فالمتشابهُ هو الذي دِلالتُهُ على المرادِ غيرُ واضحةٍ، أو كان يحتمِلُ بحسبِ وضعِ اللغة العربيةِ أوجهًا عديدةً، واحتيج لمعرفةِ المعنى المرادِ منه لنظرِ أهلِ النَّظرِ والفهمِ الذين لهم درايةٌ بالنُّصوصِ ومعانيها ولهم درايةُ بلغةِ العربِ فلا تخفى عليهم المعاني إذ ليس لكلّ إنسانٍ يقرأ القرءان أن يفسّرهُ.
وليس المرادُ بقوله تعالى: {الرَّحْمَنُ عَلَى العَرْشِ استَوَى} أنه جالسٌ على العرشِ، ولا أنه مستقرُّ عليه ولا أن الله بإزاء العرشِ بل كلُّ هذا لا يليق بالله، نعتقدُ أن الله استوى استواءً على العرشِ يليقُ به ولا نعتقدُ بشيءٍ من هذه الأشياءِ الجلوسَ والاستقرارَ والمحاذاةَ.
وقوله تعالى: {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ} [سورة فاطر] أيْ أنَّ الكَلِمَ الطَّيبَ كَلا إلهَ إلا الله يصْعَدُ إلى مََحَلّ كَرَامَتِه وهُوَ السَّمَاءُ، والعَمَلُ الصَّالِحُ يرفَعُه أي الكلمُ الطيبُ يرفَعُ العملَ الصالحَ وَهذا مُنْطَبِقٌ ومُنْسَجِمٌ مَعَ الايةِ المحكمةِ: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شيءٌ}.
هذا من المتشابهِ الذي يعلَمُ معناُه الرَّاسخونَ، فالكلمُ الطَّيبُ هو كلا إله إلا الله والعملُ الصّالحُ يشمَلُ كلَّ عملٍ صالحٍ يُتقرَّبُ به إلى الله كنحو الصلاةِ والصدقةِ وصلة الرحمِ، فالمعنى أن كلَّ ذلك يصعدُ إلى الله أي يتقبَّلُهُ، هذا ليسَ فيه أن الله له حيّزُ يتحيزُ فيه ويسكنُهُ.
فالسماءُ محلُّ كرامةِ الله أي المكان الذي هو مشرََّفٌّ عند الله، لأنها مسكنُ الملائكةِ، هذا التَّفسيرُ موافق للاية المحكمة: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شيءٌ}.
فَتَفْسيرُ الاياتِ المُتَشابِهَةِ يَجبُ أن يُرَدََّ إلى الاياتِ المُحْكَمَةِ، هذا في المُتَشابِه الذي يجوزُ للعُلماءِ أن يعلمُوهُ أي أن من أرادَ أن يُفسّرَ المتشابهَ يجبُ أَنْ يكونَ موافقًا للاياتِ المحكماتِ كتفسيرِ الاستواءِ بالقهرِ فإنه موافقٌ للمحكماتِ، كذلك تفسيرُ: {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ} بمحلِّ كرامتِهِ وهي السَّماءُ موافقٌ للمحكمات.
فَهُنا مسلكانِ كُلٌَ مِنْهُمِا صَحِيحٌ:
الأوَلُ: مَسلَكُ السَّلَفِ: وهُم أهْلُ القُرونِ الثَلاثَةِ الأُولى أي اكثرهم.
فإنهُم يُؤوّلونَها تأوِيلا إجماليًّا بالإيمانِ بها واعتِقادِ أنها ليست من صفاتِ الجسمِ بل أنَّ لَها مَعْنًى يَليقُ بجَلالِ الله وعظمَتِهِ بلا تعْيِينٍ، بَلْ رَدُّوا تِلْكَ الاياتِ إلى الاياتِ المحكَمَةِ كقولِهِ تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شيءٌ} [سورة الشورى].
السلفُ مَن كان َ من أهلِ القرونِ الثلاثةِ الأولى قرنِ أتباعِ التَّابعينَ وقرن التَّابعينَ وقرن الصَّحابةِ وهو قرن الرسولِ، هؤلاءِ يسمَّون السلفَ ومن جاءوا بعدَ ذلكَ يسمَّونَ الخلفَ، ومن العلماءِ من حَدََّ هذا بالمائتين والعشرين سنةً من مبعثِ الرّسولِ ومنهم من حَدَّ هذا بالمئاتِ الثلاثةِ الأولى. فالسّلفُ الغالبُ عليهم أن يؤوّلوا الايات المتشابهة تأويلا إجماليًا بالإيمانِ بها واعتقادِ أن لها معاني تليقُ بجلالِ الله وعظمتِهِ ليست من صفاتِ المخلوقينَ بلا تعيين كآيةِ: {الرَّحْمَنُ عَلَى العَرْشِ استَوَى} و{إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ}. وحديثِ النزولِ بأن يقولوا بلا كيفٍ أو على ما يليق بالله أي من غير أن يكونَ بهيئةٍ من غير أن يكونَ كالجلوسِ والاستقرارِ والجوارحِ والطُّولِ والعرضِ والعمقِ والمساحَةِ والحركةِ والسكونِ والانفعالِ مما هو صفةٌ حادثةٌ. هذا مَسلكُ السّلفِ رَدُّوها من حيثُ الاعتقادُ إلى الاياتِ المحكمةِ كقوله تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شيءٌ} وتركوا تعيينَ معنى معيَّن لها مع نفي تشبيهِ الله بخلقِهِ. قال ابن حجر العسقلاني في فتح الباري: “فمعتقد سلف الأئمة وعلماء السنة من الخلف أن الله منزه عن الحركة والتحول والحلول ليس كمثله شئ” اهـ.
