مرت روسيا بكثير من الأوقات الصعبة، وكل فترة كان لها طابعها الخاص، وتميزت هذه المنطقة بقساوة العديد من حكامها، إلا أن فترة حكم إيفان الرهيب كانت من أكثر الفترات قسوة ووحشية؛ لأنه اعتمد على جميع أساليب بث الرعب في قلوب الناس لتثبيت حكمه، متجرداً من الرحمة.
وقد ابتكر إيفان الرهيب بداية حكمه أدوات مرعبة تساعده في إقصاء معارضيه وترسيخ حكمه المطلق على الرعية، أبرزها تأسيس قوة عسكرية خاص لتقوم بمهام البوليس السري أطلق عليها اسم أوبريتشنينا، وكان هؤلاء هم الحراس الشخصيون للقيصر الذين سيطروا على أراضٍ واسعة، وعرفوا عبر التاريخ باسم “كلاب القيصر”، وأصبحوا يضربون بيد من حديد، وكان مجرد ذكر اسمهم أو رؤيتهم كفيلاً ببث الفزع في القلوب.
عودة للوراء.. شخصية إيفان الرهيب وتوليه الحكم
عندما توفي والده فاسيلي الثالث، كان إيفان الرابع يبلغ من العمر 3 سنوات فقط، مع ذلك توج أميراً على موسكو في عام 1533، لتتولى والدته إيلينا جلينسكايا الوصاية عليه حتى يبلغ سن الـ15 ويحكم روسيا بنفسه.
كان يحكم روسيا فعلياً، بعد وفاة القيصر فاسيلي الثالث، طبقة من النبلاء الإقطاعيين الذين كانوا يسمون “البويار”، أي “المجلس المختار”، وبدورهم أنكروا حق إيفان تماماً في العرش، إلا أن والدته استطاعت، بالتحالف مع بعض أعضاء المجلس الموثوق بهم، المشاركة في حكم البلاد، إلا أنها توفيت مسمومة في أغلب الظن، تاركة إيفان الذي يبلغ 8 سنوات يتيماً.
بعد وفاة والدته، ظل إيفان معزولاً يعيش مع أخيه في فقر تحت رحمة واستغلال البويار الذين فقط كانوا يستدعونه لحضور بعض الحفلات كورقة في يد أعضاء المجلس المتنافسين فيما بينهم، حيث وصل حد التنافس بينهم إلى عداء دموي وقتل وتخريب، وإساءات كثيرة طالت إيفان المراهق.
في 29 ديسمبر 1543 فاجأ إيفان البويار بدعوتهم جميعاً إلى اجتماع، وبرزت على ملامح الطفل الشراسة والصرامة، وأدانهم لإهمالهم له وللأمة، وندد بهم لسوء سلوكهم، وفتك بزعيم البويار وألقاه للحيوانات الجائعة، وبعد هذه الحادثة اعترف المجلس بشرعيته المطلقة في الحكم.
في بداية عام 1547، توج إيفان قيصراً في الكنيسة في موسكو، ثم تزوج من أنستازيا رومانوفنا، وكان منشغلاً في تلك الفترة مع زوجته وأبنائه في قضاء الكثير من الوقت في الكنيسة ، ثم شرع في إحداث بعض الإصلاحات السياسية والاقتصادية والقضائية، والعلاقات مع الدول والممالك الأخرى، وأسس له مجلساً خاصاً من البويار أسماه المجلس المختار؛ لمساعدته في إدارة البلاد.
حادثتان أفقدتا إيفان الرهيب عقله ليبتكر “كلاب القيصر”
ما دفع إيفان إلى الحافة وحوله من حاكم عاقل نسبياً إلى طاغية كانا حدثين شكلا نقطتين مفصليتين في حياته، فضلاً عن طفولته المضطربة والبائسة، الأول كان خيانة صديقه المقرب له وأحد مستشاريه من النبلاء، الأمير أندريه كوربسكي، الذي انشق على القيصر منضماً إلى جانب الليتوانيين، في حربه الليفونية التي خاضها عام 1558، في محاولة لتأسيس الحكم الروسي في ليفونيا (لاتفيا وإستونيا حالياً).
