتال على الخطوط الأمامية أمام جيش مدجج بكل وسائل التكنولوجيا والجبال الحديدية المتحركة “ميركافا”.
تؤكد الشهادات التي حصل عليها “عربي بوست” أن “مقاتلي حماس ثبتوا وسط القصف والتدمير، ولم يأبهوا بسياسة الأرض المحروقة التي انتهجها جيش الاحتلال، متمترسين في خنادقهم، حتى إن بعض القادة الميدانيين طلبوا من عدد من أفرادهم، وقد بدا عليهم الإعياء، أن ينسحبوا إلى خطوط المواجهة الخلفية، لكنهم رفضوا، وواصلوا معارك الالتحام من مسافة أمتار معدودة فقط”.
بالانتقال الى الاعترافات الإسرائيلية الواردة من الميدان، فإنها تسلط الضوء على طريقة إدارة جيش الاحتلال لعملياته في أحياء الزيتون وجباليا ورفح، والوسائل التي اتخذها لتقليل الإصابات في صفوفه، من خلال توسيع رقعة الدمار فيها، وإزالة ونسف مربعات سكنية بأسرها، في محاولة منه للتخفيف من مخاوف جنوده المتصاعدة.
في الوقت ذاته، لا يخفي الإسرائيليون إحباطهم من أن العمليات القتالية في غزة تسير بشكل عكسي، فكل اجتياح أعقد من سابقه، وليس العكس، أي إن المقاومة تتعافى مع الوقت، وتزداد قدرتها على القيادة والسيطرة بشكل مضطرد أمام ارتباك الاحتلال، ما يؤكد أن استراتيجية إضعافها، وإنهاكها غير مجدية، ما يعني فشل حربه لتكسير قوتها الصلبة.
مع العلم أن جيش الاحتلال زاد من عدد قواته ووحداته التي زجّ بها في عمليات الاجتياح والتوغلات الأخيرة، وأصبح تحت تصرف قادته الميدانيين العديد من القوات الخاصة، والكتائب الجوالة، ووحدات النخبة.
تعدد الجبهات
ورغم أن الاحتلال أقحم حين اجتاح حي الزيتون ثلاثة ألوية قتالية كاملة، لكنه لم يحتمل البقاء فيه أمام ضراوة الاشتباكات، وانسحب صباح الأربعاء 15 مايو/أيار، وفي جعبته عدد من جنوده القتلى والجرحى. ومع أن المقاومين قاتلوا على أكثر من جبهة، فهم تصدّوا لاجتياح الحي من جهة، وفي الوقت ذاته قادوا مهمة مشاغلة الاحتلال في الطريق القاطع وسط قطاع غزة قرب مستوطنة نتساريم، التي أصبحت واحدة من أهم نقاط إشغال واستنزاف الاحتلال.
في المقابل، أكدت اشتباكات الأيام الأخيرة في الزيتون وجباليا ورفح أن كتائب القسام استفادت في تصديها للحملة البرية الإسرائيلية من الخبرة القتالية التي تكونت لمقاتليها في الاجتياحات السابقة بداية الحرب، باتباع تكتيك محترف يعتمد على نصب الكمائن للجيش، عبر فتح ثغرات في البيوت الموجودة على مشارف الأحياء المستهدفة، بحيث يكمن المقاتلون للجنود داخل البيوت، كي يفاجئوهم، وهناك طريقة مبتكرة تتمثل بتفخيخ مواسير وصنابير المياه، ويتم تفجيرها.
وباتت الطرق التي تسلكها الدبابات في المناطق المستهدفة معروفة، وهي بالعادة ضيقة محدودة المعابر والمداخل، بما يفيد المقاومة للاستفادة من أهمية هذا المعطى الميداني لوضع خطة التصدي للتوغل البري، بتفخيخ المداخل، وزرعها بالعبوات الناسفة، ونشر مقاومين يحملون قذائف “آر بي جي” لإعاقة تقدم الآليات، وحصرها داخل مصيدة العبوات الناسفة.