وأما الآيات الكريمة التي اخترنا تفسيرها فهي مجموعة من الايات المتشابهات في صفات الله تعالى وءايات الأحكام، وفي صفات الأنبياء عليهم السلام، والله الموفق وهو نعم النصير.
————————————————————————-
تفسير ءايات من سورة البقرة
1- تفسير قوله تعالى: {اللَّهُ يَسْتَهْزِئُُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ}.
ذكر الإمام فخر الدين الرازي في التفسير الكبير قال:
قوله تعالى: {اللَّهُ يَسْتَهْزِئُُ بِهِمْ} أن ما يفعله الله بهم جزاء على استهزائهم سماه بالاستهزاء، لأن جزء الشيء يسمى باسم ذلك الشيء، قال تعالى: {وَجَزَاء سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا} [سورة الشورى].
والتأويل الثاني أن ضرر استهزائهم بالمؤمنين راجع عليهم وغير ضار بالمؤمنين فيصير كأن الله استهزأ بهم.
تفسير الإحاطة
1. قال تعالى: {واللَّهُ مُحِيطٌ بِالْكافِرِينَ} [سورة البقرة].
2. قال تعالى: {وَاللَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ} [سورة الأنفال].
3. قال تعالى: {قَدْ أَحَاطَ اللَّهُ بِهَا} [سورة الفتح].
4. قال تعالى: {وَاللَّهُ مِن وَرَائِهِم مُّحِيطٌ} [سورة البروج].
5. قال تعالى: {أَلا إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُّحِيطٌ} [سورة فصلت].
اعلم وفقك الله أن ربنا عزَّ وجلَّ ليس متحيزًا بمكان ولا ينتقل من جهة إلى أخرى ولا يفرغ مكانًا ولا يملأ مكانًا وأنه سبحانه وتعالى منزه عن صفات الحوادث من جواهر وأعراض.
وأكثر المفسرين وقفوا عند ءايات الإحاطة بإحاطة العلم بدليل قوله تعالى: {أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا} [سورة الطلاق].
وذكر العبدري لطف الله به في كتاب الدليل نقلا عن كتاب التذكرة الشرقية للإمام أبي نصر القشيري ما يلي:
فإن قيل إن الله يقول: {الرَّحْمَنُ عَلَى العَرْشِ استَوَى} [سورة طه] فيجب الأخذ بظاهره قلنا الله يقول أيضًا: {وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ} [سورة الحديد]. ويقول تعالى: {أَلا إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُّحِيطٌ} [سورة فصلت]. فينبغي (أي على مقتضى كلامهم) أن نأخذ بظاهر هذه الآيات حتى يكونَ على العرش وعندنا ومعنَا ومحيطًا بالعالم محدقًا به بالذات في حالة واحدة والواحد يستحيل أن يكون في حالة بكل مكان اهـ. كلام القشيري.
وهاكم التفاسير التي وردت في تلك الايات:
قوله تعالى: {واللَّهُ مُحِيطٌ بِالْكافِرِينَ} أي أنه لا يفوته أحد منهم فالله جامعهم يوم القيامة، ومثله قوله تعالى: {أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا} قال مجاهد: وقيل: إنه تعالى لا يخفى عليه ما يفعلون.
وأما قوله تعالى: {واللَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ} فيه وعيد وتهديد، يعني أنه تعالى عالم بجميع الاشياء، لا يخفى عن علمه شيء لانه محيط بأعمال العباد كلها، فيجازي المحسنين ويعاقب المسيئين.
وقوله تعالى: {قَدْ أَحَاطَ اللَّهُ بِهَا} أحاط بها علمًا أنها ستكون من فتوحكم (قيل فتح خيبر وقيل فارس والروم وقيل مكة) وقيل حفظها لكم ومنعها من غيركم حتى فتحتموها.
وقوله تعالى: {أَلا إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُّحِيطٌ} أي عالم بجميع المعلومات من المخلوقات فيعلم بواطن هؤلاء الكفار وظواهرهم ويجازي كل أحد على فعله بحسب ما يليق به، إن خيرًا فخير وإن شرًا فشر.
وقوله تعالى: {وَاللَّهُ مِن وَرَائِهِم مُّحِيطٌ} أي عالم بهم لا يخفى عليه شيء من أعمالهم، يقدر أن ينزل بهم ما أنزل بمن كان قبلهم.
————————————————————————-
2- تفسير قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لاَ يَسْتَحْيِي أَن يَضْرِبَ مَثَلاً مَّا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا} كان هذا جوابًا على إثر قول الكفار لرسول الله صلى الله عليه وسلم على ما ذكره بعض أهل التأويل فقالوا: ما يستحي ربك أن يذكر البعوض والذباب ونحوها مما يصغر في نفسه وملوك الارض لا يذكرون ذلك، ويستحون؟ فقال عزَّ وجلَّ جوابًا لقولهم: {إِنَّ اللَّهَ لاَ يَسْتَحْيِي} الاية.. لأن ملوك الأرض إنما ينظرون إلى هذه الأشياء بالاستحقار لها والاستذلال فيستحون من ذكرها على الانكفاف والأنفة.
