وصل الفتح الإسلامي بلاد الأندلس عام 711م بقيادة طارق بن زياد، ليضم أراضي عديدة من شبه الجزيرة الأيبيرية (إسبانيا الآن)، واستمر الفتح ليتجاوز أراضي القوط (إسبانيا حالياً)، ليصل إلى أراضي الفرنجة (فرنسا) ويبلغ ولاية سبتمانيا (في غرب فرنسا حالياً)، وذلك بعد انضمام القائد موسى بن نصير إلى طارق بن زياد، لكن ومع وصولهم إلى مدينة ليون الفرنسية جاء إلى كل من موسى وطارق أمر من الخليفة الأموي الوليد بن عبدالملك بوقف العمليات العسكرية وعودة كل من القائدين إلى العاصمة دمشق، وبذلك توقفت الفتوحات عند هذا الحد.
ومع فتح الأندلس واستقرار المسلمين فيها، أصبحت تلك البلاد ولايةً تابعة للدولة الأموية، وتعاقب ولاة الدولة الأموية على حكمها، حتى عيَّن الخليفة عمر بن عبدالعزيز “السمح بن مالك الخولاني”، وذلك في عام 719م، فعمل على تعمير الأندلس وضبط أمورها الداخلية، ثم عمد إلى ولاية سبتمانيا في عام 720م لتصبح قاعدةً لانطلاق الفتوح الإسلامية في أوروبا مرة أخرى، وبعد أن ضم كل قواعد سبتمانيا، اتجه السمح نحو الشرق ليدخل في صدامٍ مع مملكة أكوتين، وتوجه ناحية عاصمتها طولوشة (تولوز) في جنوب غربي فرنسا.
معركة تولوز وظهور الغافقي قائداً
يقول محمد عبدالله عنان في كتابه الشهير “دولة الإسلام في الأندلس”، إنه لما علم أودو حاكم مملكة أكوتين بمقدَم السمح تجاه تولوز، كوَّن جيشاً ضخماً وسار لحربه، ونشِبت المعركة وكَثُر القتل في الجانبين، ورغم أن المسلمين قد قُتل منهم الكثير، يذكر “عنان” أنهم أبدوا شجاعة خارقة. ومع اقتراب الجيش الإسلامي من النصر، سقط السمح قتيلاً، ووقع الاضطراب في الجيش الإسلامي، وارتد الجيش إلى سبتمانيا، وكان ذلك في 721م.
وفي هذا الموقف الصعب، يَظهر أحد القادة، الذي اختاره الجيش بعد مقتل السمح ليقود دفة الأمور، وكان هذا الشخص هو عبدالرحمن بن عبدالله الغافقي، الذي عاد بالجيش إلى الجنوب ليتفادى مصيراً سيئاً لباقي جنوده، إلى أن وصل أخيراً إلى الأندلس.
ولأن الأندلس أصبحت دون والٍ بعد مقتل السمح، اتفق المسلمون على اختيار الغافقي والياً إلى أن يأتي حاكم جديد من قبل الدولة الأموية.
لبث الغافقي مدَّةً وجيزة في إدارة الأندلس، استطاع خلالها تثبيت حكم المسلمين في سبتمانيا وقواعدها، كما استطاع إخماد بعض القلاقل في الولايات الأندلسية الشمالية، ونجح في وأد الفتن داخل البلاد، حتى قدم عنبسة بن سحيم الكلبي والي الأندلس الجديد، وبدأ في إعداد الجيش للغزو من جديد وذلك في عام 724م.
Sunna Files Free Newsletter - اشترك في جريدتنا المجانية
Stay updated with our latest reports, news, designs, and more by subscribing to our newsletter! Delivered straight to your inbox twice a month, our newsletter keeps you in the loop with the most important updates from our website
صعد عنبسة بالجيش شمالاً ودخل سبتمانيا وأعاد بعض معاقلها التي سقطت في فترة الاضطراب بعد مقتل الوالي السابق، ثم غزا بعض المدن المجاورة لسبتمانيا، مما جعل حاكم أكوتين يخشى أن يهاجمه المسلمون مرة أخرى، فسعى إلى مفاوضتهم ومهادنتهم، مما جعل المسلمين يبسطون سلطانهم على جنوبي فرنسا.
لكن مع عودة عنبسة إلى الجنوب، هاجمته على حين غرة قواتٌ غفيرة من الفرنج، وأُصيب بجروحٍ بالغة توفي على إثرها، وذلك بعد حوالي عامٍ فقط من توليه.
