خلال أول 10 سنوات من حكمه قاد بيبرس 10 حملات عسكرية على الإمارات والمدن الصليبية في بلاد الشام
شهدت منطقة أرسوف بقضاء يافا معركتين حاسمتين، كل منهما تسمّى باسم معركة أرسوف، وكلتاهما متعلُّقة بالحملات الصليبية الأوروبية على المشرق الإسلامي، كان بطل أولاهما صلاح الدين الأيوبي عام 1191، وكان بطل الثانية الظاهر بيبرس عام 1265، سلطان المماليك. والفارق بين المعركتين 75 عاماً، ونتيجة المعركة والظرف السياسي كان مختلفاً تماماً كذلك.
دولة المماليك تواجه خطرين مُحدقين: المغول والصليبيين
تأسّست دولة المماليك في مصر والشام في ظرفٍ تاريخيٍّ صعب للغاية. كانت بذور تأسيس هذه الدولة في الحملة الصليبية السابعة عام 1249 عندما توفي الملك الصالح نجم الدين أيوب، فأكمل قادته من المماليك الحرب وهزموا الحملة الصليبية في مدينة المنصورة، وأسروا ملك فرنسا لويس التاسع عشر.
لم تكد الأوضاع السياسية تستقرّ لدولة المماليك الوليدة حتّى هدّدها المغول القادمون من الشرق. سقطت العاصمة العباسية بغداد عام 1258، وزحفت القوات المغولية إلى الشام، ومنها ستزحف إلى مصر، الحصن الأخير في بلاد المسلمين في ذلك الوقت الذي لم يقع تحت السيطرة المغولية.
استطاع السلطان المظفر قطز ورفاقه هزيمة المغول في معركة عين جالوت عام 1260، وبهذا استعادت الدولة الوليدة عافيتها جزئياً، فقد حققت انتصارين ضخمين في ظرف 10 سنوات فقط، الأول عندما أسر القادة المماليك الملك الفرنسي لويس التاسع عام 1249، والثاني عندما هزموا المغول في عين جالوت وقتلوا قائدهم كتبغا عام 1260.
أصبحت الأوضاع أكثر ملاءمةً للدولة الوليدة، وبعد معركة عين جالوت تفرّغ المماليك لصراعاتهم الداخلية، فقتل بيبرس السلطان المظفر قطز، وأصبح سلطان مصر والشام ملقباً باسم الظاهر.
ومهما يكن من حديث عن أسباب مقتل قطز والصراع بينه وبين بيبرس، إلا أنّ بيبرس حكم 17 عاماً، كانت كلّها حروباً مع مغول فارس (أباقا بن هولاكو) من ناحية، بينما كان همُّه الأكبر هو طرد الصليبيين من بلاد الشام نهائياً.
وخلال السنوات العشر الأولى من حكمه، لم تمضِ سنة واحدة دون حملةٍ عسكريةٍ لبيبرس على بلاد الشام، يقودها بنفسه أو يقودها أحد قادته الكبار، والعجيب أنّه في هذه الحملات العشر لم يخسر ولا حملةً منها.
Sunna Files Free Newsletter - اشترك في جريدتنا المجانية
Stay updated with our latest reports, news, designs, and more by subscribing to our newsletter! Delivered straight to your inbox twice a month, our newsletter keeps you in the loop with the most important updates from our website
كانت أجزاء كبيرة من بلاد الشام ما زالت تقع تحت سيطرة وحكم الصليبيين. بدأت الحملات الصليبية على المشرق الإسلامي 1096. كانت في مجملها حملات يقودها المُسمّى؛ البابا معنوياً، ويقودها ملوك أوروبا المتشوقون للغزو والنهب عملياً.
استطاع الصليبيون تأسيس أربع إمارات لهم في المشرق الإسلامي: كونتية الرها، وإمارة أنطاكية، ومملكة بيت المقدس، وإمارة طرابلس.
استطاع صلاح الدين الأيوبي أن يقضي على مملكة بيت المقدس ويستعيد الأراضي المقدسة في فلسطين بعد معركة حطين الحاسمة عام 1187، لكنّه لم يستطع أن يحرر بقية البلاد. بالطبع كانت معركة حطين محورية، فهي المعركة الأولى التي يهزم فيها المسلمون الصليبيين هزيمةً ساحقة ويستردون القدس، لكنّ المقاومة الإسلامية لهذا الاحتلال الصليبي ظلّت مستمرّة لقرنٍ آخر بعد صلاح الدين، لحين هزيمة الصليبيين في آخر معاقلهم، في عكّا عام 1191.
