تبدو الحرب التي يشنّها العدو الصهيوني على قطاع غزة ، مدعوماً من كل القوى الكبرى في العالم بزعامة الولايات المتحدة الأمريكية وهي تقترب من نهاية شهرها الثامن، وكأنها تدور في حلقة مفرغة، إذ إنها رغم استمرار اشتعال نيرانها كل هذه المدة، والتي يكتوي بلظاها الفلسطينيون من سكان قطاع غزة المحاصر والمنكوب، وما يرتبط بذلك من عدوان وإجرام متواصلين يستهدفان مدن الضفة الغربية المحتلة ومخيماتها، إلا أنها فقدت معظم دعايتها في نظر كثيرين من الذين خُدعوا بشعاراتها على مستوى العالم، بل فقدت كثيراً من التأييد الدولي اللذين حظيت بهما عند انطلاقها حتى بين الإسرائيليين أنفسهم، والذين باتوا يعتقدون، كما تشير الكثير من استطلاعات الرأي، أن هذه الحرب تحوّلت إلى حرب عبثية، يسعى من خلالها رئيس وزراء الكيان وأعضاء ائتلافه المتطرف للمحافظة على رؤوسهم، التي من المُتوقع أن يتم قِطافها سياسياً في اليوم الثاني من انتهاء هذه الحرب المجنونة.
منذ بداية العملية العسكرية البرية ضد مدن القطاع ومخيماته، في السابع والعشرين من تشرين الأول/أكتوبر من العام الماضي، والتي وضع لها قادة الاحتلال أهدافاً ثلاثة، جاء في مقدمتها القضاء على المقاومة، تحت شعار تفكيك الكتائب المقاتلة، إلى جانب استعادة الأسرى من خلال القوة العسكرية الهمجية، بالإضافة إلى إيجاد جهة فلسطينية ما تدير غزة بعد القضاء على المقاومة، على غرار روابط القرى، أو جيش لحد في جنوبي لبنان.
منذ ذلك الحين يحرص الاحتلال الإسرائيلي على وضع عناوين عريضة لمجمل عملياته العسكرية في مدن القطاع المتعددة، محاولاً من خلال بروباغندا منفصلة تماماً عن الواقع تحقيق إنجازات وهمية، تعويضاً على كل الإخفاق الهائل الذي عاناه طوال فترة الحرب، التي فشل من خلالها في تحقيق أي هدف من تلك التي صدَع رؤوس العالم بها، والتي باتت مثار تهكم واستهزاء، حتى في أوساط الإسرائيليين أنفسهم.
وكان آخر صيحات البروباغندا الإسرائيلية تتعلّق بمدينة رفح، أقصى جنوبي القطاع، حيث استمرت ماكينته الاحتلال الإعلامية، والتابعون له من سياسيّين وعسكريين، وسائر جوقة القتلة ومجرمي الحرب، في التلويح باقتحامها مدةً تزيد على أربعة أشهر، إذ لم يتركوا مناسبة إلا هدّدوا فيها باحتلال المدينة، وتفكيك كتائبها، وسحق مقاتليها، بالإضافة إلى تدمير الأنفاق التي تصل بين المحافظة الجنوبية من جهة، ومدينة رفح المصرية في الضفة الأخرى من الحدود، في مقابل ذلك، كان العالم يطالب بعدم اقتحام المدينة بسبب العدد الهائل من النازحين الموجودين فيها، إلى جانب وجود معبر رفح، وهو الشريان البري الوحيد الذي يربط قطاع غزة بالعالم الخارجي.
إلا أن الاحتلال، كما العادة، ضرب بعُرض الحائط كل تلك المطالبات والمناشدات، وقام، بغطاء من حليفه الأمريكي، سياسياً وقانونياً، باقتحام المدينة، واحتلال معبرها الحيوي، وقطع المساعدات التي تدخل منه للقطاع المحاصر، ومنع خروج المصابين والمرضى الذين هم في حاجة ماسّة إلى السفر إلى الخارج، بالإضافة إلى السيطرة على محور صلاح الدين، “فيلادلفيا”، عند الحدود الفلسطينية – المصرية، مرتكباً في الطريق نحو هذه السيطرة مجازر يندى لها جبين الإنسانية، كان آخرها قصف مراكز إيواء النازحين في غربي المدينة، قرب مستودعات وكالة الغوث وتشغيل اللاجئين، “الأونروا”، والذين كانوا يوجَدون في منطقة تم تصنيفها، إسرائيلياً، منطقةً آمنة، إلى جانب إخراج المستشفيات الحكومية والميدانية عن الخدمة، في تجاوز واضح لكل الأعراف والقوانين ذات الصلة، وفي انتهاك صارخ لمبادئ الأمم المتحدة، التي تنص على حق المواطنين في تلقّي الخدمات الصحية بغض النظر عن الظروف المحيطة.
