لقد عرف التاريخ الكرم والكرماء وذاع صيت أهل الكرم حتى جاب الآفاق أمثال حاتم الطائي وغيره الكثير من كرماء العرب، لكن كل هذا يعتبر شبه سراب يتلاشى أمام كرم وجود حبيبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فما عرف الزمان كرما أفضل من كرمه حتى وصفه بعضهم بأنه يعطي عطاء من لا يخشى الفقر
[الحديث الأول:]
عن ابن عبّاس رضي الله عنه قال: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أجود النّاس، وكان أجود ما يكون في رمضان حين يلقاه جبريل، وكان يلقاه في كلّ ليلة من رمضان، فيدارسه القرآن، فلرسول الله صلى الله عليه وسلم أجود بالخير من الرّيح المرسلة)
[الفائدة الأولى:]
أ- أنه كان أجود الناس على الإطلاق، لأن ابن عباس- رضي الله عنهما- قال: (أجود الناس) ، فعلمنا أن أحدا لم يكن أجود منه
ب- عظيم جوده وبركته، وأنه يعم الناس جميعا، من يتعرض له، ومن لا يتعرض له، لأن ابن عباس- رضي الله عنهما- وصف الخير الذي يأتي منه، بأكثر من الخير الذي تأتي به الريح المرسلة، والصحابة في زمانهم ومكانهم، ما كانوا يعرفون شيئا أشد خيرا من الريح، التي تأتي بالماء، رزق السماء، فيحيي به الله الأرض، وبدون الريح التي تأتي بالماء يموت كل شيء، وعلمنا من قول ابن عباس- رضي الله عنهما-: (فلرسول الله صلى الله عليه وسلم أجود بالخير من الريح المرسلة) أن جوده أشد خيرا من الريح من كل الوجوه.
ج- تنوع عطاء وجود الرسول صلى الله عليه وسلم لقول ابن عباس- رضي الله عنهما-: (أجود بالخير) ولم يحدد أنواع هذا الخير، فعلمنا أنه كان صلى الله عليه وسلم هو الأجود في كل أنواع الخير، فلم يقتصر جوده، على باب واحد من أبواب الخير، ولذلك فضّل جوده عن الريح المرسلة، ولا غرابة في ذلك، فإذا كانت الريح تحيي الأرض الميتة، وتخرج النبات، فإن جوده صلى الله عليه وسلم يحيي القلوب والعقول، وهذا أعظم نفعا من إحياء الأرض. يتفرع على ذلك: أن الخير الذي يمكن أن يبذله المسلم، لا ينحصر في إنفاق المال، وأن الفقير لن يعجز أن يجود بالخير، لأن للخير أبوابا كثيرة، كبذل الجاه في الشفاعة المحمودة والدعاء لعموم المسلمين وخاصتهم، وإعانة الضعيف، وتعليم الناس، وغير ذلك من أوجه الخير الكثيرة
د- شكر الرسول صلى الله عليه وسلم لربه، في إنزال القرآن عليه، وإرسال الروح الأمين عليه السلام لمدارسته القرآن، وذلك لأن ابن عباس- رضي الله عنهما- وضح أن سبب هذا الجود العظيم من النبي صلى الله عليه وسلم أن جبريل كان يأتيه كل ليلة فيدارسه القرآن، وأظن أن هذا الجود كان من باب شكر المنعم. ويتفرع على ذلك: ألا نلوم أهل الخير، إذا رأيناهم يجودون أكثر في رمضان، ولا نعتب عليهم أنهم لا يجودون بمثله سائر السنة، شريطة ألايمتنع أصل جودهم طول السنة، اتباعا لسنة النبي صلى الله عليه وسلم الذي كان يجود طول العام.
ه- الخير الذي كان في الأرض طوال مدة بعثة النبي صلى الله عليه وسلم انقطع بوفاة النبي صلى الله عليه وسلم وسبب هذا الخير هو اجتماع النبي صلى الله عليه وسلم بجبريل عليه السّلام كل ليلة من ليالي رمضان لمدارسة القرآن الكريم. ويتفرع على ذلك أيضا: أن أعظم ما ينبغي الاشتغال به في شهر رمضان المبارك، هو قراءة القرآن العظيم، وما يخدمه من علوم.
[الحديث الثاني:]
عن سهل بن سعد رضي الله عنه قال: (جاءت امرأة إلى النّبيّ صلى الله عليه وسلم ببردة، فقال سهل للقوم: أتدرون ما البردة؟ فقال القوم: هي الشّملة. فقال سهل: هي شملة منسوجة فيها حاشيتها. فقالت: يا رسول الله أكسوك هذه؟ فأخذها النّبيّ صلى الله عليه وسلم محتاجا إليها فلبسها، فرآها عليه رجل من الصّحابة، فقال: يا رسول الله ما أحسن هذه فاكسنيها. فقال: «نعم» . فلمّا قام النّبيّ صلى الله عليه وسلم لامه أصحابه قالوا: ما أحسنت حين رأيت النّبيّ صلى الله عليه وسلم أخذها محتاجا إليها ثمّ سألته إيّاها وقد عرفت أنّه لا يسأل شيئا فيمنعه. فقال: رجوت بركتها حين لبسها النّبيّ صلى الله عليه وسلم لعليّ أكفّن فيها)
[بعض فوائد الحديث:]
أ- تقشفه صلى الله عليه وسلم مع ما فتح الله عليه من بلاد، ومع ما كان يأتيه من غنائم وأموال كثيرة، حتى إنه يحتاج إلى بردة، تهديها له امرأة، تكون له إزارا، يقول الراوي واصفا حال النبي صلى الله عليه وسلم: (فأخذها النبي صلى الله عليه وسلم محتاجا إليها) ، ومما يوضح شدة احتياجه إليها، قول الراوي: (فخرج إلينا وإنها إزاره) ، أي أنه لبسها في نفس المجلس
ب- تواضعه صلى الله عليه وسلم ويتجلى ذلك في قبوله الهدية من امرأة، وإظهاره الاحتياج إليها، وارتدائها في نفس المجلس.