كما انتهجت المقاومة في تصدّيها للعدوان البري تكتيكات وأساليب جديدة قائمة على خطوات مدروسة بعناية بعيداً عن حالة ردود الفعل المتسرعة، ما وفر لها هامش تحرك منحها فرصة حماية رجالاتها، وتفعيل أدواتها بفعالية وكفاءة كبيرة.
تؤكد الإفادات التي حصل عليها “عربي بوست” أنه “لولا الإسناد الذي وفره سلاح الجو الإسرائيلي بواسطة طائرات الاستطلاع المزودة بالصواريخ وبطائرات “إف16″ لما استطاعت المدرعات والمشاة التقدم ملليمتر واحد داخل الأحياء المذكورة، لأنها تُسقط بالعادة آلاف القنابل”.
التقدم البطيء
مع أن ضراوة الاشتباكات جعلت التقدم البري الإسرائيلي بطيئاً جداً، فالدبابات تتقدم عدة أمتار كل عدة ساعات، وكأننا أمام متر في كل ساعة، خشية العبوات الناسفة التي زرعها المقاومون في براميل، وبعد تقدمها نحو المباني السكنية على امتداد حدود الأحياء الفلسطينية، يتم الإيعاز لوحدات المتفجرات بتفجير المباني كلها، مع الإبقاء على عدد منها لتكون بمثابة ثكنات عسكرية للقناصة، ويُعسكر فيها الجنود.
وفيما يندفع الاحتلال عادة في مقدمة التوغل للسيطرة على أسطح المباني المرتفعة، واستخدامها في عمليات القنص، تكلّف المقاومة مجموعاتها بالاشتباك مع القناصة بالأسلحة الأوتوماتيكية، والتعامل معهم بهدف إشغالهم عن مساندة القوة الرئيسة من مظليين وهندسة، واعتادت على اتباع تكتيك محترف بنصب الكمائن للاحتلال، بفتح ثغرات في البيوت وعبرها، والتنقل من خلالها، وإعداد كمائن له داخلها.
لقد أكدت عمليات القنص التي تقوم بها المقاومة ضد الجيش بأنها ليست عشوائية، ففي فيديوهات عديدة ظهر قناص القسام ببندقية “الغول” يختار جندياً واحداً من بين عدد من الجنود المشاة، وفي بلاغات عسكرية عدة أعلنت المقاومة عن قنص ضباط في الجيش، أبرزهم المسؤول عن الاقتحام الأول لمستشفى الشفاء “يتسهار هوفمان” بعد نشر صور التقطها جهاز الرصد والتتبع الخاص بها تتبُّع تحركاته، ثم قنص ضابط في سلاح الإشارة في بيت حانون، ما يؤكد أن هذه العمليات مدروسة ومخطط لها، والجنود على الأرض يُتابعون بشكل دقيق.
لقد نفذت كتائب القسام سلسلة عمليات نوعية ضد جنود الاحتلال المتوغلين في عدة محاور في قطاع غزة، تسببت بمقتل وإصابة عدد منهم، ما يعني أنها تعمل وفق منظومة متكاملة من الرصد والمتابعة والاستهداف المركّز، وقدرتها على إلحاق الخسائر في الاحتلال، وتدمير آلياته.
في المقابل، أكد غالبية الجنود الإسرائيليين الذين اقتحموا جباليا أن هذه العملية عبثية، والعمليات الأخيرة أظهرت أن تقديرات الجيش ليست صحيحة بما يتعلق بالبنية التحتية لحماس، لأنها ترمّم قدراتها بسرعة كبيرة، وتعيد تأسيس نفسها مجدداً، حتى إن الجنرال يتسحاق بريك مفوض الشكاوى السابق في الجيش أكد أن “إسرائيل لا تملك القدرة على إسقاط حماس، حتى لو طال أمد الحرب، ولذلك لا فائدة من استمرار القتال في غزة، لأنه يعني تكبد الجيش أضراراً جسيمة”.