أما الحادثة الثانية فقد كانت بعد وفاة زوجته المحبوبة أنستازيا عام 1560، فقد أفقدت تلك الحادثة الرجل عقله وجعلته يعاني من انهيار عاطفي حاد، ودخل في حالة هستيرية، حتى إن ملامح كبر السن بدأت بالظهور عليه، كما بدأ الشعر الأبيض يغزو لحية الشاب الثلاثيني إيفان.
اتهم إيفان الرهيب البويار بقتلهم زوجته بالسم، كما فعلوا بوالدته، في حين لم يتم العثور على دليل على وجود سم في ذلك الوقت، إلا أن فحوصاً أجريت على عظام زوجته في القرن العشرين كشفت عن وجود مستويات عالية بشكل غير عادي من الزئبق؛ ما يشير إلى أن الملك الشاب المصاب بجنون العظمة ربما كان على حق، وفقاً لموقع sky history.
كان رد فعل إيفان على وفاة زوجته وخيانة صديقه هو نقل نفسه من موسكو إلى أليكساندروف، على بعد 120 كيلومتراً شمال شرق العاصمة الروسية، وهناك كتب رسالتين تشيران إلى نيته التنازل عن العرش بسبب خيانات البويار له.
حاول مجلسه من النبلاء ورجال الدين الحكم في غيابه، ولكن عندما ثبت أن ذلك مستحيل، تم إرسال مبعوث لمطالبة إيفان بتغيير رأيه، كما ناشده سكان موسكو بقيادة رجال الدين بالعدول عن قراره، وأن يستمر في حكمهم نتيجة لما حدث من اضطراب وفراغ سياسي.
وافق إيفان على ذلك، ولكنه اشترط عليهم منحه الحق الشرعي بالتعامل كما يشاء مع من خانوه من النبلاء في البويار، وإعدام أي شخص يشتبه بارتكابه الخيانة، والاستيلاء على أراضيهم ووضعها تحت سيطرته المباشرة، عبر تشكيل أوبريتشنينا لممارسة هذه الإجراءات، ليبدأ حرباً مسعورة ضد جميع من يشك بولائهم، حتى أولئك المقربين إليه، فارتكب بذلك العديد من أشنع المجازر التي عرفتها روسيا عبر تاريخها.
الأوبريتشنينا.. عصر الإرهاب الدامي
في فبراير من عام 1565، عاد إيفان إلى موسكو لينشأ الأوبريتشنينا التي أصبحت دولة بوليسية منفصلة داخل روسيا، معلناً للشعب أنه سيستمر في الحكم، لكن البلاد ستنقسم إلى قسمين، نصفه سيكون مملوكاً بالكامل للقيصر وقوة الحراسة التي سيختارها شخصياً، والنصف الآخر من قبل البويار والنخبة السياسية، كما كان الحال في الماضي.
وفي هذا الإعلان القيصري، أخبر الشعب بأن جميع الطبقات الأخرى ستستمر في حياتها الخاصة، ولن تكون مطلعة على الشؤون الداخلية للملك إلا في ظروف استثنائية، ومنذ ذلك الحين، عاش إيفان حصرياً وسط حاشيته، وانسحب من الإدارة اليومية للجهاز الإداري لروسيا، ولم يعد يتواصل إلا مع حرسه الذين قاموا بفرض سطوتهم على كل شخص خارج دائرة إيفان المباشرة، وهم في مأمن من العقاب.
كان عدد الأوبريتشنينا في بداية الأمر ألفاً من الأوبريتشنيك، يختارهم القيصر الرهيب شخصياً من الطبقات الدنيا في المجتمع الروسي، والمعايير الرئيسة هي ألا يكون لديهم أي روابط مع أي من السلالات النبيلة نهائياً، وقد عُرف العضو باسم أوبريتشنيكي.