معركة أرسوف بين قائدين
وقعت معركة أرسوف الأولى عام 1191 بين صلاح الدين الأيوبي وريتشارد قلب الأسد، وهي جزءٌ من الحملة الصليبية الثالثة التي جاءت لإعادة السيطرة على المناطق التي استعادها صلاح الدين منهم بعد معركة حطين.
تقابل الفريقان في منطقة أرسوف التابعة ليافا، هاجم المسلمون بينما أراد ريتشارد قلب الأسد أن ينهك جيش المسلمين في هجماته التي يصدّها فرسان الملقب يوحنا (فرسان الاسبتارية)، لكنّ الاسبتارية تحمسوا وهجموا على جيش صلاح الدين.
كان هجوم الصليبيين قوياً وغير متوقع، لذلك استطاع صلاح الدين أن يلملم جيشه وينسحب انسحاباً تكتيكياً، ويبدو أنّه كان يخطط للدخول في عدّة معارك متتابعة تتعب التحالف الصليبي، لكنّ ريتشارد قلب الأسد أدرك السياسية أنّه لن يستطيع الدخول في سلسلة معارك متتابعة، فلم يأكل طعم صلاح الدين وانتهت الحملة لاحقاً بالتفاوض.
توفي صلاح الدين بعدها بسنتين فقط، في عام 1193، لكنّ منطقة أرسوف كانت على موعدٍ آخر، معركة أرسوف الثانية عام 1265.
بعد توليه السلطنة بدأ الظاهر بيبرس حربه الشاملة ضد الصليبيين عام 1265، وفق ما ذكر المؤرخ اللبناني محمد سهيل طقوش في كتابه “تاريخ المماليك في مصر وبلاد الشام”. كانت أولى حملاته الكبيرة في شهر فبراير/شباط 1265، فقد توغّل الصليبيون في بعض أراضي فلسطين، وظهرت بعض التهديدات المغولية في بلاد الشام. عندها خرج بيبرس على رأس جيشٍ كبير متظاهراً بأنّه سينطلق إلى رحلة صيد في التلال القريبة من مدينة أرسوف.
لكنّه فجأةً ظهر أمام مدينة قيسارية وحاصرها حتّى وقعت في يده، وبعد أيّام ظهر بيبرس وجيشه فجأةً قرب حيفا، فهربت حاميتها من خلال البحر.
ثمّ جاء الدور على حصن أرسوف، وقد كان تحت سيطرة فرسان الملقب يوحنا (الاسبتارية)، وقد أخذوا استعدادهم للحرب والحصار، فملأوا المدينة بالمؤن والعساكر.
نقل بيبرس كميات ضخمة من الأخشاب لتكون سواتر لجيشه. ضرب بيبرس الحصار على أرسوف وبدأ مهندسو الجيش في حفر الأنفاق. استطاعت قذائف المجانيق أن تهدم الأسوار من خلال الثغرات فيها، وبدأ الزحف إلى داخل المدينة.
دخل جيش بيبرس إلى المدينة، لكنّ الحامية الصليبية تحصّنت في قلعتها، فبدأ دكّ القلعة بالمنجنيق طيلة 3 أيام، وفي النهاية طلب قائد القلعة الأمان من بيبرس، فأعطاه الأمان واقتيد كلّ الصليبيين المتبقين أسرى إلى مدينة الكرك.
سقطت أرسوف بعد 40 يوماً من الحصار المحكم، والمقاومة الشديدة من الصليبيين. وقد قسّم بيبرس أبراج المدينة على أمرائه لكي يهدموا القلاع، وقد كانت تلك استراتيجية الظاهر بيبرس في كلّ المدن التي حررها من الصليبيين، فقد كان يهدم القلاع والأبراج كل لا يحاول الصليبيون أن يعودوا إليها بعد خروج جيش المماليك منها.
مثّل سقوط مدينتي قيسارية وأرسوف في يد الظاهر بيبرس هزّة كبيرة لدى الصليبيين، الذين كانوا عاجزين عن الرد، فلم يكن هناك قائدٌ موحّد للمدن والجيوش الصليبيّة، كما أنّ تحرّكات بيبرس كانت مفاجئة لهم دائماً، كما أنّه اتبع طريقة الحروب المتتابعة التي لا تعطي للصليبيين فرصة لإعادة تجهيز أنفسهم لمواجهته في المعركة اللاحقة.
وقد كانت معركة أرسوف التي انتصر فيها بيبرس ودكّ قلاع وأبراج المدينة، معركة مهمة، فمنها يستطيع الانطلاق إلى بقية مدن الساحل الشامي التي يحتلّها الصليبيون.