هناك شيء من التشابك بين التعليم المدرسي والتعليم الجامعي؛ فكلاهما ابتدأ في المسجد، كما أن كلمة جامعة مؤنث كلمة جامع، لذلك كان مكان الدين ومكان التعليم العالي مرتبطين تمام الارتباط. وليس لهذا مثيل في الثقافات أو اللغات الأخرى. وتُعد بعض المساجد من أقدم الجامعات في العالم، فما زالت الجامعات التابعة للمساجد بما فيها القرويين والأزهر قائمة حتى اليوم بعد أكثر من ألف سنة من تأسيسها. ويُعد الأزهر مركزاً محورياً للتعلم العالي في مصر، منذ جذب زبدة المفكرين، وجاءت شهرته من عراقته وخريجيه اللامعين؛ فابن الهيثم الذي غير تاريخ الفيزياء أقام هناك زمناً طويلاً، وابن خلدون عالم الاجتماع في القرن الرابع عشر كان مدرّساً فيه.
لم تكن الجامعات التابعة للمساجد تستقبل الطلبة المحليين فحسب، بل يرد إليها طلاب من مختلف أنحاء العالم. وهكذا كانت الجامعات العباسية في بغداد تعلم الطب وعلم الأدوية والهندسة والفلط وغيرها من المواد. استقبلت بغداد طلاباً من الشام وبلاد فارس والهند، كما كان من بين طلبة الأزهر أعداد كبيرة من خارج القاهرة. وقد خُصص للطلبة أجنحة سكنية مجانية تشتمل كل ردهة فيها على مكتبة ومطبخ وحمامات.
وكان في هذه الجامعات، كغيرها من الجامعات المرموقة، مكتبات استثنائية غير عادية، فيها كتب كثيرة، معظمها من هبات شخصية. كان بجامع الزيتونة في تونس، مثلاً، مخطوطات القواعد والمنطق والتجريح والتعديل وأصول البحث وعلم الكون والحساب والهندسة والمعادن والتدريب المهني. وكان في مكتبة عاتكة في القيروان التونسية ترجمة عربية لتاريخ الأمم القديمة الذي ألفه جيروم (St. Jerome) قبيل 420م.
كان التدريس على شكل حلقات، حيث يجلس الطلبة أمام المدرس على شكل نصف دائرة، ويُتاح للأساتذة الضيوف الجلوس إلى جانب المدرس دلالة على الاحترام. وعلى سبيل المثال كانت تعقد في مسجد عمرو جنوبي القاهرة أكثر من أربعين حلقة في بعض الأوقات، وفي الأزهر مئة وعشرون حلقة. وكانت المقررات الدراسية صعبة، والطب بوجه خاص يرقه الطلاب، كما هي الحال في جامعات اليوم، إذ كانت امتحاناته صعبة. ولا يُسمح للطالب بممارسة مهنة الطب إذا حصل على درجة أدنى من المقبول، ويعد حينئذ غير مؤهل لذلك. وبهذا النظام أسس المسلمون التعليم العالي: وضعوا نظام امتحانات القبول، والامتحانات النهائية، والشهادات العلمية، وحلقات الدراسة، والمنح الدراسية، وقبلوا طلبة من مختلف البلدان. والواقع أنه كان هناك تطابق ملحوظ مع الإجراءات التدريسية في جامعات اليوم.
Sunna Files Free Newsletter - اشترك في جريدتنا المجانية
Stay updated with our latest reports, news, designs, and more by subscribing to our newsletter! Delivered straight to your inbox twice a month, our newsletter keeps you in the loop with the most important updates from our website