الْحمدُ للهِ ربِّ العالَمين، لهُ النِّعْمَةُ ولهُ الفضْلُ ولهُ الثَّناءُ الْحَسَن، صَلَواتُ اللهِ البرِّ الرَّحيم، والْملائِكَةِ الْمُقرَّبينَ، على سيِّدنا مُحمَّدٍ، أشرفِ الْمُرسلينَ، وعلى جَميعِ إخْوانِهِ منَ النَّبيينَ والْمُرْسَلِينَ، وسلامُ اللهِ عليهِم أجْمَعينَ.
إِذا أوْرَدَ أحَدُ الْمُشَبِّهَةِ حَديثَ الْجَارِيةِ، يُقَالُ لَهُ: هذا الْحَدِيثُ يُخَالِفُ الْحَدِيثَ الْمُتواتِرَ الَّذي رَوَاهُ خَمْسَةَ عَشَرَ أوْ سِتَّةَ عَشَرَ صَحابيًّا، وهذا الْحديثُ الْمُتَواتِرُ الَّذي يُعَارِضُ حَديثَ الْجَاريةِ، قولُهُ عليهِ الصَّلاةُ والسَّلام “أُمرْتُ أنْ أُقاتِلَ النَّاسَ حتَّى يَشْهَدُوا أنْ لا إِلهَ إلاّ اللهُ وأنِّي رَسُولُ الله”، هذا الْحديثُ مَعْنَاهُ، أنَّهُ لا يُحْكَمُ بإِسْلامِ الشَّخْصِ إلاَّ بِالشَّهَادَتَيْن.
وَحَديثُ الْجَارِيَةِ فيهِ أَنَّ الرَّسولَ اكْتَفَى بِالْحُكْمِ لإسْلامِ الْجَارِيةِ الَّتِي جَاءَ بِهَا صَاحِبُها لِيمتَحِنَها الرَّسولُ لِيعتِقَهَا إِنْ كانَتْ مُؤْمِنَةً بأنَّها قَالَتْ: “في السَّمَاءِ”، ففيه أنَّ الرَّسولَ قالَ لَهَا: “أينَ الله؟”، قَالَتْ: “في السَّمَاءِ”، قالَ: “مَنْ أنا؟”، قالتْ: “رَسُولُ الله”، قالَ: “أعْتِقْها فإِنَّها مُؤْمِنَةٌ”.
هذا اللَّفْظُ رَواهُ مُسْلِمٌ مِنْ طَريقِ صَحابِيٍّ واحِدٍ، وَبَيْنَ ظاهِرِ هذا الْحَديثِ وَبَيْنَ الْحَديثِ الْمُتواتِرِ الَّذي رَواهُ خَمْسَةَ عَشَرَ صَحَابِيًّا تعارُضٌ، لأنَّ ظَاهِرَ حَديثِ الْجَاريةِ يُوهِمُ أنَّهُ يَكْفِي أنْ يقولَ الشَّخْصُ: “اللهُ في السَّماءِ” لِلْحُكْمِ بِالإيِمَانِ، وهذا خِلافُ الْحَقِّ، لأنَّ قوْلَ: “اللهُ في السَّماءِ” عقيدةُ اليهودِ والنَّصَارى وغيرِهِمْ مِنَ الكُفَّارِ، بِهَذَا يُرَدُّ عَلَيْهِم.
فإِنْ قالَ قائلٌ إنَّ هذا الْحديثَ حديثَ الْجارِيَةِ وافَقَ عَلَيْهِ شُرَّاحُ مُسْلِمٍ: النَّوَوِيُّ والرَّازِيُّ وغَيْرُهُمَا؟
الْجَوَابُ: أنْ يُقالَ، إنَّ هَؤُلاءِ ما حَمَلُوهُ عَلَى الظَّاهِرِ، بلْ أوَّلُوهُ، النَّوَوِيُّ والرَّازِيُّ وَغَيْرُهُمَا الَّذينَ شَرَحُوا كِتَابَ مُسْلِمٍ ما حَمَلُوهُ عَلَى الظَّاهِرِ كَمَا أَنْتُمْ حَمَلْتُمُوهُ عَلَى الظَّاهِرِ، إِنَّما قالوا: مَعْنَى “أيْنَ الله؟” سُؤالٌ عَنْ عَظَمَةِ اللهِ، وليْسَ سُؤالاً عَنِ التَّحَيُّزِ في مَكَانٍ، لأنَّهُ يُقَالُ في اللُّغَةِ: ” أيْنَ فُلانٌ؟” بِمَعْنَى ما دَرَجتُهُ؟ مَا عُلُوُّ قَدْرِهِ؟ فإِذا قَالَ “في السَّماءِ” مَعْناهُ رَفِيعُ القَدْرِ، عَالي القَدْرِ، عَلَى هَذا حَمَلَها هَذَانِ الشَّارِحَانِ، النَّوويُّ والرَّازِيُّ، ما حَمَلاهُ عَلى الظَّاهِرِ كمَا حَمَلهُ المشبّهة على الظَّاهِرِ.
