برع العثمانيون في صناعة مصاحف لم يعرف لها مثيلاً في الحضارة الإسلامية من حيث دِقة الصنعة ونوع الاستخدام. أنواع عُرفت باسم “مصاحف سنجق”، وهو ما يعني “مصاحف الرايات الحربية”، والتي كانت الجيوش العثمانية تستخدمها للتبرُّك خلال القتال، أمر يُشبه “الأحجبة القرآنية” التي اعتاد بعض الصوفية التبرُّك بها عبر ارتداء صُحُف صغيرة كُتبت عليها آيات القرآن بخطٍّ دقيق، مع فارق هائل بالطبع في براعة الفنان العثماني التي ظهرت في كل تفصيلة من صناع “مصحف سنجق”، وبقي التاريخ شاهداً عليها.
في هذه الشهادة يحكي أحد المواطنين الأتراك زيارته لمعرض محلي صغير أنيف حافل بالآثار التي تحمل جميعها طابعاً إسلاميّاً قحّاً.
وبحسب الشهادة فإن ذلك المعرض احتوى على العديد من العروض اللافتة للانتباه، مثل: 16 صورة مرسومة للسلاطين العثمانيين بيد يعقوب جيم، الذي أبدع في رسم المنمنمات، وكذا عدة قطع من الكسوات الأصلية للكعبة وغيرها من النفائس.
إلا أن قطعة واحدة من تلك المعروضات استوقفته، وصفها بأنها “مصحف سنجق (Sancak Kuranı، وترجمتها حرفيّاً “مُصحف الراية” أو “مُصحف اللواء”) مُلطخ بالدماء لأن العثمانيين اعتادوا حمله مع راية الجيش خلال الحروب”.
في المقابل، كشف أحد أتباع القُطب الصوفي البارز جلال الدين الرومي عن زيارة قام بها إلى ضريحه في مدينة قونية التركية، وبعدما أسهب في الإشادة بمعمار المقبر أكد أنه ثُبِّت في واجهة المكان نسخة أخرى من “مصاحف السنجق” تلك، وصفها بأنها “صُنعت بجهدٍ مذهل وبشكلٍ مرسوم، جعلها زاخرة بالزخارف الممتازة”.
وهو ما دفعه للتساؤل: ما حكاية هذا المصحف؟ ولماذا اهتمَّ العثمانيون بحمله خلال معاركهم؟
“السنجق” يثير اهتمام الجميع
وفي التصريح الصادر عن يوسف بنلي مدير متاحف قونية منذ عدة سنوات، والذي أكد فيه أن نسخة “مصحف سنجق” المعروضة في ضريح الإمام جلال الدين الرومي من أكثر القطع التي تحظى باهتمام الزائرين، مؤكداً أن تلك القطعة تحظى برعاية حكومية خاصة لضمان عدم تعرّضها للتلف.
وبالرغم من أن حجم المصحف يتراوح بين 2-3 سم إلا أنه يشمل محتوى القرآن كاملاً بين جنباته الصغيرة، ويثير إعجاب الزوار كلما قارنوه بالمصحف العملاق الذي وضعه مُسيِّرو المكان جواره لإثارة إعجابهم، وإثبات قُدرات الفنان المسلم في ذلك الزمن على الإبداع في أي مجال، حتى لو كانا متناقضين.
Sunna Files Free Newsletter - اشترك في جريدتنا المجانية
Stay updated with our latest reports, news, designs, and more by subscribing to our newsletter! Delivered straight to your inbox twice a month, our newsletter keeps you in the loop with the most important updates from our website
من أكثر ما يُسعد في ذلك التصريح هو أنه يقرّب أكثر من مهمة التعرُّف على الخصائص الفنية لهذه النوعية من الأسفار، أهمها صغر حجمه الشديدة والعناية الكثيفة بزخرفته، وهو ما يشي بأن “مصاحف سنجق” لم تكن تُصنع للقراءة الهادئة في البيوت -ولا لأي قراءة أخرى- وإنما كانت لها مهام خاصة في العقلية العثمانية.