واللهُ عزَّ وجلَّ لا يستحي عن ذلك، لأن الأعجوبة في الدلالة على وحدانية الله تعالى وربوبيته في خلق الصغير من الحبّة والجسم أكبر من الكبار منها والعظام، لأن الخلائق لو اجتمعوا على تصوير صورة من نحو البعوض والذباب وتركيبٍ يحتاج إليه من الفم والأنف والرجل واليد والمدخل والمخرج ما قدروا.
فأولئك لم ينظروا إليها لما فيها من الأعجوبة واللطافة، ولكن نظروا للحقارة والخساسة أنفًا منهم وانكفافًا.
————————————————————————-
3- تفسير قوله تعالى: {ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاء فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ} [سورة البقرة].
قال الفخر الرازي في التفسير الكبير: الاستواء في كلام العرب قد يكون بمعنى الانتصاب، وضده الاعوجاج، ولما كان ذلك من صفات الأجسام، فالله تعالى يجب أن يكون منزهًا عن ذلك، ثم قال: ولمَّا ثبت هذا وجب التأويل وتقريره أن معنى: {ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاء} أي خلق بعد الأرض السماء. نقول أوجد السماء بعد الأرض.
————————————————————————-
4- تفسير قوله تعالى إخبارًا عن الملائكة: {أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ} [سورة البقرة].
ذكر ابن الجوزي في زاد المسير أن الملائكة قالوه لاستعلام وجه الحكمة، لا على وجه الاعتراض وقيل إن ظاهر الألف الاستفهام، دخل على معنى العلم ليقع به تحقيق، قال جرير:
ألستم خير من ركب المطايا
_____ وأندى العالمين بطون راحِ
معناه أنتم خير من ركب المطايا.
————————————————————————-
5- تفسير قوله تعالى: {وَعَصَى ءادَمُ رَبَّهُ فَغَوَى} [سورة طه].
قال شيخنا العبدري رحمه الله: تجب العصمة للأنبياء من الكفر والكبائر وصغائر الخسة والدناءة كسرقة لقمة. ويَجوز عليهم ما سوى ذلك من الصغائر، وهذا قول أكثر العلماء كما نقله غير واحد وعليه الإمام أبو الحسن الأشعري.
فإن قيل إننا مأمورون بالاقتداء بهم فلو كانوا يعصون للزم الاقتداء بهم في المعصية ولا يعقل ذلك. فالجواب أنهم ينبهون فورًا فلا يُقرون عليها بل يتوبون قبل أن يقتدي بهم أحد فزال المحذور.
————————————————————————-
6- تفسير قوله تعالى: {الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُم مُّلاَقُو رَبِّهِمْ وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ رَاجِعُونَ} [سورة البقرة].
قال الخازن في تفسيره الاية: {الَّذِينَ يَظُنُّونَ} أي يستيقنون وقيل يعلمون: {أَنَّهُم مُّلاَقُو رَبِّهِمْ} يعني في الآخرة وفيه دليل على ثبوت رؤية الله تعالى في الاخرة: {وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ رَاجِعُونَ} يعني بعد الموت فيجزيهم بأعمالهم.
————————————————————————-
7– تفسير قوله تعالى: {بَلَى مَن كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيـئَتُهُ فَأُوْلَـئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [سورة البقرة].
قال ابن الجوزي في زاد المسير: قوله تعالى: {بَلَى مَن كَسَبَ سَيِّئَةً} بلى: بمنزلة “نعم” إلا أن “بلى” جوابَ النفي، و”نعم” جوابَ الإيجاب. قال الفراء: إذا قال الرجل لصاحبه: ما لك علي شيء، فقال الاخر: نعم: كان تصديقا أن لا شيء له عليه ولو قال: بلى: كان ردًا لقوله.
ومعنى: {بَلَى مَن كَسَبَ سَيِّئَةً} بلى مَنْ كَسَبَ قال الزجاج: بلى ردٌّ لقولهم: {وَقَالُواْ لَن تَمَسَّنَا النَّارُ إِلاَّ أَيَّاماً مَّعْدُودَةً} والسيئة ها هنا الشرك.
{وَأَحَاطَتْ بِه} أي أحدقت به خطيئته قال عكرمة: مات ولم يتب منها.
————————————————————————-
8– تفسير قوله تعالى: {وَلِلّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّواْ فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} [سورة البقرة].
ذكر الفخر الرازي في التفسير الكبير: قيل إن هذه الاية نزلت في أمر يختص بالصلاة وهو المروي عن كافة الصحابة والتابعين وقولهم حجة، وظاهر قوله تعالى: {فَأَيْنَمَا تُوَلُّواْ} يفيد التوجه إلى القبلة في الصلاة ولهذا لا يعقل من قوله: {فَوَلُّواْ وُجُوهَكُمْ} إلا هذا المعنى.
وقال بعض المفسرين: إنه تعالى أراد به تحويل المؤمنين عن استقبال بيت المقدس إلى الكعبة، فبين تعالى أن المشرق والمغرب وجميع الجهات والأطراف كلها مملوكة له سبحانه، فأينما أمركم الله باستقباله فهو القبلة، لأن القبلة ليست قبلة لذاتها، بل لأن الله تعالى جعلها قبلة، فإن جعل الكعبة قبلة فلا تنكروا ذلك، لأنه تعالى يدبر عباده كيف يريد، وهو واسع عليم بمصالحهم فكأنه تعالى ذكر ذلك بيانًا لجواز نسخ القبلة من جانب إلى جانب ءاخر، فيصير ذلك مقدمة لما كان يريد تعالى من نسخ القبلة، وقيل إنه لما حولت القبلة عن بيت المقدس أنكر اليهود ذلك، فنزلت الاية ردًا عليهم، وهو قول ابن عباس.
