لم يكُن ذلك الرجل المتحدث الذي التقاه المخرج الوثائقي الجزائري بوعلام قريتلي، بغرض إنجاز فيلم عن صقلية أو الأندلس الأخرى، شخصاً عادياً. كان يتحدث عن قصة إسلامه المدهشة بصفاء نادر، وبعبارات ملهمة على الصعيدين الذاتي والإنساني. لخّص المشهد بكلمات تخترق القلوب والعقول معاً، لمّا قال له: ” ثمة علاقة وطيدة بين الحقبة الإسلامية لصقلية خلال القرون الوسطى وبين إقبال عدد كبير من الإيطاليين على اعتناق الإسلام. يشبه الأمر بتلك الحديقة المقفرة والجرداء التي سرعان ما تخضر ساعة هطل المطر فتخرج الحياة الجديدة من الموت القديم. هكذا فإن تلك البذور التي غرسها الإسلام في هذه الأرض الصقلية في القرنين العاشر والحادي عشر الميلاديين، ستطلع من مدافنها لتزهر من جديد، كما لو أن صقلية كانت مسرحاً تعايشت فيه مظاهر روحية عالمية عدّة متجانسة في كنف الذكاء والإبداع. كما هو الحال اليوم، يمكن للمسلمين وقد توافرت لهم الظروف المتاحة لممارسة معتقداتهم وروحانياتهم دونما تعارض مع باقي الثقافات”.
لم بتردد في سرد قصته وكيف وصل إلى هنا
1- السائحة الأمريكية التي هدته إلى نجمة الكعبة
دأب الشاب الإيطالي تشيزاري تيني على ممارسة عمله اليومي في ترميم فسيفساء الكنائس التي تعج بها مدينة باليرمو عاصمة جزيرة صقلية، بما تأتى له من علم ومعرفة ودراسات في مجال الترميم الفني، لاشتغاله فيه لسنوات طويلة أعقبت حصوله على دبلوم فني وشهادة التأهيل من السجل التابع لوزارة التراث الثقافي الإيطالية.
وفيما كان يشتغل ذات يوم في تصليح أجزاء بلاطة بمطرقة وإزميل، في أرضية كنيسة مونريالي التي تضررت مكوناتها تحت أقدام العدد الهائل من السياح الذين يقصدونها، كواحدة من المعالم التاريخية جنوبي إيطاليا، حتى وقفت أمامه سائحة أمريكية من أصول صقلية لتسأله سؤالاً محيراً:
-هل تعرف سر تلك الفسيفساء ذات النجمة، فهي تبدو مختلفة من حيث الاتجاه خلافاً لباقي البلاطات.
كان يعرف أن كنيسة مونريالي هي معمار نورماني خالص، يعود للملوك النورمان، “رجال الشمال”، السلالة المنحدرة من منطقة النورماندي شمال فرنسا، والمنصهرة بين العرقين الغالي والفايكنغ، الذين حكموا صقلية في العصور الوسطى، لذا فقد اكتفى بالجواب المقتضب:
– نعم لاحظت ذلك وتساءلت كثيراً عن السر، لكنني أجهل السبب.
أخبرته السائحة الأمريكية الغريبة، أن أسلافها قالوا لها بأن تلك النجمة مختلفة لأن صانعها فنان مسلم فضل أن يحوِّل وجهتها صوب قبلة المسلمين في مكة، عندما كلف الملك النورماني غيوم الثاني مهندسين وحرفيين مسلمين بزخرفتها، بين أعوام 1174 و1182 الميلاديين.
يطلعني تشيزاري أن تلك الحادثة العادية، وقد مضى عليها أكثر من عقد ونيف، غيَّرت حياته بطريقة غير عادية كإنسان.
Sunna Files Free Newsletter - اشترك في جريدتنا المجانية
Stay updated with our latest reports, news, designs, and more by subscribing to our newsletter! Delivered straight to your inbox twice a month, our newsletter keeps you in the loop with the most important updates from our website
ولسوف يكون لقطعة النجمة الفسيفسائية المنشأة منذ ثمانية قرون خلت، دور مثير في إحياء الذاكرة التاريخية، واستحضار العصور، ليتوجه رأساً إلى البحث والاستقراء، ليغوص بالأثر الرجعي إلى حقبة زاهية عاشتها صقلية على مدار قرنين، أيام حكم الأغالبة والفاطميين.
بدا كما لو أن مستقبله الشخصي رهين لتركة الماضي التي خلفها الأسلاف فوق الأحجار.