وقد حدد أن يخضع كل واحد منهم لعدة اختبارات قاسية لقياس ولائهم الأعمى من ناحيته، وصلت أحياناً لأن يقتلوا ذويهم وأصدقاءهم، ثم يتعهد كل عضو بالولاء للقيصر والعيش وفقاً لقانون خاص، وهو الامتناع عن مشاركة أي شخص لم يكن عضواً في الأوبريتشنينا بأي شكل من الأشكال، لدرجة ألا يأكل ولا يشرب مع غير الأعضاء، وإذا انتهك أحد الأعضاء هذه القواعد، سيتم إعدامه هو والشخص الآخر.
عاش الأعضاء في جزء منفصل من المدينة، في العديد من المناطق المركزية في موسكو مثل حي آربات وشارع بولشايا نيكيتسكايا، وقد أمر إيفان بتلك الفترة بطرد حراسه وحراس مستشاريه وأمرائه السابقين بطريقة مذلة.
وخلال فترة قصيرة زاد عددهم إلى 6 آلاف، وزاد نفوذ حراس إيفان الجدد، وبدأوا يظهرون للناس بشكل مرعب، حيث كان يرتدي أعضاء الأوبريتشنينا ملابس سوداء طويلة مستوحاة من الكنيسة، وهي الألوان التقليدية للموت، ويمتطون الخيول السوداء الضخمة، يعلقون عليها رؤوس كلاب مقطوعة لتدل على الخونة وأعداء القيصر، ومكنسة تدل على تنظيف البلاد منهم.
كلاب القيصر.. دولة داخل دولة
كان الغرض الأساسي والسياسي وراء هذا التنظيم هو منع المعارضة في البلاد، وترسيخ سيطرة إيفان الرهيب، وفي ذلك الوقت ظهر مصطلح “الجريمة ضد صاحب السيادة” لأول مرة كسبب فعلي للانتقام.
ولكن سرعان ما أصبح الأوبريتشنينا يمثلون دولة داخل دولة، وأصبحوا يمارسون جميع أنواع الإجرام، حتى صار مشهداً شائعاً في البلدات والقرى، رؤية الفلاحين والطبقات الوسطى يهربون من أجل النجاة بحياتهم عندما تنتشر الأخبار أن الأوبريتشنيكي في المنطقة.
كان الأوبريتشنيكي عديم الرحمة، له صلاحية مطلقة في تعذيب وقتل أي شخص يشتبه في عدم ولائه، وقد شملت أساليب الإعدام غَلْي الشخص وهو حي، أو تعليقه وقتله بالخازوق، أو شويه على النار، أو تمزيقه بعد ربطه بأرجل أحصنتهم الشرسة. كما تعرضت النساء لعمليات اغتصاب وقتل جماعي.
ارتكب أعضاء الأوبريتشنينا عدداً من المجازر في مختلف المناطق، ولكن أبرزها كان ما حدث في مدينة نوفغورود، ثاني أكبر مدينة في روسيا، وأقوى منافسي موسكو.
بسبب الشك.. إعدام جماعي في مدينة نوفغورود
فبعد أن تفشى الطاعون في روسيا في عام 1570، مودياً بحياة ما يزيد عن 10 آلاف في مدينة نوفغورود، وقرابة ألف شخص يومياً في موسكو، وانتشرت المجاعات في ظل استمرار حرب ليفونيان عديمة الجدوى، شعر إيفان الرهيب بالشك من أن النبلاء ورجال الدين في مدينة نوفغورود الغنية كانوا يخططون للانشقاق عنه.
فقرر القيصر استباق الأحداث ومداهمة المدينة ونهبها مع القرى المحيطة بها، وأمر هناك أعضاء الأوبريشنينا بارتكاب أبشع المجازر، وتنفيذ عمليات الإعدام الجماعية، والسرق والنهب، فقد أضرم النار في السكان، وألقى بهم في نهر موسكفا، ومن كان لا يزال على قيد الحياة كان يلقى حتفه على يد الأعضاء في القوارب.