وعن سعيد بن جبير عن ابن عمر أنه قال: إنما نزلت هذه الاية في الرجل يصلي إلى حيث توجهت به راحلته في السفر. وكان عليه السلام إذا رجع من مكة صلى على راحلته تطوعًا يومئ برأسه نحو المدينة فمعنى الاية: {فَأَيْنَمَا تُوَلُّواْ} وجوهكم لنوافلكم في أسفاركم: {فَثّمَّ وَجْهُ اللهِ} فقد صادفتم المطلوب: {إنَّ اللهَ وَاسِعٌ} الفضل غني، فمن سعة فضله وغناه رخص لكم في ذلك لأنه لو كلفكم استقبال القبلة في مثل هذه الحال لزم أحد الضررين إما ترك النوافل وإما النزول عن الراحلة والتخلف عن الرفقة، بخلاف الفرائض فإنها صلوات معدودة محصورة فتكليف النزول عن الراحلة عند أدائها واستقبال القبلة فيها لا يفضي إلى الحرج، فبخلاف النوافل فإنها غير محصورة فتكليف الاستقبال يفضي إلى الحرَج.
————————————————————————-
فائدة: إن إضافة وجه الله كإضافة بيت الله وناقة الله والمراد منها الإضافة بالخلقِ والإيجادُ على سبيل التشريف فقوله: {فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ} أي فثم وجهه الذي وجهكم إليه لأن المشرق والمغرب له بوجهيهما والمقصود من القبلة إنما يكون قبلة لنصبه تعالى إياها فوجه الله في الاية معناه قبلة الله التي رضيها لعباده في السفر لمن هو راكبٌ دابةً يريد النفل وهذه الرخصة خاصة براكب الدابة يريد النفل فلا يدخل في هذا الحكم راكبو السيارات.
————————————————————————-
9- تفسير الآية: {رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِن ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُّسْلِمَةً لَّكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَآ إِنَّكَ أَنتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ} [سورة البقرة].
قال الرازي: قوله: {رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ} يفيد الحصر أي نكون مُسْلِمَيْنِ لك لا لغيرك وهذا يدل على أن كمال سعادة العبد في أن يكون مسلّمًا لأحكام الله تعالى وقضائه وقدره وأن لا يكون ملتفت الخاطر إلى شيء سواه، وهذا هو المراد من قول إبراهيم عليه السلام في موضع ءاخر: {فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِّي إِلاَّ رَبَّ الْعَالَمِينَ}، ثم هاهنا قولان: أحدهما: {رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ} أي موحدين مخلصين لا نعبد إلا إياك. والثاني: إن اعتبرناهما مع الذرية قائِمِين وأما قائميْن فمعناه قائميْن بجميع شرائع الإسلام وهُوَ الأوجه ونقل القرطبي في الجامع لأحكام القرءان قال: قوله تعال: {وَمِن ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُّسْلِمَةً لَّكَ} أي ومن ذريتنا فاجعل فيقال: إنه لم يدع نبي إلا لنفسه ولأمته إلا ابراهيم فإنه دعا مع دعائه لنفسه ولأمته لهذه الأمة. {وَمِن} في قوله: {وَمِن ذُرِّيَّتِنَا} للتبعيض، لأن الله تعالى قد كان أعلمه أن منهم ظالمين أي كافرين، وحكى الطبري: أنه أراد بقوله: {وَمِن ذُرِّيَّتِنَا} العرب خاصة. قال السهيلي: وذريتهما العرب.
————————————————————————-
10- تفسير قوله تعالى: {وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أّهْوَاءَهُم مِّن بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّكَ إِذًا لَّمِنَ الظَّالِمِينَ} [سورة البقرة].
قال الخازن في تفسيره: {وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أّهْوَاءَهُم} يعني مرادهم ورضاهم لو رجعت إلى قبلتهم: {مِّن بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ} أي في أمر القبلة، وقيل معناه: من بعد ما وصل إليك من العلم بأن أهل الكتاب مقيمون على باطلٍ وعناد للحق: {إِنَّكَ إِذًا لَّمِنَ الظَّالِمِينَ} يعني أنك إن فعلت ذلك كنت بمنزلة من ظلم نفسه وضرّها، قيل: هذا خطاب للنبي صلى الله عليه وسلم والمراد به الأمة لأنه صلى الله عليه وسلم لا يتبع أهواءهم أبدًا.
————————————————————————-
11- تفسير قوله تعالى: {الْحَقُّ مِن رَّبِّكَ فَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ} [سورة البقرة] قال الخازن في تفسيره: {الْحَقُّ} أي الذين يكتمونه هو الحق: {مِن رَّبِّكَ فَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ} أي من الشاكين في أن الذين تقدم ذكرهم علموا صحة نبوتك، وقيل يرجع إلى أمر القبلة والمعنى أن بعضهم عاند وكتم الحق فلا تشك في ذلك، فإن قلت النبي صلى الله عليه وسلم لم يمتر ولم يشك فما معنى هذا النهي؟ قلت هذا الخطاب وإن كان للنبي صلى الله عليه وسلم ولكن المراد غيره، والمعنى فلا تشكّوا أنتم أيها المؤمنون.
————————————————————————-
12- تفسير قوله تعالى: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ} [سورة البقرة].
ذكر الخازن في تفسيره لباب التأويل: وقوله تعالى: {فَإِنِّي قَرِيبٌ} معناه قريب بالعلم والحفظ لا يخفى عليه شيء. وفيه إشارة إلى سهولة إجابته لمن دعاه وإنجاح حاجة من سأله إذا توافرت شروط الدعاء.
