إن فاجعة سقوط دولة الإسلام في الأندلس، وما تعرض له المسلمون هناك من صنوف التنكيل والعذاب والتنصير القسري، أدمت قلوب كثير من المسلمين وأحزنتهم، خاصة كلما توالت أنباء نكبة المسلمين هناك، فلم يكن سهلًا ولا هينًا على قلوب المخلصين مصرع دولة عريقة استمرت أكثر من ثمانية قرون، ولم يكن هينًا عليهم أنباء المذابح والانتهاكات التي تعرض لها مسلمو الأندلس.
وظن كثير من المسلمين أن استغاثة مسلمي الأندلس لملوك المسلمين في شتى بقاع الأرض قد ذهبت سدى، على الرغم من وجود دول قوية في هذا الوقت؛ مثل الدولة العثمانية، ودولة المماليك في القاهرة والشام، وغيرهم في بلاد المغرب، وهذا الظن عند التحقيق التاريخي ينقلب إلى وهم كبير، وهناك العديد من الأبطال الذين قاموا بأروع الأدوار في إنقاذ مسلمي الأندلس من نير الصليب الإسباني، وهؤلاء الأبطال للأسف الشديد لا يعرف عنهم أبناء المسلمين أي شيء تقريبًا، وهذه قصة واحد من أعظمهم.
الجزائر والدولة العثمانية:
كان سقوط دولة المماليك في مصر والشام، وانضمام هذه البقاع الغالية للدولة العثمانية، إيذانًا بقيام الخلافة العثمانية بمعناها الواسع والشامل، وكان أيضًا إيذانًا بتوجيه أنظار كل من العثمانيين والأوروبيين الصليبيين؛ وخاصة الأسبان والبرتغاليين لأهمية الشمال الإفريقي وسواحل المغرب العربي؛ خاصة الجزائر وتونس لتوسطهما الجغرافي بين المشرق والمغرب.
وكان حكام الجزائر وتونس في منتهى الضعف والذلة والتبعية المهينة لصليبيي إسبانيا، مما دفع بأهل الجزائر إلى طلب النجدة من السلطان “سليم الأول” الذي تعاون مع الأخوين “خير الدين بربروسا” و”عروج” وكانا من أبطال الإسلام، ومن أعظم بحارة التاريخ، واستشهد “عروج” في فتح الجزائر، وبقي “بربروسا” حتى فتحها وأزال كل العقبات الداخلية، ونقل الجهاد إلى بلاد تونس مع محاولات كثيرة لفتح المغرب الأقصى، وتصدى لمحاولات إمبراطور إسبانيا “شارلكان” تفتيت الوحدة الإسلامية، واحتلال سواحل تونس.
تولى قيادة العمل الجهادي بالشمال الإفريقي العديد من الأبطال الذين حققوا إنجازات بحرية هائلة ضد الهيمنة الإسبانية والبرتغالية في هذه الفترة، وقهروا الكثير من قادة أوروبا الصليبية، مثل: “شارلكان” و”هنري الملاح” و”سبستيان”، من هؤلاء الرجال “خير الدين” و”عروج” و”حسن الطوشي” و”طرغود” و”صالح الرايس” و”حسن خير الدين”، وبطلنا هذا الذي قام بأعظم الأدوار في نجدة مسلمي الأندلس، ونعني به الأمير “قلج علي”.
أمير الجزائر الجديد:
أصدر السلطان “سليم الثاني” فرمانًا بتعيين “قلج علي” أميرًا (بيلربك) على الجزائر، وذلك خلفًا للأمير السابق “حسن بن خير الدين بربروسا” الذي عين قائدًا عامًا للأساطيل العثمانية، وتم اختيار “قلج علي” لما عرف عنه من العزم في تسيير الإدارة والبطولة الحربية والشجاعة، والعاطفة الإسلامية الجياشة، خاصة نحو مسلمي الأندلس الذين يعانون أشد صنوف العذاب تحت نير الصليبية الإسبانية.
