في قلب العاصمة الجزائرية، يتربع جامع تاريخي شهير، بلونه الأبيض، وطرازه العثماني واللمسات الأمازيغية، يحمل ذلك الجامع اسم “علي بتشين” أو “زوج عيون”، وراء هذا المسجد قصة حب تبدو تفاصيلها أقرب إلى الخيال، عن بحار ثري ومغامر، أحب أميرة جزائرية، وأراد إثبات حبه لها فبنى لها مسجداً.
حكاية ملهمة، لأسير إيطالي مسيحي أسلم، وتدرج في البحرية الجزائرية، حتى أصبح أميرالاً بحرياً، ليصبح ذلك الأسير أحد أهم الشخصيات السياسية والعسكرية في الجزائر آنذاك، وقتله العثمانيون ونبش قبره الفرنسيون وحولوا مسجده إلى كنيسة.
“البيريكو بوتشيني” يصبح “علي بتشين”
في حدود سنة 1578 كان الطفل الإيطالي “ألبيريكو بيتشينيني” ذو الـ10 سنوات، على متن سفينة قراصنة إيطالية، وشاءت الأقدار أن تقع تلك السفينة في قبضة البحرية الجزائرية، التي أرسلت “ألبيريكو” ورفاقه إلى ميناء مدينة الجزائر.
في الميناء تم بيع طاقم السفينة عبيداً؛ عقوبة لهم على أعمال القرصنة التي قاموا بها، ومن ضمنهم الطفل “ألبيريكو”، فاشتراه قائد بحري جزائري يدعى “الرايس فتح الله بن خوجة بن بيري”، وكان لقب الرايس حينها يعادل أميرالاً في البحرية أو قبطان السفينة، كان “بن خوجة” يمتلك عدة سفن تبحر بإمرته، في البحر الأبيض المتوسط.
غيّر “بن خوجة” اسم “ألبيريكو بوتشيني” إلى “علي بتشين”، وتحت إمرته وتوجيهاته، تعلم وكبر الشاب في قصر “بن خوجة” وعلى متن سفنه، حتى أصبح “علي بتشين” قبطان سفينة في أسطول “بن خوجة”، وتدرج في المناصب حتى أصبح هو نفسه “رايس”.
وما بين عامي 1630 و1645، كان “الرايس علي بتشين” محبوباً وسمعته جيدة في الجزائر، وكانت سُفنه تجوب البحار، فأبحر في البحر الأدرياتيكي حتى إيرلندا، وخاض معارك ضد سفن أوروبية، خرج منها منتصراً في كل مرة، وكان يعود محملاً بالذهب والبضائع الثمينة.
Sunna Files Free Newsletter - اشترك في جريدتنا المجانية
Stay updated with our latest reports, news, designs, and more by subscribing to our newsletter! Delivered straight to your inbox twice a month, our newsletter keeps you in the loop with the most important updates from our website
بناء مسجد لإثبات حبه لأميرة جزائرية
أصبح الرايس علي بتشين من الأثرياء، وبعد وفاة والده “الرايس بن خوجة” أصبح هو قائد البحرية الجزائرية كلها.
لكن البحار الشجاع الذي هزم الجميع، خسر معركته الأولى أمام جمال أميرة جزائرية، تقول المصادر إنه عندما شاهد علي بتشين الأميرة “لالا اللهوم”، ابنة بن علي، سلطان شعب القبائل في الجزائر العاصمة، لم يستطِع مقاومة جمالها؛ وكانت جميع حواسه مضطربة.
فذهب برفقة “لالا نفيسة”، أرملة معلمه بن خوجة، ومعهم حاشية كبيرة من الخدم، ومجموعة من الهدايا الثمينة ليظهر مدى ثرائه، طالباً ود الأميرة وأهلها، وتوجه بتشين إلى بن علي طالباً يد ابنته.
ذهل بن علي بالكم الهائل من الهدايا، التي أحضرها الرايس بتشين، وسارع لطلب القاضي لإتمام مراسم الزواج، غير أن “لالا اللهوم” لم تكن تشاطر والدها ذات الحماس، فأومأت برأسها بالرفض، ولم تبهرها هدايا بتشين النفيسة، من سجاد فارس وحرير الصين وماسات الهند وذهب إفريقيا.
وقالت: “لا أريد كل هذا، شرطي الوحيد للزواج أن يبني لي مسجداً وسيكون هذا مهري”. في مارس/آذار 1622م نفذ بتشين وعده وارتفعت قاعة صلاة مسجد بتشين على علو 5 أمتار، فوق شارع “زوج عيون” الشهير في “باب الواد”، ومزج فيه الطراز الأمازيغي والعثماني. وهو المسجد الوحيد في القصبة السفلى المبني فوق دكاكين، ويؤكد الكاتب الإيطالي “ريكاردو نيكولاي” في كتابه “علي بتشين.. في حب أميرة” أن بتشين أحضر رخام مدينة ماسا موطنه الأصلي لتعبيد أرضية المسجد، وتم الزفاف بعد إكمال المسجد.
نهاية علي بتشين المأساوية، قتله العثمانيون ونبش قبره الفرنسيون
عام 1639، تعرضت البحرية الجزائرية بقيادة “علي بيتشن” لأضرار جسيمة، بعد أن كانت تقاتل إلى جانب الأسطول العثماني ضد البندقية قرب أولونا (ألبانيا الحالية)، وبعد تلك المعركة وعد السلطان العثماني، بتقديم تعويضات لملك الجزائر، لكنه لم يرسل مطلقاً الإعانات الموعودة لإعادة بناء الأسطول الجزائري.
أثار ذلك غضب الملك الجزائري ومعه علي بتشين فاتخذوا قراراً بعدم مساعدة البحرية العثمانية في المستقبل، فسر السلطان هذا “العصيان” على أنه خيانة عظمى، فقرر إرسال فرقة عسكرية لقتل علي بتشين.
فشل العثمانيون في القضاء على بتشين أول مرة، ولكنه لم يسلم من المحاولة الثانية؛ حيث توفي عام 1645 مقتولاً بالسم الذي تم وضعه في قهوته، ودفن بتشين في “مقبرة الباشوات” في حي باب الوادي.
وبعد وفاة بتشين، واصلت الأميرة “لالااللهوم” العمل الخيري تكريماً زوجها، إلى أن وافتها المنية لتدفن إلى جانبه في مقبرة الباشوات.
في عام 1832 قام الغزاة الفرنسيون، بتدمير المئذنة وتحويل مسجد “علي بتشين” إلى كنيسة رومانية كاثوليكية أطلقوا عليها اسم “نوتردام ديس”، وقاموا بتدنيس المقبرة التي دفن فيها، وبناء أبنية جديدة على القبور، ونبشوا عظام “علي بتشين” وشحنوها إلى مرسيليا.
رحل “علي بتشين” عن عالمنا لكن المسجد الذي بناه لا يزال قائماً في العاصمة الجزائرية، وشاهداً منذ قرون، على قصة ذلك الرجل الاستثنائي وسيرة حياته ومرحلة مهمة من تاريخ الجزائر.