كان قرار السعودية الأخير بسحب تقرير قناة «إم بي سي» الذي يسيء إلى الشهداء من رموز المقاومة في فلسطين ولبنان وإيران، وفتح تحقيق في شأنه، ثم حذف تغريدات في الاتجاه نفسه لبعض أنصار النظام، مؤشراً إضافياً إلى أن قيادة المملكة لا ترى بعد مصلحة لها في السير في تطبيع العلاقات مع العدو، بنتيجة ما يعتقد الأخير أنها «إنجازات» على طريق ضرب المقاومة. وبالتالي، رأت أن ما قام به إعلامها وجيشها الإلكتروني، هو استعجال استثمار لا يبدو مجزياً، بل إنه مسيئ إليها. لم يفهم أولئك المستعجلون الذين جلّ ما يطمحون إليه هو إرضاء سادتهم من خلال المزايدة في العداء للمقاومة وإظهار الشماتة باستشهاد قادتها، رغم الشجاعة الملهمة التي أظهرها الأخيرون في القتال، التعقيدات التي يواجهها حكّام المملكة في اتخاذ قرار يمثّل تغييراً في المسار بهذا الحجم، وإمكانية ارتداد الأمر عليهم سلباً.
والأكيد، هنا، أن السعودية تتعامل مع المسألة من زاوية مصلحة النظام، وليس المبدأ، وإلا لمَ قال ولي العهد، محمد بن سلمان، إنه لا يكترث للقضية الفلسطينية، كما سُرّب عنه في الإعلام الأميركي، خلال اجتماع مع وزير الخارجية الأميركي، أنتوني بلينكن، وإن كثيراً من أبناء جيل الألفية الذين يعتبر أنهم قاعدته الشعبية، لم يسمعوا أصلاً بتلك القضية. وما يعنيه السلوك السعودي الجديد، هو أن هجوم السابع من أكتوبر، وبغض النظر عن الموازين الحالية للقوى في الميدان، سواء في غزة أو في لبنان، نجح حتى الآن في نسف استكمال عملية التطبيع التي كانت السعودية على وشك الانخراط فيها عشية ذلك الهجوم.
ويبدو ذلك التطبيع الآن أبعد من أي وقت مضى. إذ إن قادة المملكة يأخذون في الحسبان ثلاثة أمور، حين يفكّرون في تطبيع العلاقات مع إسرائيل: الأول، فائدته على مستوى أمن النظام، وهذا كان يؤمل أن يحقّقه التحالف الذي يضم دولاً خليجية وعربية أخرى، بالإضافة إلى إسرائيل والولايات المتحدة؛ والثاني، مستوى التقبّل الشعبي له في السعودية، وهو في الحضيض الآن؛ والثالث، الأثر المحتمل له من حيث اصطفاف المملكة في مواجهة إيران، التي لن تقبل هي وحلفاؤها بأن يكون الخليج منصة أو ممراً للعدوان عليهم. ولذا، ذهبت المملكة، رسمياً، في الاتجاه الآخر، وهو الاستماع إلى مخاوف طهران، وفقاً لما يدلّ عليه اللقاء الجماعي الذي عقده وزراء خارجية مجلس التعاون الخليجي في مطلع الشهر الجاري مع نظيرهم الإيراني، عباس عراقجي، غداة الرد الصاروخي الإيراني على إسرائيل، والذي هدف إلى طمأنة طهران إلى أن دول المجلس لن تكون ممراً لهجوم إسرائيلي محتمل عليها. وهذا هو المغزى من جولة عراقجي الواسعة في دول المنطقة والتي شملت مصر والأردن وتركيا أيضاً.
بنتيجة تلك التعقيدات، وجدت الرياض نفسها مُجبرة على إعادة تقييم كل المفاوضات التي جرت مع واشنطن منذ ما قبل السابع من أكتوبر، وربما مع إسرائيل، ما نجم عنه إعادة تمسك السعودية ببند إقامة الدولة الفلسطينية كشرط للتطبيع، وهو بند لم تكن المملكة تصر عليه عشية «طوفان الأقصى». والواقع أن بعض القريبين من ديوان ولي العهد لا يخفون مثل هذا التفكير، إذ يقول علي الشهابي إن «ما تراه السعودية هو أن الولايات المتحدة فاقدة للسلطة أو التأثير في إسرائيل، إلى درجة مهينة. والإسرائيليون ليست لديهم النية للسماح بإقامة دولة فلسطينية». وعليه، يرى الشهابي، بحسب ما نقلت عنه صحيفة «نيويورك تايمز»، أن «اتفاقات أبراهام شكلية فقط، ولا شيء جوهرياً فيها، عندما يتعلق الأمر بسلام حقيقي ودائم، في حين أن عدداً من الدول الموقعة عليها فعلت ذلك لأنها رأت في إسرائيل طريقاً للتأثيرفي واشنطن».
ما خلص إليه النظام السعودي هو أنه في ميزان الربح والخسارة، يمثّل التطبيع شبه المجاني الذي تريده إسرائيل، مخاطر كبيرة عليه من الداخل والجوار، لكن هذا لا يعني أنه تخلّى عن خيار التطبيع الذي من دونه قد لا تضمن أميركا أمن النظام. كل ما في الأمر أن المسألة ما زالت خاضعة للأخذ والرد، في انتظار تغييرات موضوعية تتيح للمملكة العودة إلى ذلك المسار. وحتى السياسة الإعلامية غير الرسمية التي مثّل تقرير «إم بي سي» ذروتها، فهي ما زالت كما هي، فيما تم سحب التقرير بسبب الاحتجاجات الواسعة التي أثارها. فبشكل من الأشكال، تعتبر الرياض، وبمعزل عن التطبيع، نفسها مستفيدة من الحرب الإسرائيلية على المقاومة، بكل هوياتها، والتي لم يكن حكام الرياض يكنّون لها الود يوماً.
Sunna Files Free Newsletter - اشترك في جريدتنا المجانية
Stay updated with our latest reports, news, designs, and more by subscribing to our newsletter! Delivered straight to your inbox twice a month, our newsletter keeps you in the loop with the most important updates from our website