وقوله تعالى: {أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ}. الدعاء عبارة عن التوحيد والثناء على الله تعالى كقول العبد يا الله لا إله إلا أنت فقولك يا الله فيه دعاء وقولك لا إله إلا أنت فيه توحيد وثناء على الله تعالى فسمى هذا الدعاء بهذا الاعتبار، وسمي قبوله إجابة لتجانس اللفظ وفيه إشارة إلى أن العبد يعلم أن له ربَّا مدبرًا يسمع دعاءه إذا دعاه ولا يخيب رجاء من رجاه.
والفخر الرازي قال في تفسيره الكبير: اعلم أنه ليس المراد من هذا القرب بالجهة والمكان بل المراد منه القرب بالعلم والحفظ.
————————————————————————-
13- تفسير قوله تعالى: {وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ} [سورة البقرة].
أكثر المفسرين حملوا معنى الفتنة على الكفر والشرك، ونقل الفخر الرازي في التفسير الكبير عن ابن عباس قال: إن المراد من الفتنة الكفر بالله تعالى وإنما سمي الكفر بالفتنة لأنه فساد في الارض يؤدي إلى الظلم والهرج، وفيه الفتنة، وإنما جعل الكفر أعظم من القتل، لأن الكفر ذنب يستحق صاحبه به العقاب الدائم، والقتل ليس كذلك والكفر يخرج صاحبه به عن الأمة. والقتل ليس كذلك فكان الكفر أعظم من القتل.
وهذا يدعم كلامنا في تفسير قوله تعالى في سورة النساء: {وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُّتَعَمِّدًا فَجَزَآؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا} لأن الخلود في جهنم هو للكافر خاصة.
————————————————————————-
14- تفسير قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ ادْخُلُواْ فِي السِّلْمِ كَآفَّةً وَلاَ تَتَّبِعُواْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ} [سورة البقرة].
قال الخازن في تفسيره: قوله عزَّ وجلَّ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ ادْخُلُواْ فِي السِّلْمِ كَآفَّةً} نزلت في مؤمني أهل الكتاب عبد الله بن سلام وأصحابه.
وذلك لما أسلموا أقاموا على تعظيم شرائع موسى فعظموا السبت وكرهوا لحم الإبل وألبانها، وقالوا إن ترك هذه الأشياء مباح في الإسلام وواجِب في التوراة وقالوا أيضًا يا رسول الله إن التوراة كتاب الله دعنا فلنقم به في صلاتنا بالليل، فأنزل الله هذه الآية وأمرهم أن يدخلوا في السلم أي في شرائع الإسلام ولا يتمسكوا بالتوراة فإنها منسوخة، والمعنى استسلموا لله وأطيعوا فيما أمر به.
————————————————————————-
15- تفسير قوله تعالى: {هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ أَن يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِّنَ الْغَمَامِ وَالْمَلآئِكَةُ} [سورة البقرة].
أجمع المعتبرون من العقلاء على أنه سبحانه وتعالى منزه عن المجيء والذهاب بطريق الحركة والانتقال وقد ثبت في علم الاصول أن كل ما يصح عليه المجيء والذهاب بطريق الحركة والانتقال لا ينفك عن الحركة والسكون وهما محدثان وما لا ينفك عن المحدث فهو محدث فيلزم أن كل ما يصح عليه المجيء والذهاب بطريق الحركة والانتقال يجب أن يكون محدثًا مخلوقًا، والإله القديم يستحيل أن يكون كذلك. وإذا عرفت هذا فنقول ذكر أهل الكلام في قوله تعالى: {هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ أَن يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ} مذهب السلف الصالح أنه لما ثبت بالدلائل القاطعة أن المجيء والذهاب بطريق الحركة والانتقال على الله تعالى محال، علمنا قطعًا أنه ليس مراد الله تعالى من هذه الآية هو المجيء والذهاب بطريق الحركة والانتقال وأن مراده بعد ذلك شيء ءاخر فعند جمهور المتكلمين المراد بالآية: {هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ أَن يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ} ءايات الله، فجعل مجيء الآيات مجيئًا له على التفخيم لشأن الآيات. وقيل المراد أمر الله.
————————————————————————-
16- تفسير قوله تعالى: {وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ} [سورة البقرة].
قال بعض المفسرين هي نظير قوله تعالى: {وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ}. وذهب ءاخرون إلى أن معنى الفتنة هنا فتنتهم المسلمين عن دينهم حتى يهلِكوا، وقال الرازي في التفسير الكبير: إنه ذُكِرَ في الفتنة قولين أحدهما في الكفر وهذا القول عليه أكثر المفسرين والقول الثاني أن الفتنة هنا هي ما كانوا يفتنون المسلمين عن دينهم تارةً بإلقاء الشبهات في قلوبهم وتارةً بالتعذيب، كفعل المشركين ببلال وصهيب وعمار بن ياسر، وعلى هذا ذهب البعض إلى أن المراد بالفتنة الامتحان.
————————————————————————-
17- تفسير قوله تعالى: {وَاتَّقُواْ اللَّهَ وَاعْلَمُواْ أَنَّكُم مُّلاَقُوهُ} [سورة البقرة].
قال الخازن: {وَاتَّقُواْ اللَّهَ} أي احذورا أن تأتوا شيئًا مما نهاكم الله عنه: {وَاعْلَمُواْ أَنَّكُم مُّلاَقُوهُ} أي صائرون إليه في الآخرة فيجزيكم بأعمالكم.