Sunna Files Free Newsletter - اشترك في جريدتنا المجانية
Stay updated with our latest reports, news, designs, and more by subscribing to our newsletter! Delivered straight to your inbox twice a month, our newsletter keeps you in the loop with the most important updates from our website
“قلج علي” والمشروع الكبير:
عندما تولى الأمير “قلج علي” الجزائر، لم يكن حديث عهد بهذه البلاد، بل كان علي دراية تامة وواسعة بأحوال المغرب العربي والأندلس، ودرس تاريخ هذه البلاد جيدًا، واطلع على كثير من خطط وتحركات الإسبان مما جعله يفكر في مشروع كبير وخطير في نفس الوقت، وبه كثير من الطموح الذي قد يقول عنه البعض أنه محض خيال وضرب من ضروب المستحيل، هذا المشروع هو تحرير الشمال الإفريقي كله من الجيوب الصليبية وتوحيد المغرب العربي كله من ليبيا إلى المغرب الأقصى، ثم الانتقال لإعادة دولة الإسلام بالأندلس مرة أخرى كما كانت من قبل، وقطعًا لو عرض هذا المشروع على أكثر الناس تفاؤلًا لقال فورًا: مستحيل، ولكن صاحب الهمة والعزيمة والإرادة الحديدية والتوكل التام على الله عز وجل لا يعرف مستحيلًا.
توحيد المغرب العربي:
كان الأمير “قلج علي” ينظر إلى بلاد المغرب نظرة موضوعية وعميقة، فبلاد المغرب تشمل كلًا من ليبيا وتونس والجزائر والمغرب الأقصى، أما ليبيا والجزائر فكلاهما ولاية عثمانية، وأما تونس فتحت حكم “الحفصيين”، وأما المغرب الأقصى فتحت حكم “السعديين” وكل من هؤلاء وهؤلاء في ضعف وهوان وخضوع كامل لإمبراطور إسبانيا والبرتغال، لذلك فقد كانت خطة العمل تقتضي البدء من تونس ثم المغرب.
وكان “قلج علي” مهتمًا بشدة بمنطقة شرق الجزائر لاتصالها بتونس، ولكونها ظهر قاعدة الانطلاق في الجزائر، فرأى أن يبدأ بتأمينها، فجهز “قلج علي” جيشًا كبيرًا مؤلفًا من نحو سبعة آلاف مقاتل، وكان الوزير “أبو الطيب الخضار” يعمل عند “الحفصيين”، ولكن يكره أفعالهم وخضوعهم لصليبيي إسبانيا، لذلك فلقد اتصل بالأمير “قلج علي” وسهل له طريق الفتح ويهون عليه أمر “الحفصيين”.
وصلت أخبار الهجوم الجزائري على تونس، فجهز سلطان الحفصيين “أبو العباس” جيشًا كبيرًا لصد هذا الهجوم، وبعد قتال عنيف انتصر “قلج علي” على “أبي العباس”، وفتحت تونس وأصبحت ولاية عثمانية، وإن كنت منطقة “حلق الواد” قد ظلت بيد الإسبان، لأن قوات “قلج علي” قد أنهكت في قتالها ضد الحفصيين، ولم تستطع مواصلة القتال مع الإسبان، لكن هذا الفتح أضعف الوجود والتأثير الإسباني بتونس للغاية.
ثورة مسلمي الأندلس:
كان من الطبيعي أن انتعاش حركة الجهاد الإسلامي في المغرب العربي برًا وبحرًا سوف يضغط على الإسبان ويحد من أنشطتهم التوسعية في حوض البحر المتوسط، ويخفف من ضغط صليبيي إسبانيا على مسلمي الأندلس الذين كانوا يتعرضون لأبشع وأفظع صنوف العذاب والنكال، ولما كان المسلمون نفوسهم وثابة وأبية مهما طال الظلم واستحكم، فإن مسلمي الأندلس قد تنادوا فيما بينهم بالثورة من جديد، خاصة في منطقة جبال “البوشارات”، وأصبحت إسبانيا ولأول مرة في وضع مضطرب، فالضغوط عليها من الخارج ومن الداخل.