توفي عنبسة عام 725م، وعاد الاضطراب إلى الأندلس، واستمر تعاقب الولاة على الأندلس بعد موت عنبسة على مدار 5 أعوام، والذين لم يحرزوا جديداً أو تقدماً ملحوظاً على الجبهة الداخلية المضطربة أو الجبهة الخارجية بفرض السيطرة على شمالي الأندلس.
ومع استمرار الاضطرابات وتعاقب الولاة على حكم الأندلس بشكل غير مستتب، بدأت التمردات الداخلية في الظهور، وأدى ذلك إلى تفكك الجيش وذلك لاختلاف القبائل العربية المكوّنة له فيما بينها. وفي قلب كل تلك التوترات، صادق الخليفة هشام بن عبدالملك في 731م على تعيين عبدالرحمن الغافقي والياً على الأندلس.
عبدالرحمن الغافقي والياً للمرة الثانية
يروي لنا عنان في كتابه، أن الأندلس رحَّبت بتعيين الغافقي والياً عليها، إذ كان محبوباً بين شعبها وذا مكانةٍ وهيبة بين جنود جيشها، فتجمّعت القبائل تحت لوائه.
بدأ عبدالرحمن الغافقي عهداً جديداً عمّا قبله، قام فيه بزيارة الأقاليم المختلفة، فنظَّم شؤونها وعيَّن الكفاءات، واستطاع محاصرة الفتن الداخلية وإخمادها، واهتم بالجيش بشكلٍ خاص، فأنشأ فرقاً قوية مشكَّلة من الفرسان المختارين من كل من البربر والعرب، كما حصَّن الثغور الشمالية.
في تلك الفترة كان أودو حاكم أكوتين واقعاً بين نارين، فهو يخشى المسلمين من الجنوب ومن الفرنج وزعيمهم كارل مارتل من الشمال، حيث استقل أودو بالجنوب، ومن جانبه غزا كارل مارتل أكوتين عدة مرات. لذا، كان أودو يسعى للتقرُّب من المسلمين ويعمل على مهادنتهم.
ويذكر عبدالله عنان في كتابه أنه في ذلك الوقت كان هناك شخص يدعى “منوسة” لا يُعلم الكثير عنه تاريخياً، لكن المعروف عنه أنه كان يحكم الولايات الشمالية التي تجاور أكوتين؛ لذا سعى أودو لكسب منوسة وجعله من حلفائه.
وظهرت في ذلك الوقت ميول لمنوسة تختلف مع حكومة الأندلس؛ لذا أصبحت العلاقة بين الحاكمين أقوى، وعضَّدها أكثر زواج منوسة من ابنة أودو. ويقول عنان إن سبب تحالف منوسة مع أودو، هو استعانة منوسة بأودو لتنفيذ مشروعه في الخروج على والي الأندلس والاستقلال بحكم الولايات الشمالية، وبذلك عُقدت الهدنة بين الطرفين؛ كتماناً لحقيقة مشروع منوسة، إلا أن عبدالرحمن الغافقي ارتاب في أمر منوسة وأبى إقرار الهدنة التي عقدها منوسة مع أكوتين.
عندئذ كشف منوسة القناع وأعلن التمرد على والي الأندلس. أرسل عبدالرحمن الغافقي حملةً قويةً بقيادة ابن زيان لتأديب منوسة، فرحل منوسة إلى مواقعه الجبلية الحصينة في عاصمة إقليمه مدينة الباب، معتقداً قدرته على تحدي جيش الغافقي، كما انضم إليه الزعيم القوطي بلاجيوس.
لكن ابن زيان دخل بجيشه مدينة الباب وحاصر مواقع منوسة الجبلية، ففر الآخر إلى أعالي الجبال، لكن ابن زيان طارده حتى وقع بيده وقتله، وبذلك تحطمت أطماع منوسة وخمد تمرده، وذلك في نفس عام تولي عبدالرحمن الغافقي ولاية الأندلس عام 731م.
ضم إمارة أكوتين والتوجه نحو باريس
بمقتل منوسة، رأى أودو ما حل بحليفه، واستشعر الخطر الداهم، فتأهب وأخذ يجهِّز الجيش، وعلى الناحية الأخرى بدأ القوط في مهاجمة المواقع الإسلامية الشمالية أيضاً، وكان عبدالرحمن الغافقي يتوق إلى الانتقام لمقتل قائده القديم السمح الخولاني وهزيمة المسلمين في تولوز، وهو ما جعله يعد العدة منذ أصبح والياً لاجتياح بلاد الفرنج بالكامل، فلما رأى الخطر محدقاً بالثغور الشمالية لم يجد خياراً إلا السير إلى الشمال قبل أن يستكمل كامل تجهيزات جيشه.