وإلا اليوم، ما زالت العملية العسكرية الإسرائيلية في رفح مستمرة، ولا يُتوقَّع أن تنتهي قريباً، ولاسيما في ضوء عدم تحقيق أي إنجاز من تلك التي روج لها نتنياهو ومتطرفوه، والذين وعدوا باستعادة الأسرى الإسرائيليين، كما جرى في خان يونس وغيرها، والقضاء على المقاومة وسحقها.
بل ربما هذه العملية، مرشحة للتوسّع لتشمل كل جغرافيا رفح من شرقيها حيث منطقة الشوكة والجنينة والسلام، مروراً بوسطها في تل السلطان والبرازيل وتل زعرب، وصولاً إلى حدودها الغربية والشمالية الغربية، حيث الحي السعودي وخربة العدس وغيرهما من المناطق، في حال لم يحدث أي جديد بخصوص مفاوضات وقف إطلاق النار.
Sunna Files Free Newsletter - اشترك في جريدتنا المجانية
Stay updated with our latest reports, news, designs, and more by subscribing to our newsletter! Delivered straight to your inbox twice a month, our newsletter keeps you in the loop with the most important updates from our website
وبغض النظر عما سيترتب عن هذه العملية من نتائج، سواء ميدانياً وعملياتياً، أو فيما يتعلّق بمستقبل معبر رفح، والذي يسعى الاحتلال لتحويله إلى ورقة ضغط يبتز من خلالها المقاومة، من خلال اشتراط إدارته من جانب شركات أمنية خاصة، ولاسيما أمريكية، أو بواسطة جهات عربية معينة تتبع لبعض الدول صاحبة التاريخ الطويل في تبادل المعلومات الاستخبارية مع الاحتلال، بغض النظر عن كل ذلك وغيره كثير مما لا يتسع المجال لذكره، فإن السؤال الأهم، الذي يتبادر إلى أذهان كثيرين، وبات يتردد صداه في كثير من المنابر، حتى تلك التابعة لوسائل إعلام إسرائيلية: ماذا بعد انتهاء عملية رفح! وأيّ أهداف سيسعى الاحتلال لتحقيقها بعد هذه السلسلة الطويلة من الإخفاقات! وما الحجج والمبررات التي سيسوّقها للتغطية على جرائمه المتواصلة بحق المدنيين، من نساء وأطفال وشيوخ!
في الواقع، تبدو السيناريوهات المحتملة عقب انتهاء العمليات في رفح بأشكال متعددة ومعقدة، وغالبيتها تشير إلى استمرارية الحرب دون توقف ملموس أو تقليل في حدته، إلا في حال ظهور تطورات غير متوقعة ودراماتيكية تعيد تشكيل المعادلة برمتها، خلافاً لجميع التوقعات المستندة إلى البيانات الميدانية والسياسية المتوافرة. لذلك، ربما نجد أكثر السيناريوهات ترجيحاً، أن تتحول الأوضاع في قطاع غزة إلى نمط يشبه حرب الاستنزاف، حيث تستمر العمليات العسكرية للاحتلال على نحو متوسط كما هو الحال في الآونة الأخيرة، على نمط ما يجري في مدن الضفة الغربية المحتلة، لكن مع اختلاف في الأسلحة المستخدمة في الجهتين. ففي غزة، تتنوع الأسلحة بين الطائرات الحربية، الدبابات، ناقلات الجند، والمدفعية الثقيلة، بينما تكون الوسائل المستخدمة في الضفة أقل فتكاً.
