اتفق أهل العلم على أن الأنبياء معصومون من الشرك وكبائر الذنوب، وكذلك اتفقوا على عدم جواز وقوع الصغائر التي تُزري بفاعلها وتحط من منزلته منهم، أو تؤدي إلى الطعن في الرسالة كالكذب ونحو ذلك.
واختلفوا في جواز وقوع الصغائر غير المزرية، فمنهم من منع وقوع ذلك، ومنهم من أجاز وقوعها. ولكن لم يتجرأ أحد من العلماء كما تجرأت بعض الفرق في زماننا هذا إلى نسبة أن النبي محمد ﷺ تعمّد فعل المعصية، والعياذ بالله.
قال أبو العباس القرطبي في المفهم لما أشكل من كتاب تلخيص مسلم (3/58):
“واختلف أئمتنا في وقوع الصغائر منهم، فمن قائل بالوقوع، ومن قائل بمنع ذلك.”
استغفار النبي ﷺ والآيات المتعلقة بذلك
تجدر الإشارة إلى أن أهل العلم قد اختلفوا في المراد بالذنوب في الآيات التي وردت في حق النبي ﷺ، والتي فيها أمر الله له بالاستغفار، وكذلك ما جاء في الآيات التي تشير إلى غفران ذنبه، وما ورد عنه ﷺ في كثير من الأحاديث التي فيها استغفاره من ذنبه، ومن ذلك:
- قوله تعالى:
(فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكَارِ) [غافر: 55] - وقوله سبحانه:
(فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا) [النصر: 3] - وقوله تعالى:
(لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ) [الفتح: 2] - ما أخرجه البخاري (6398) ومسلم (2719) عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه أن النبي ﷺ كان يدعو بهذا الدعاء:
“رَبِّ اغْفِرْ لِي خَطِيئَتِي وَجَهْلِي، وَإِسْرَافِي فِي أَمْرِي كُلِّهِ، وَمَا أَنْتَ أَعْلَمُ بِهِ مِنِّي… اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي مَا قَدَّمْتُ وَمَا أَخَّرْتُ، وَمَا أَسْرَرْتُ وَمَا أَعْلَنْتُ، أَنْتَ الْمُقَدِّمُ وَأَنْتَ الْمُؤَخِّرُ، وَأَنْتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ.” - وما أخرجه البخاري (6307) عن أبي هريرة رضي الله عنه قال:
“سمعت رسول الله ﷺ يقول: والله إني لأستغفر الله وأتوب إليه في اليوم أكثر من سبعين مرة.” - وما أخرجه مسلم (771) عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال:
“كان إذا قام إلى الصلاة قال:… ظلمت نفسي، واعترفت بذنبي، فاغفر لي ذنوبي جميعًا، إنه لا يغفر الذنوب إلا أنت…”
أقوال العلماء في معنى ذنوب النبي ﷺ واستغفاره
من العلماء من رأى أن هذه الذنوب كانت من الصغائر قبل الوحي، وظل النبي ﷺ مشفقًا منها حتى غفرها الله له. ومن هؤلاء الإمام الشافعي رحمه الله، حيث قال في الأم (7/310):
“ثم أنزل على نبيه أن قد غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، يعني والله أعلم ما تقدم من ذنبه قبل الوحي، وما تأخر: أن يعصمه فلا يذنب، فعلم ما يُفعل به من رضاه عنه، وأنه أول شافع ومشفع يوم القيامة، وسيد الخلائق.”
ومنهم من رأى أن هذه الذنوب ليست ذنوبًا بالمعنى المعروف، وإنما كان النبي ﷺ يرى نفسه مقصرًا في شكر نعم ربه عليه، وكان يعدّ هذا التقصير ذنبًا يثقل ظهره، فيستغفر ربه منه.
قال القرطبي في الجامع لأحكام القرآن (20/233):
Sunna Files Free Newsletter - اشترك في جريدتنا المجانية
Stay updated with our latest reports, news, designs, and more by subscribing to our newsletter! Delivered straight to your inbox twice a month, our newsletter keeps you in the loop with the most important updates from our website
“فإن قيل: فماذا يُغفر للنبي ﷺ حتى يُؤمر بالاستغفار؟ قيل له: كان النبي ﷺ يقول في دعائه: رب اغفر لي خطيئتي وجهلي… وكان ﷺ يستقصر نفسه، لعِظَم ما أنعم الله به عليه، ويرى قصوره عن القيام بحق ذلك ذنوبًا.”
الخلاصة والتنبيه
هذا مختصر الحديث في مسألة قد يسعنا فيها كتابة مجلدات، ولكن للذي يفني زمانه في التحقق هل وقع النبي ﷺ في معصية أم لا، ثم يدافع عن معتقده بأن النبي قد عصى الله، فنقول له:
أي حاجة لك في معرفة ذلك؟ إنما حاجتك العظيمة أن تعرف ذنبك أنت، وما جنت يداك! ثم تتعلم كيف تتأسى بأنبياء الله، وبالصالحين من عباده في عظيم توبتهم وإنابتهم، ولزوم استغفارهم، وفرارهم إلى ربهم، وشدتهم في الخوف من التقصير في حقه.
أما أن تجعل همك كله في البحث عن ذنوب الأنبياء، فذلك من بطالة النفس، وتكلف ما لا نفع فيه، بل فيه ضرر على قلبك المسكين، مع تضيع وقتك في غير ما أمر الله به.
يكفينا في هذه المسألة أن نعرف الأصل العام:
ثم ننشغل بعد ذلك بما هو مطلوب منا، وأنفع لنا في دنيانا وآخرتنا.
أن الله تعالى غفر لنبيه ﷺ ولجميع الأنبياء ما وقعوا فيه من صغائر.
وأن نعرف كيف نتأسى بهم في التوبة والاستغفار والإنابة إلى الغفور الرحيم.