أصل كلمة “سنجق”
تاريخياً، فإن هذه الكلمة كانت تُعبّر عن بعض أشكال التقسيمات الإدارية داخل الدولة العثمانية. فبداية من القرن الـ14 كانت هناك بعض الفيالق العسكرية التي تخوض الحروب مقابل منحها إقطاعات بعد الحرب. وعادةً كان يُنسب كل فيلق عسكري إلى الحيِّز المقطوع له وهو الذي كان يُسمّيه الأتراك “سنجق”.
لاحقاً اتّسع المصطلح ليُطلق على بعض الولايات العثمانية، بل وأي منطقة خاضعة لإدارة الباب العالي، لكنها كانت تتميّز بأن حاكمها -الذي عادةً ما كان قائداً عسكريّاً- لم يكن يخضع لأحدٍ إلا للخليفة العثماني مباشرة. وحكمت الإمبراطورية العثمانية الكثير من مناطق شرق أوروبا بهذه الطريقة.
ما وجد صلة وثيقة تربط بين هذا المصطلح وبين ذلك النوع الفريد من المصاحف. لماذا منحها العثمانيون ذلك اللقب تحديداً؟ لكنها بلا ريب جاءت لمنحه صفة “عسكرية” تمييزاً له عن باقي المصاحف، ولتأكيد على مهامه الحربية “التبركية” التي كانت تُوكل إليها، والتي ستُشرح لاحقاً.
المصحف العسكري
لما كانت الفتوحات العسكرية جزءاً لا يتجزأ من حياة العثمانيين، من هنا ظهرت الحاجة للتواكب مع حالة القتال المستمرة تلك بنشأة ما قد يسميها البعض “العادات القتالية”، ومنها ذلك المصحف.
صُنعت تلك النوعية من المصاحف للأعمال القتالية خصيصاً، والبحرية بالذات، ولهذا فإن المصاحف صُنعت بمواصفات مختلفة وجودة عالية المستوى تضمن تحمّل المصاعب التي يتوقّع أن يمرَّ بها الجنود خلال القتال؛ فجرى التخلي -ربما لأول ولآخر مرة- عن الشكل المعتاد لكتابة المصحف طوليّاً كما اعتدنا قراءته جميعاً، واستُعيض عوضاً عن ذلك بأشكالٍ سداسية أو ثمانية الأضلاع، كما استُبدلت الأوراق بالأخشاب أو على الأقل جرت الاستعانة بأوراق رقيقة بأكثر من المعتاد، كما زوِّد “مصحف السنجق” بواقية تحميه الأخطار، اعتاد العثمانيون صناعتها من خشب الجوز أو الفضة.
ليس هذا وحسب، وإنما اعتاد البحارة العثمانيون، أيضاً، التبرُّك به قبيل تنفيذ الغزوات، فكانوا يرفعونه فوق صاري السفينة، وتحديداً جهة اليمين، ومن قمة الصارية كانت “نُسخ السنجق” تتدلّى منها وهي محفوظة داخل عُلبٍ خشبية مُزخرفة بعناية.
أصغر مصحف بالعالم
تُمثل تلك النسخ من المصاحف قيمة أثرية نادرة، أولاً للندرة الشديدة في حجم النسخ المتوفرة من المصاحف التي صُنعت بهذه الطريقة، وثانياً بسبب الجودة الكبيرة في صناعتها وزخرفتها وحمايتها بعلب الفضة أو الخشب لاحقاً.
في عام 2006 احتفى متحف “سابانجي” بعرض ما أطلق عليها “أصغر نسخة مُصحف في العالم” كتبها الخطاط كريم بن إبراهيم الشيرازي في عهد السلطان العثماني مراد الرابع.
طول تلك النسخة لا يتجاوز الـ3.5 سم، ورغم ذلك فإن صفحاتها الصغيرة حملت نسخة كاملة من آيات القرآن يُمكن قراءتها بعدسة مكبّرة.
وبحسب المتحف فإنه لم يتردد في دفع 65 ألف ليرة تركية مقابل تلك النسخة، والتي أعلن أنه سيخضعها لعملية ترميم كبرى للعرض.
المفارقة، أن بعض التقارير الإعلامية التركية وصفت مصحف سنجق القابع في ضريح مولانا جلال الدين الرومي بأنه -أيضاً- أصغر نسخة مصحف في العالم، ففي هذه النوعية من المصاحف تحديداً، سيكون من العسير تبيان الفارق في المقاسات بين المصاحف، فالفارق لن يزيد على ملليمترات.