واعلم أنه سبحانه وتعالى لا يوصف بالاتصال والانفصال ولا بالمماسة والملامسة ولا بالاجتماع والافتراق. ولقاء الله حق على معنى أن الخلق صائرون إليه يوم القيامة ليحاسبهم ويجازيهم.
————————————————————————-
18- تفسير قوله تعالى: {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِـي الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِن قَالَ بَلَى وَلَـكِن لِّيَطْمَئِنَّ قَلْبِي} [سورة البقرة].
قيل سبب السؤال أنه مع مناظرته من نمرود لما قال: {رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِـي وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا أُحْيِـي وَأُمِيتُ} فأطلق محبوسًا وقتل رجلا قال ابراهيم: ليس هذا بإحياء وإماتة وعند ذلك قال: {رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِـي الْمَوْتَى} لتنكشف هذه المسئلة عند نمرود فسأل الله تعالى ذلك، وقوله: {لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي} بنجاتي من القتل أو ليطمئن قلبي بقوة حجتي وبرهاني وإن عدولي منها إلى غيرها ما كان بسبب ضعف تلك الحجة بل كان بسبب جهل المستمع، وأحسن ما قيل فيها ليطمئن قلبي أي هل أعطى ذلك إذا طلبته.
————————————————————————-
19– تفسير قوله تعالى: {لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَـكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَن يَشَاء وَمَا تُنفِقُواْ مِنْ خَيْرٍ فَلأنفُسِكُمْ} [سورة البقرة].
ذكر الخازن في تفسيره لباب التأويل فقال في تفسير هذه الآية: {لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ}: أي ليست عليك “أي يا محمد” هداية من خالفك حتى تمنعهم الصدقة لاجل أن يدخلوا في الإسلام، فحينئذ تتصدق عليهم فأعلمه الله تعالى أنه إنما بُعث بشيرًا ونذيرًا وداعيًا إلى الله بإذنه، فأما كونهم مهتدين فليس ذلك إليك: {وَلَـكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَن يَشَاء}: يعني أن الله يوفق من يشاء فيهديه إلى الإسلام، وأراد بالهداية هنا هداية التوفيق، وأما هداية البيان والدعوة فكانت على رسول الله صلى الله عليه وسلم. والصحيح أن يقال ليس عليك أي لست مكلفًا بأن تهتدي قلوبهم لأن القلوب لا يملكها أحد إلا الله بل الله هو يهدي القلوب بأن يجعلها مؤمنة مصدقة ولكن الله يهدي من يشاء أي أن الله هو الذي يهدي القلوب فيجعلها مؤمنة أما الرسول فلو أكره إنسانًا بالقتال على الدخول في الإسلام فأظهر الإسلام والإيمان لكن قلبه قد يكون على خلاف ظاهره فيكون قلبه مكذبًا للدين فليس على الرسول إلا البيان أي الدعوة إلى الايمان بالله ورسوله وقال تعالى: {أَفَأَنتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُواْ مُؤْمِنِينَ} معناه يا محمد أنت لا تستطيع أن تجعلهم مؤمنين قلبًا.
————————————————————————-
20- تفسير قوله تعالى: {لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أحَدٍ مِّن رسُلِهِ} [سورة البقرة].
ذكر ابن الجوزي في زاد المسير قال: ومعنى قوله تعالى: {لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أحَدٍ مِّن رسُلِهِ} أي لا نفعل كما فعل اهل الكتاب ءامنوا ببعض وكفروا ببعض.
وقال الخازن في تفسيره: قوله تعالى: {وَكُلٌّ ءَامَنَ بِاللهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ}: قال: فهذه أربع مراتب من أصول الايمان وضرورياته فأما الإيمان بالله فهو أن يؤمن بأن الله واحد أحد لا شريك له ولا نظير له، ويؤمن بجميع أسمائه الحسنى وصفاته العليا وأنه حي عالم قادر على كل شيء، وأما الايمان بالملائكة فهو أن يؤمن بوجودهم وأنهم معصومون مطهرون وأنهم السفرة الكرام البررة وأنهم الوسائط بين الله تعالى وبين رسله. وأما الايمان بكتبه فهو بأن يؤمن بأن الكتب المنزلة من عند الله هي وحي الله إلى رسله، وأنها حق وصدق من عند الله بغير شك ولا ارتياب، وأن القرءان لم يحرّف ولم يبدّل ولم يغيّر، وأنه مشتمل على المحكم والمتشابه وأن محكمه يكشف عن متشابهه، وأما الايمان بالرسل فهو أن يؤمن بأنهم رسل الله إلى عباده وأمناؤه على وحيه وأنهم معصومون وأنهم أفضل خلق الله، وأن بعضهم أفضل من بعض وقد أنكر بعضهم ذلك وتمسك بقوله تعالى: {لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أحَدٍ مِّن رُّسُلِهِ} وأجيب عنه بأن المقصود من هذه الجملة شيء ءاخر وهو إثبات نبوة الانبياء والرد على أهل الكتاب الذين يقرون بنبوة موسى وعيسى وينكرون نبوة محمد صلى الله عليه وسلم، وقد ثبت بالنص الصريح تفضيل بعض الانبياء على بعض بقوله عزَّ وجلَّ: {تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ} ومعنى قوله: {لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أحَدٍ مِن رسُلِهِ} أي لا نفعل كما فعل أهل الكتاب يؤمنون ببعض الكتاب ويكفرون ببعض يعني بعد أن كفروا مع تمسكهم لفظًا بالكتابين، بل نؤمن بجميع رسله وفي الآية إضمار وتقدير. وقالوا: “يعني المؤمنين”: {لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أحَدٍ مِن رسُلِهِ وَقَالُواْ سَمِعْنَا وأطَعْنَا} يعني سمعنا قولك وأطعنا أمرك والمعنى قال المؤمنون سمعنا قول ربنا فيما أمرنا به ونهانا عنه: {غُفْرَانَكَ رَبَّنَا} أي نسألك غفرانك ربنا أو يكون المعنى اغفر لنا غفرانك ربنا: {وَإلَيْكَ المَصِيرُ} يعني قالوا إليكم يا ربنا مرجعنا ومعادنا فاغفر لنا ذنوبنا.