بينما عودة قوات الاحتلال لمهاجمة المناطق التي سبق وأن استهدفها، كما في مخيم جباليا وحي الزيتون، وكأنه يدور في حلقة مفرغة. هذا التكرار يبدو اضطرارياً للاحتلال لكي يلزم بإبقاء قواته في حالة نشاط عبر تنفيذ مهام عملياتية تبرر استمرار الاحتلال في القطاع، ساعياً من خلال هذه العمليات إلى تحقيق أهداف لم يستطع الوصول إليها سابقاً، مستخدماً في ذلك مروحة واسعة من الأكاذيب والافتراءات لتبرير استمرار هذه العمليات الفاشية.
أما السيناريو الثاني المحتمل، فيتمثل في تركيز الهجمات الإسرائيلية على مناطق لم تشهد بعد عمليات هجومية واسعة النطاق، مثل مدينة دير البلح في المنطقة الوسطى من قطاع غزة، والتي باتت ملجأ لعشرات الآلاف من النازحين الفارين من همجية الاحتلال في مناطق أخرى كرفح. فخلال الشهرين الماضيين، شهدت هذه المدينة، إلى جانب مناطق أخرى مثل الزوايدة وغرب النصيرات ووسطها، قصفاً جوياً شديداً، فضلاً عن حي الدرج والصحابة في مدينة غزة.
في الفترة المقبلة أجد أن هذا السيناريو هو الأقرب للحدوث، خاصة وأن الاحتلال يبدو مصمماً على تدمير كل ما يمكن أن يعيد الحياة إلى شبه طبيعتها في القطاع، بما في ذلك البنية التحتية المتبقية التي توفر الخدمات الأساسية مثل المياه والرعاية الصحية، والأسواق الشعبية التي تلبي الاحتياجات الأساسية للحياة الصعبة والقاسية في القطاع.
أما عن السيناريو الأخير، والذي يبدو أقل احتمالاً مقارنة بالسابقين، يتمثل في تقليص الهجمات الإسرائيلية على قطاع غزة إلى الحد الأدنى، مع التحول إلى تنفيذ عمليات استهداف جوية واغتيالات لعناصر وقادة المقاومة. في المقابل، يشهد الجبهة الشمالية لفلسطين المحتلة تصعيداً ملحوظاً، حيث تزداد وتيرة العمليات هناك، خاصة مع توسع حزب الله في عملياته الهجومية ضد المواقع العسكرية الإسرائيلية، ما يؤدي إلى زيادة كبيرة في خسائر الجانب الإسرائيلي، سواء في عدد جنود وضباط، أو في القدرات العسكرية، خصوصاً أجهزة التجسس والمراقبة التي تنتشر على طول الحدود بين فلسطين ولبنان.
رغم كون هذا الاحتمال أقل ترجيحاً، إلا أنه يبقى ممكن الحدوث، خصوصاً في ظل التصريحات الإسرائيلية المتكررة والزيارات المتعددة التي يقوم بها وزير الحرب الإسرائيلي يوآف غالانت وقادة آخرون إلى تلك الجبهة. هذه الجبهة قد تحولت، وفقاً للمعطيات المتاحة، إلى جبهة استنزاف رئيسة للاحتلال، دون أن ينجح في إيجاد حلول ملائمة للتعامل معها، أو إزالتها من معادلة الصراع الذي يظهر بأنه قد يتحول إلى صراع إقليمي بناءً على تطور بعض الشروط والظروف.
في كل الأحوال، بغض النظر عن التطورات والأحداث المحتملة في الأسابيع والأشهر القادمة، سواء على الصعيد الميداني أو السياسي الناتجة عن الحرب، فإن ما وقع في صباح السابع من أكتوبر/تشرين الأول من العام الماضي سيظل بمثابة نقطة تحول حاسمة في تاريخ القضية الفلسطينية، وربما في تاريخ المنطقة والعالم ككل. الأحداث التي شهدتها تلك اللحظات الدراماتيكية، والتي أذهلت العالم، أسهمت في كتابة فصل جديد في الصراع بين الشعب الفلسطيني والاحتلال الإسرائيلي الاستعماري، وكل من يقف معه ويدعمه.فهذا الفصل يوضح بما لا يترك مجالاً للشك أن العصر الذي كان فيه الاحتلال يُعتبر مهيمناً وقوياً قد انتهى بلا رجعة. القوى المقاومة التي تقف الآن في وجه هذا الاحتلال، وتتصدى لمشاريعه الإجرامية، لم تعد تلك القوى الضعيفة والمنهارة التي كانت تُهزم قبل بدء المعركة