عندما اشتعلت ثورة مسلمي الأندلس، كانت آمالهم معقودة على مسلمي المغرب، لأنهم أقرب الناس إليهم، ولاتصال التاريخ والمصير بين المغرب والأندلس، وذلك منذ الفتح الإسلامي للأندلس سنة 92 هجرية، ولما كانت هذه الأيام هي أيام الخيانة والعمالة والخضوع المهين لأعداء الإسلام، من أجل الدنيا وكراسي الحكم فإن رجاء مسلمي الأندلس قد ذهب أدراج الرياح، فسلطان المغرب “الغالب بالله السعدي” كان من طراز الحكام الذين لا يبالون بالدين ولا بأهله، ولا يعرفون إلا مصالحهم وأهواءهم، لذلك فقد بذل هذا السلطان الخائن وعودًا معسولة لمسلمي الأندلس، ووعدهم بالنصر والتأييد والمدد المادي والمعنوي، ولكنه في النهاية خذلهم وأسلمهم لعدوهم، وآثر روابطه وعلاقاته المتينة مع “فيليب الثاني” ملك إسبانيا الصليبي، شديد العداوة للإسلام كأبيه “شارلكان”، مما أدى في النهاية لفشل ثورة المسلمين بالأندلس.
“قلج علي” منقذ مسلمي الأندلس:
ولأن الله عز وجل لا يضيع أبدًا أمة الإسلام، وإن أضاعها الخونة والعملاء، فإن الله عز وجل دائمًا يقيض لهذه الأمة، من يعيد لها الأمل، ويبعث فيها نسائم الرجاء، فرغم خيانة “الغالب السعدي” فإن الأمير البطل “قلج علي” قد قام بأعظم الأدوار في إنقاذ مسلمي الأندلس وذلك على شكل الخطوات الآتية:
1- أنشأ قنوات اتصال دائمة مع قادة الثورة في الأندلس، وأشرفت المخابرات العثمانية بنفسها على هذه القنوات.
2- التنسيق مع قادة الثورة في اختيار توقيت الحركة والثورة، وتحديد أماكنها.
3- إنشاء قاعدة انطلاق ثابتة في مدينتي “مستغانم”، و”مازغران” بالجزائر، لتجميع المجاهدين والقوات العسكرية التي ستنطلق إلى الأندلس، وكانت الجيوش المتجمعة في هذه القواعد العسكرية مجهزة بالمدافع والذخائر ومشحونة بآلاف المجاهدين.
4- أعد أسطولًا قويًا مكونًا من أربعين سفينة مليئة بالرجال والسلاح، للهجوم في توقيت معين متفق عليه مع قادة الثورة، لوضع الإسبان في ارتباك وتشتت، ولكن سوء تصرف أحد قادة الثورة، أدى إلى اكتشاف الخطة، وأيضًا قامت زوابع بحرية شديدة أغرقت 32 سفينة من الأسطول.
5- لم ييأس “قلج علي” من فجيعة غرق معظم أسطوله، وعاود الكرة وأنزل هذه المرة أربعة آلاف مجاهد بالسلاح وانضموا لثورة مسلمي الأندلس.
6- أقنع “قلج علي” السلطان “سليم الثاني” بضرورة مواصلة دعم مسلمي الأندلس، وإعانة الثورة، فوافق “سليم الثاني” وأصدر بذلك فرمانًا في 23 شوال 977 هجرية.
وظل “قلج علي” يساعد مسلمي الأندلس ويمدهم بالسلاح وبالرجال ويضغط على القوات الإسبانية في البحر المتوسط وينقل المسلمين الفارين من الاضطهاد الصليبي بالأندلس، حتى إنه قد عزم على الذهاب بنفسه لقيادة الجهاد والثورة هناك، ولكن حدث ما لم يكن في حسبان “قلج علي”.