————————————————————————-
21- تفسير قوله تعالى: {لا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْسًا إلا وُسْعَهَا} [سورة البقرة].
اعلم رحمك الله بتوفيقه أن كثيرًا من الجهال أخذ هذه الآية حجة وذريعة له في كثير من أمور التكاليف، فترى الواحد منهم مثلا إن كان مريضًا يشق عليه أمر الصلاة على هيئة كذا قال: {لا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْسًا إلا وُسْعَهَا} [سورة البقرة] فيترك الصلاة، وشاع استعمال هذه الآية في غير موضعها فإذا بكثير من الجهلة يتركون الواجبات ويتقاعسون عن الفرائض والطاعات متذرعين بهذه الآية، فجهل هؤلاء الناس لكثير من أمور الاحكام كان سببًا في هلاكهم، وما ذلك إلا لتكبرهم عن طلب العلم والتعلم، فنسأل الله السلامة والنجاة والمعافاة والتوفيق والسداد.
ومما ورد في تفسير قوله تعالى: {لا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْسًا إلا وُسْعَهَا} قال ابن الجوزي في زاد المسير: الوسع الطاقة قاله ابن عباس وقتادة ومعناه لا يكلفها ما لا قدرة لها عليه لاستحالته، كتكليف الزَّمِنِ السعي والاعمى النظر. فأما تكليف ما يستحيل من المكلف لا كفقد الآلات فيجوز كتكليف الكافر الذي سبق في علم الله القديم أنه لا يؤمن فالآية محمولة على القول الاول. ومن الدليل على ما قلناه قوله تعالى في سياق الآية: {رَبَّنَا وَلاَ تُحَمِّلْنَا مَا لاَ طَاقَةَ لَنَا بِهِ} فلو كان تكليف ما لا يطاق ممتنعًا أي مستحيلا كان السؤال عبثًا وقد أمر الله تعالى نبيه بدعاء قوم قال فيهم: {وَإن تَدْعُهُمْ إلى الهُدَى فَلَن يَهْتَدُواْ إذًا أبَدًا} [سورة الكهف] وقال ابن الأنباري المعنى: لا تحملنا ما يثقل علينا أداؤه، وإن كنا مطيقين له.
————————————————————————-
22- تفسير قوله تعالى إخبارًا عن عيسى عليه السلام: {أَنِّي أَخْلُقُ لَكُم مِّنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِ اللَّهِ} [سورة ءال عمران]. الآية.
جمهور المفسرين على أن الخلق في هذه الآية بمعنى التصوير والتقدير، ولم يخالف في ذلك إلا صاحب بدعة وضلالة وقال صاحب تفسير البحر المحيط أبو حيان الاندلسي في تفسير الآية: ومعنى أخلق أقدّر وأهيء، والخلق يكون بمعنى الإنشاء وإبراز العين من العدم إلى الوجود وهذا لا يكون إلا لله تعالى، ويكون بمعنى التقدير والتصوير قال تعالى: {وَتَخْلُقُونَ إفْكًا}: أي تفترون الكذب، ومما جاء الخلق فيه بمعنى التقدير قوله تعالى: {فَتَبَارَكَ اللهُ أحْسَنُ الخَالِقِينَ}: أي المقدّرين وقال الشاعر:
ولأنت تفري ما خلقت وبعضُ
__م__ القوم يخلق ثم لا يفري
————————————————————————-
23- تفسير قوله تعالى: {وَمَكَرُواْ وَمَكَرَ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ} [سورة ءال عمران].
قال أبو حيان الأندلسي في تفسيره البحر المحيط: قوله تعالى: {وَمَكَرُواْ وَمَكَرَ اللهُ} الضمير في مكروا عائد على من عاد عليه الضمير في: {فَلَمَّا أَحَسَّ عِيسىَ مِنْهُمُ الكُفْرَ} وهم بنو إسرائيل، ومكرهم هو احتيالهم في قتل عيسى بأن وكلوا به من يقتله غيلة، ومَكْرُ الله مجازتهم على مكرهم، سمى ذلك مكرًا لأن المجازاة لهم ناشئة عن المكر كقوله: {وَجَزَاء سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا} [سورة الشورى]. وقوله: {فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُواْ عَلَيْه} [سورة البقرة].
وكثيرًا ما تسمى العقوبة باسم الذنب وإن لم تكن في معناه.
قوله تعالى: {وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ} معناه المجازين على المكر بما يستحق فاعله.
————————————————————————-
24- تفسير قوله تعالى: {إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ} [ءال عمران].