ثُمَّ إنَّ كَلِمَةَ “في السَّماءِ” في اللُّغةِ، تُسْتَعْمَلُ لِلتَّحَيُّزِ، وتُسْتَعْمَلُ لِرِفْعَةِ القَدْرِ، أيْ عُلُوِّ الدَّرَجَةِ، اللهُ وَصَفَ نَفْسَهُ بأنَّهُ رَفِيعُ الدَّرَجَاتِ، أيْ أنَّهُ أَعْلَمُ منْ كُلِّ عَالِمٍ، وأَقْدَرُ مِنْ كُلِّ قَادِرٍ، وَنَافِذُ الْمَشِيئَةِ في كُلِّ شَىْءٍ، كَلِمةُ “أَينَ” كَذَلِكَ تَأْتِي لِلسُّؤالِ عَنِ الْحَيِّزِ والْمَكَانِ، وتأْتِي لِلسُّؤالِ عَنِ القَدْرِ وَالدَّرَجَةِ.
أمَّا احْتِجاجُ هَؤلآءِ الْمُشبِّهَةِ بآيةِ {ءَأَمِنْتُمْ مَنْ في السَّمآءِ} [سورة الْمُلك، 16]، فالْجَوابُ أَنْ الْمُرادُ الْمَلائِكَةُ، وَلَيْسَ لأنَّ الْمَلائِكَةَ لَوْ أمَرَهُمُ اللهُ أنْ يَخْسِفُوا بِالْمُشْرِكينَ الأَرْضَ لَخَسَفُوا بِهِم، كذَلِكَ الآيةُ الأُخْرى الَّتي تَليها،{أَمْ أَمِنْتُمْ مَنْ في السَّمَاءِ أَنْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِبًا} أيْ ريِحًا شَدِيدَةً، فالْملائِكةُ هُمْ يُرسِلونَ الرِّيحَ، فاللهُ تعالى لَوْ أمرَهُمْ بِأن يُرسِلوا ريِحًا لَفَعَلوا، هذا مَعْنَى الآيَتَيْنِ . وهذهِ الآيةُ تُفَسَّرُ بِمَا وَرَدَ في الْحَدِيثِ الصَّحيحِ: “ارْحَموا مَنْ في الأَرضِ يَرْحَمْكُمْ منْ في السَّمَاءِ”، وَوَرَدَتْ رِوَايةٌ صَحِيحَةٌ أُخْرى: “ارْحَموا أَهْلَ الأَرْضِ يرْحَمْكُمْ أَهْلُ السَّمَاءِ”، هذهِ الرِّوايةُ فسَّرتْ الْمذكورةَ في الآيةِ أنَّ الْمُرادَ {مَنْ في السَّمآء} لأنَّ اللهَ لا يُعبَّرُ عَنْهُ بِأَهْلِ السَّماءِ، إنَّما يُعبَّرُ بِأَهْلِ السَّماءِ عنِ الْملآئِكَةِ، لأنَّهُم سُكَّانُهَا، أي سُكَّانُ السَّمَواتِ، بِهذا يُجَابُ عنْ تَمَسُّكِ الْمُشبِّهَةِ بالاحْتِجَاجِ بِهَاتَيْنِ الآيَتَيْنِ.
Sunna Files Free Newsletter - اشترك في جريدتنا المجانية
Stay updated with our latest reports, news, designs, and more by subscribing to our newsletter! Delivered straight to your inbox twice a month, our newsletter keeps you in the loop with the most important updates from our website