ج- إيثاره أصحابه على نفسه، وأن تلك كانت عادته، لقول الراوي: (ثم سألته وعلمت أنه لا يرد) ، أي أن عدم رد السائل كان مسلكه دائما صلى الله عليه وسلم، وتدبر أن النبي صلى الله عليه وسلم قد خلعها للسائل بعد أن لبسها.
د- رحمته وشفقته صلى الله عليه وسلم بالسائل فيعطيه ولو كان صلى الله عليه وسلم في حاجة لما يعطيه.
ه- زهده صلى الله عليه وسلم في الدنيا وعدم خشيته الفقر، ورجاء ما عند الله، وحسن الظن به- سبحانه وتعالى- ومن ذلك ما رواه أبو سعيد الخدريّ رضي الله عنه: (أنّ ناسا من الأنصار سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فأعطاهم، ثمّ سألوه، فأعطاهم، ثمّ سألوه، فأعطاهم حتّى نفد ما عنده، فقال: «ما يكون عندي من خير فلن أدّخره عنكم»
كما يتفرع عليه، أن من السّنة، أن يعطي المسلم ويبذل ما عنده، ولو كان فقيرا، لقوله تعالى: وَيُؤْثِرُونَ عَلى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كانَ بِهِمْ خَصاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ [الحشر: 9] ، وعجبت أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يعطي وهو فقير، والرجل الآن لا يعطي وهو غني، حتى إن الرجل الآن، يبخل أن يرد السائل بالكلمة الطيبة، والله- تبارك وتعالى- يقول: وَأَمَّا السَّائِلَ فَلا تَنْهَرْ [الضحى: 10] ، وتأمل قول الراوي: (وقد عرفت أنه لا يسأل شيئا فيمنعه) [وشيئا] ، هنا نكرة جاءت في سياق النفي، فتقتضي العموم، ومعناه لا يسأل عن صغير ولا كبير، يحتاج إليه أو لا يحتاج إليه إلا ويعطيه
[الفائدة الثانية:]
1- قامت المرأة بنسج البردة بيديها، ورد في رواية عند البخاري أنها قالت: (نسجتها بيدي) ، ولو كانت هذه صنعتها أو شيئا من عادتها، لما قالت نسجتها بيدي
2- حضور المرأة بنفسها للرسول صلى الله عليه وسلم لتقدم له البردة، ولم ترسلها مع أحد، وهذا فيه الأدب والحب، فقد ورد أيضا عند البخاري: (فجئت لأكسوكها)
3- توجيه الصحابة اللوم لمن سأل البردة، وما وجهوا اللوم إلا لأنهم وجدوا في أنفسهم حرجا أن يحرم الرسول صلى الله عليه وسلم من شيء هو في حاجة إليه، وهذا دليل على حبهم له
الفائدة الثّالثة
تعظيم الصحابة لكل ما لامس جسد الرسول صلى الله عليه وسلم حيث إن السائل رغم حسن البردة وجمالها، ما طلبها ليلبسها، بل طلبها ليكفن بها، ولولا علم الصحابة بجواز ذلك، وأنها يمكن أن تنفعه في قبره لأنكروا عليه، ولو أنهم كانوا يجهلون المسألة أصلا، لسألوا عنها النبي صلى الله عليه وسلم، قال السائل: (رجوت بركتها حين لبسها النبي صلى الله عليه وسلم لعلي أكفن فيها) ، وعند البخاري: (قال سهل: فكانت كفنه) وتأمل أخي القارئ، قصر المدة التي لبس النبي صلى الله عليه وسلم فيها هذه البردة، حتى يرجو السائل بركتها، لكنه علم أن هذه البركة تحدث بأدنى ملامسة من النبي صلى الله عليه وسلم للبردة، أعلمت أخي القارئ مكانة النبي صلى الله عليه وسلم عند ربه- تبارك وتعالى-، أن يجعل في كل ما يلامسه أعظم البركة، وأيضا مكانته صلى الله عليه وسلم عند أصحابه، ويقينهم بذلك ويتفرع على ذلك: تقديم الصحابة- رضي الله عنهم- أمر الآخرة على أمر الدنيا حيث إن السائل ادخر البردة للقبر والكفن، وفضل ذلك على ارتدائها في الدنيا، مع ملاحظة أن ارتداءها في الدنيا، فيه بركة أيضا، ولكن حاجته إليها في القبر أشد وأظهر
Sunna Files Free Newsletter - اشترك في جريدتنا المجانية
Stay updated with our latest reports, news, designs, and more by subscribing to our newsletter! Delivered straight to your inbox twice a month, our newsletter keeps you in the loop with the most important updates from our website