كما قاموا باقتحام الكنائس وقتل رهبانها، وكان من بين القتلى رئيس الكنيسة، المتروبوليت “الأسقف” فيليب كوليشيف، الذي انتقد الأوبريشنينا، وتم خياطة جلده مع جلد دب، كما جمع الكهنة والرهبان وضربوا حتى الموت، فيما نهبت كنائسهم وأديرتهم، وتعرض تجار ومسؤولون ونبلاء بارزون للتعذيب والإعدام، كما تم ربط الرجال والنساء والأطفال بالزلاجات، والتي كانت تصب بعد ذلك في المياه المتجمدة لنهر فولخوف، حتى أصبحت الجثث تغمر ضفافها.
وقد أسفرت هذه المذابح الجماعية عن مقتل ما لا يقل عن 12 ألف شخص من مواطني المدينة، وتدمير بنيتها الإدارية والدينية، وسرقة مركزها التجاري ومعظم ثروتها، حيث دمر الهجوم المدينة تماماً بحيث لم تعد ثاني أقوى مدينة في روسيا، واستغرق الأمر قروناً من الزمان حتى تتعافى نوفغورود بالكامل من هذا الهجوم.
نهاية كلاب القيصر بسبب تتار القرم
على الرغم من أن مذبحة نوفغورود كانت نقمة على الروس، فقد كانت أيضاً آخر مسمار يدق في عرش الأوبريشنينا المكروهين، فقد استمرت سياسة أوبريتشنينا 7 سنوات فقط، من عام 1565 إلى عام 1572، عندما أُلغيت نتيجة للفشل في الدفاع عن موسكو من هجوم تتار القرم.
حيث اندلعت الحرب الروسية العثمانية الثانية عام 1571 على أثر قيام 120 ألف جندي من جيوش تتار القرم التابعين للجيش العثماني، بقيادة الخان دولت كراي الأول، باجتياح موسكو في شهر مايو/أيار من العام ذاته، وأشعلوا فيها النيران بما يعرف بـ”حريق موسكو”، بهدف استعادة مدينة أستراخان من الروس.
ويعتبر هذا الحريق من أعظم الحرائق في تاريخ المدينة، حيث فرّ الناس إلى الكنائس الحجرية هرباً من النيران، لكنّها انهارت فوق رؤوسهم، وآخرون قفزوا في نهر موسكو ومات الكثير، ويقدر المؤرخون عدد ضحايا الحريق من 10 آلاف إلى 80 ألف نسمة.
وفي يوليو/تموز عام 1572 واجهت قوات القرم العثمانية الجيش الروسي البالغ 60 ألفاً بقيادة الأمير ميخائيل فورتنسكي، في معركة اندلعت بالقرب من قرية مولدي جنوبي موسكو، انتصر فيها الجيش الروسي الذي استطاع محاصرة التتار من مناطق مختلفة، فضلاً عن استخدام الجيش الروسي المدفعية.
وقد هزم جيش القرم المدعوم عثمانياً تماماً، حيث لم يبقَ من الجيش سوى 10 آلاف جندي استطاعوا العودة إلى القرم، الأمر الذي أدَّى إلى تخلِّي السلطنة العثمانية وخان القرم التابع لها، عن خططهما الطموحة للتوسع شمالاً في روسيا.
النهاية
اتهم إيفان الرهيب أعضاء الأوبريتشنينا بالفشل في الدفاع عن موسكو، وبعدم ولائهم له، وكما هو الحال كان شكه سيد الموقف، وقد أمر بحل الأوبريتشنينا وأُعيد دمج حرسه مع الجيش الروسي، وأُعيدت بعض العقارات التي صادرها أتباع إيفان إلى أصحابها، وصار نطق كلمة أوبريتشنينا بعد ذلك جريمة يعاقب عليها بالإعدام، وانتهت بذلك حقبة حالكة في روسيا تزعمها إيفان الرهيب، الذي ظل يحكم حتى وفاته في 28 مارس/آذار 1584.
Sunna Files Free Newsletter - اشترك في جريدتنا المجانية
Stay updated with our latest reports, news, designs, and more by subscribing to our newsletter! Delivered straight to your inbox twice a month, our newsletter keeps you in the loop with the most important updates from our website