وفي عام 732م سار عبدالرحمن الغافقي إلى الشمال مخترقاً إمارتي أراغون ونافارا، وعبر بنبلونة ودخل فرنسا وزحف على مدينة آرل الفرنسية الواقعة على نهر الرون، وضم المدينة بعد معركةٍ شرسة خسرت فيها قوات أودو الكثير من الجند، ومن هنا زحف الغافقيّ غرباً وانقض على إمارة أكوتين.
حاول أودو وقف الزحف، والتقى بالمسلمين على ضفاف نهر الدردون، لكنه هُزم هزيمة فادحة وتمزَّق جيشه. طارد الغافقي فلول الجيش حتى العاصمة بردال واستولى عليها بعد حصارٍ قصير.
فر أودو مع مجموعةٍ من المقربين منه والتجأوا إلى خصم أودو القديم كارل مارتل، وسقطت أكوتين كلها في يد المسلمين، ولم يتوقف القائد عبدالرحمن الغافقي عند هذا الحد، حيث ارتدّ بالجيش واستولى على ليون -أحد أهم المدن الفرنسية- ووصل إلى صانص التي تبعد عن باريس نحو 100 ميل فقط. ولكي يستكمل فتحه بالدخول إلى باريس عاصمة الفرنج، افتتح عبدالرحمن نصف فرنسا الجنوبي كله من الشرق إلى الغرب على خط امتد 1000 ميل في بضعة أشهر فقط.
معركة بلاط الشهداء.. ونهاية الغافقي
بوصول عبدالرحمن الغافقي إلى هذه النقطة، أصبح القائد المسلم الوحيد الذي وصل إلى هذا العمق الأوروبيّ فاتحاً، في حين جمع زعيم الفرنجة كارل مارتل ليس جيش مملكة الفرنجة وحده، بل ضم إليه القبائل الجرمانية المتحاربة عادةً مع الفرنجة. كان هذا اللقاء حينها لقاءً بين الشرق بحضارته ودينه الإسلام في ذلك الوقت، مقابل الغرب ممثلاً في رأس أوروبا في ذلك الوقت مملكة الفرنجة بدينها المسيحي وقوات أوروبا الأخرى.
وفي أواخر شهر أكتوبر/تشرين الأول من سنة 732م، تواجه الجيشان، وعلى مدار 9 أيام من المناوشات، كانت الكفتان متعادلتين بين الفريقين، إلا أنه في اليوم العاشر رجحت كفة جيش المسلمين ولاح النصر في جانبهم.
لكن، وفي خضم هذا الموقف، افتتح الفرنج ثغرةً في معسكر غنائم المسلمين، فارتدَّت قوةٌ كبيرة من الفرسان من قلب المعركة إلى ما وراء الصفوف لحماية الغنائم.
حاول عبدالرحمن إعادة النظام وتنقَّل بين الجند يجمع شتاتهم مرة أخرى، وبينما هو كذلك، أصابه سهمٌ في مقتل، أودى بحياته، وهنا اشتدَّ هجوم الفرنج على المسلمين وكثُر القتل فيهم ولكنهم صمدوا حتى الليل وافترق الجيشان دون فصل، وكان ذلك في أول شهر رمضان من عام 732م.
وهنا قرر قادة الجيش المسلم الانسحاب، وانسحبوا صوب قواعدهم في سبتمانيا، وعندما اكتشف كارل مارتل انسحاب الجيش الإسلامي خشى أن يكون ذلك كميناً، فاكتفى بانسحاب المسلمين ولم يُقدم على مطاردتهم وعاد بجيشه إلى معسكره.
وبينما ضخّمت الرواية التاريخية الأوروبية من المعركة، ومن خسارة المسلمين، يرى عنان في كتابه “دولة الإسلام في الأندلس” أن الرواية المسيحية مُبالِغة، وقدّم بديلاً عنها روايةً متوازنة، هي تلك التي قدمناها في هذا التقرير.
بهذا انتهت حياة القائد عبدالرحمن الغافقي وأُسدل معها الستار على أهم معركة شهدها المسلمون في ذلك الوقت أمام قوى أوروبا في عقر دارها، في فرنسا.