2- البروتستانتي يتعرف على أخلاق المهاجرين في مزارع الجنوب
وُلِد تشيزاري في عائلة مسيحية بروتستانتية، من خمسة أفراد، وهي أسرة تنتمي للطبقة الكادحة. صغيراً كان يسافر للأرياف المحيطة بباليرمو للعمل الفلاحي، وفي تلك المخيمات القروية التي يجمع فيها العمال، تعرف على أصدقاء مهاجرين مسلمين ينحدرون من الجزائر والمغرب وتونس والمغرب ومن دول الساحل الإفريقي، ومع هؤلاء البسطاء الباحثين عن حياة أخرى تعرف على حياة أخرى، إذ يقول: “تعلمت أصول الدين الإسلامي، كما أحببت أسلوب حياتهم اللطيف والأخوي فانبجست في قلبي جاذبية قوية لذلك العالم الذي شعرت بقوة أنه ملك لي أيضاً”.
ثم إنه شرع في البحث في تاريخ البحر الأبيض المتوسط من وجهة نظر أخرى، ولذلك لم يعد نموذج العالم الغربي يستجيب لنظرته للحياة بل كان معارضاً للقيم التي يؤمن بها، لذا لا يشعر بالخجل حين يردف: “عندما اطلعت على التاريخ الاستعماري للغرب والفظائع التي ارتكبها باسم استغلال الآخرين رأيت أنه نموذج فاسد. أما مبادئي الشخصية فهي دائماً ما كانت وستكون الدفاع عن السلام ومحاربة الشر”.
ثم جاءت حادثة كاتدرالية مونريالي التي لفتت نظره إلى أنه مجرد بذرة في حديقة ميتة، ساهمت فيها فلتة من فلتات الزمن في إحيائها، فقرر أن ينمي فكرة اعتناقه للإسلام، شأنه شأن كثير من الإيطاليين الذين أسلموا أو صاروا أقرب إلى الشرق عقب اكتشافهم الموروث الهائل للحضارة الإسلامية عندما كانت صقلية “دار الإسلام” وقطعة من فضاء الشرق لأكثر من مئتي عام.
3- رحلة لأداء الصلاة في مسجد مهجور منذ 800 عام
عندما تجولت في مدن تشاكا والأقريجنتو وباليرمو لم يتملكني إحساس الغرباء، ويمكنك أنت إذا ما زرت هذه الربوع أن ترى أثر الشرق في “شارع لاتاريني” المكتوب باللاتينية والعربية والعبرية، والسبب أن أصله عربي خالص هو “شارع العطارين”، ثم وبعد فترة وجيزة ستسمع في الأسواق كلمات إيطالية مثل “كوفا” وتعني القفة، و”مسكينو” وتعني “المسكين” و”مازارا” المعصرة، وكل هذه الكلمات التي يتطابق فيها المعنيان العربي والإيطالي أمثلة فقط من 500 كلمة صقلية ذات أصل عربي، كما يمكن أن تشم بعض روائح المطبخ الشرقي عبر زقاق الكسكس، ولا تستغرب إذا ما رأيت عجوزاً تفتل ببراعة ذرات الكسكس، الذي يُطهَى هنا كل أحد، كما يطهى في الجزائر أو تونس والمغرب كل جمعة. تغيرت الأيام لكن الطبق بقي هناك كما هو هنا، تماماً مثل ما بقي صيادو مناطق غرب صقلية يغنون أغنية “أيامولا” لحظة رمي “الشباكو” أي الشبكة طمعاً في أسماك التونة، أما أغنية البركة فعائدة للعصور الإسلامية وتعني “آه يا مولى” وواضح أنه دعاء للمولى لكسب الرزق.
إن مخلفات البصمة التراثية الإسلامية والعربية، واضحة في الأسماء، فمدينة تشاكا التي حللت بها تعني “الشقة” لكونها واقعة في شق بين جبلين، أما كالتابلوطا فهي “قلعة البلوطة”، فيما تعني “كالتاستا” قلعة الستات أو قلعة النساء.
يطلعني تشيزاري على أن شواهد كثيرة لا تزال قائمة هنا، فيقول: “في باليرمو كنائس بها أعمدة مزخرفة بآيات قرآنية، مثلها مثل رواق كنيسة مارتورانا ومدخل كاتدرائية باليرمو، كما توجد مساجد قديمة بناها الفاطميون على وجه الخصوص، إنماءً للنواحي الثقافية والفنية والعلمية للمنطقة برمتها”.
قبل أعوام، قرر هذا الحرفي اعتناق الإسلام بصورة نهائية بعد فترة من القراءة والبحث والتأمل و التنقيب، بعد أن واظب لفترات طويلة على شراء القرآن المترجم ما بين الإيطالية والعربية، ثم بدأ الاهتمام باللغة والأحرف العربية فتمكن من قراءتها بغرض قراءة الكتب الكثيرة قبل أن يرتاد المسجد، وتحديداً مسجداً كانت تديره القنصلية التونسية بباليرمو، وطبيعي أن يواجه كرجل ينتمي لعادات ثقافية غربية صعوبة في بعض الشرائع الصارمة، غير أنه تقرب من الفكر الصوفي الذي ألهمه حياة روحية، فصار له أصدقاء منهم
وقبل أعوام ذهب تشيزاري رفقة مسلمين إيطاليين ومهاجرين في زيارة لمنطقة أثرية تقع قرب معبد سيجيستا الواقع على بعد 50 كلم غرب باليرمو، بحثاً عن أنقاض مسجد قديم، فيصف ما وقع: “كانت رحلة ممتعة، والمكان ساحر، لقد اكتشفنا الأساسات وكانت سليمة، كما كان حوض القبلة واضحاً للعيان، فأدينا فيه صلاة المغرب بعد 800 سنة من الإهمال والنسيان”.
يعترف أن تحوله للدين الإسلامي، تم بسلاسة تامة، إذ لقي احتراماً وقبولاً لدى عائلته وأصدقائه، ودون شك يوعز ذلك إلى أن الضمير الجمعي هنا، لا يزال يحترم العالم الإسلامي والعربي، جراء تراكم الدَّيْن التاريخي.
4- عازف عود ومؤسس فرقة “صقلية” الموسيقية
تعلم شيزاري فن الموسيقى عبر العزف على آلة العود، ولا يخالجك الشك مطلقاً وأنت تراه يعزف باندماج، بأنه شرقي بالطبع والطباع، لعل ما ساعده على البحث والاكتشاف ميله الفطري للفنون، لا بل إنه أسس رفقة زميل له فرقة موسيقية صوفية تسمى “صقلية”، عاقداً العزم على البحث في التراث القروسطي للجزيرة، والتنقيب عن الأناشيد الدينية والروحية ضمن إطار “الموسيقى المقدسة” المنتشرة في أصقاع العالم خاصة في آسيا. على نحو ما فكر في صناعة الآلات الموسيقية انطلاقاً من النقوش والزخارف التي زين بها المعماريون المسلمون أسقف كنيسة البلاتينا بباليرمو، وهي من اكثر الكنائس مزينة الأسقف في العالم، وعبر ذلك يمكن معرفة كيفية صناعتها والعزف بها للتعرف على الأصوات والأنواع الموسيقية التي سادت الجزيرة في القرن الثاني عشر الميلادي، لكنه توقف لظرف قاهر، لما رحل شريكه في المشروع إلى مناطق أخرى بحثاً عن العمل والرزق.
5- متزوج من إيطالية مسلمة، وابنه سُمِّي بنجم مذكور في القرآن
الانغماس الصوفي لتشيزاري الذي يبلغ اليوم 60 سنة، عزَّز قناعاته الإنسانية، فهو يعتقد أن الله هو رب جميع الكائنات
وايضا كان نظم قبل أعوام جلسة إنشاد صوفي إحياء للمولد النبوي الشريف، جمع فيه المسلمين. كما دُعِي للجلسة الروحية بوذيون ومسيحيون، وهو كان في واقع الحال يكرر في صقلية العائشة في القرن الحادي والعشرين، صقلية التي سادت في القرن الثاني عشر، عندما كانت فضاء مشتركاً بين المسلمين والمسيحيين النورمان، كما كان يعيش فيها اليهود في العصر الفاطمي.
اليوم يعيش تشيزاري برفقة زوجته غراتسيا، أو “نور” كما سمَّت نفسها بعد إسلامها، في مقاطعة تراباني على الساحل الغربي للجزيرة، تتبعاً لمشروع ترميم معلمة بالمتحف الجهوي لمنطقة بيبولي، ومن محاسن الصدف أنها تقع قرب بلدة سان فيتو لي كابو القريبة، التي تحتضن سنوياً مهرجان طبق الكسكس.
له ولد وحيد يقطن جزيرة صغيرة تدعى فافينيانا، وقد منحه لحظة ميلاده اسماً ذا علاقة بالنجمة الفسيفسائية التي قادته إلى الكعبة، حين سمّاه “سيريوس”، ويعني “نجم الشعرى”، ذلك النجم العظيم الذي ورد ذكره في القرآن الكريم عبر سورة كاملة هي سورة النجم.