قال الفخر الرازي في تفسير قوله تعالى: {إِنِّي مُتَوَفِّيكَ} ونظيره قوله تعالى حكاية عنه: {فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنتَ أَنتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ}. {مُتَوَفِّيكَ} أي متمم عمرك فحينئذ أتوفاك فلا أتركهم حتى يقتلوك بل أنا رافعك إلى سمائي، ومقربك بملائكتي، وأصونك عن أن يتمكنوا من قتلك وهذا تأويل حسن، قال بعض المفسرين لا بد في الآية من تقديم وتأخير من غير أن يحتاج فيها إلى تقديم أو تأخير قالوا: إن قوله تعالى: {وَرَافِعُكَ إِلَيَّ} يقتضي أنه رفعه حيَّا والواو لا تقتضي الترتيب فلم يبق إلا أن يقول فيها تقديم وتأخير والمعنى إني رافعك إليَّ ومطهرك من الذين كفروا ومتوفيك بعد إنزالي إياك في الدنيا ومثله من التقديم والتأخير كثير في القرءان.
و المراد بقوله تعالى: {وَرَافِعُكَ إِلَيَّ} أي إلى محل كرامتي وجعل ذلك رفعًا إليه للتفخيم والتعظيم ومثله قوله: {إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّي}. وإنما ذهب إبراهيم صلى الله عليه وسلم من العراق إلى الشام، وقد يقول السلطان ارفعوا هذا الأمر إلى القاضي، وقد يسمى الحجاج زوار الله، والمراد من كل ذلك التفخيم والتعظيم فكذا ههنا.
————————————————————————-
25- تفسير قوله تعالى: {قُلْ إِنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاءُ} [سورة ءال عمران].
كر الخازن في لُباب التأويل: وقوله تعالى: {قُلْ إنَّ الفَضْلَ} يعني قل لهم يا محمد إن التوفيق للإيمان والهداية للإسلام: {بِيَدِ اللهِ} أي أنه مالك له وقادر عليه دونكم ودون سائر خلقه: {يُؤْتِيهِ مِن يِشَاءُ} يعني الفضل الذي هو دين الإسلام يعطيه من يشاء من عباده ويوفق له من أراد من خلقه وفيه تكذيب لليهود حيث قالوا لن يؤتي الله أحدًا مثل ما أوتي بنو إسرائيل من النبوة فقال الله ردّا عليهم: {قلْ} لهم: ليس ذلك إليهم وإنما الفضل بيد الله يؤتيه من يشاء.
————————————————————————-
26- تفسير قوله تعالى: {إنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللهِ وَأيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلا أُوْلئِكَ لا خَلاقَ لَهُمْ فىِ الأَخِرَةِ وَلا يُكَلِّمُهُمُ اللهُ وَلا يَنظُرُ إلَيْهِمْ يَوْمَ القِيَامَةِ وَلا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ ألِيمٌ} [سورة ءال عمران].
قال الإمام الفخر الرازي في تفسير الآية: أما الأول وهو قوله: {لا خَلاقَ لَهُمْ فىِ الأَخِرَةِ} فالمعنى لا نصيب لهم في خير الآخرة ونعيمها، واعلم أن هذا العموم مشروط بإجماع الامة بعدم التوبة، فإنه إن تاب عنها سقط الوعيد بالإجماع وعلى مذهبنا مشروط أيضًا بعدم العفو فإنه تعالى قال: {إِنَّ اللهَ لا يَغْفِرُ أن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاءُ} [سورة النساء].
وأما الثاني وهو قوله: {وَلا يُكَلِّمُهُمُ اللهُ} المقصود بيان شدة سخط الله عليهم.
وأما الثالث وهو قوله: {وَلا يَنظُرُ إلَيْهِمْ} فالمراد أنه لا ينظر إليهم بالإحسان، يقال فلان لا ينظر إلى فلان، والمراد به نفي الاعتداد به وترك الإحسان إليه، ولا يجوز أن يكون المراد من هذا النظر الرؤية لأنه تعالى يراهم كما يرى غيرهم، ولا يجوز أن يكون المراد من النظر تقليب الحدقة إلى جانب المرئيّ التماسًا لرؤيته، لأن هذا من صفات الأجسام وتعالى إلهنا عن أن يكون جسمًا.
و أما الرابع وهو قوله تعالى: {وَلا يُزَكِّيهِمْ} قيل لا يزكيهم أي لا يثني عليهم كما يثني على أوليائه الأزكياء، واعلم أن تزكية الله عباده قد تكون على ألسنة الملائكة كما قال: {وَالمَلائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِم مِّن كُلٍِّ بَابٍ * سَلامٌ عَلَيْكُم بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمََ عُقْبَى الدَّارِ} وقال: {وَتَتَلَقَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ هَذَا يَوْمُكُمُ الَّذِي كُنتُمْ تُوعَدُونَ} {نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ} [سورة فصلت] وقد تكون بغير واسطة أما في الدنيا فكقوله: {التَّائبُونَ العَابِدُونَ} [سورة التوبة] وأما في الآخرة فكقوله: {سَلامٌ قَوْلا مِنْ رَّبٍّ رَّحِيمٍ} [سورة يس].
وأما الخامس وهو قوله: {وَلَهُمْ عَذَابٌ ألِيِمٌ} فاعلم أنه تعالى لما بيّن حرمانهم من الثواب بيّن كونهم في العقاب الشديد المؤلم.
————————————————————————-
27- تفسيره قوله تعالى: {وَمَن يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَارًا خَالِدًا فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُّهِينٌ} [سورة النساء].
قال القرطبي: وقوله: {وَمَن يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} يريد في قسمة المواريث فلم يقسمها ولم يعمل بها: {وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ} أي يخالف أمره {يُدْخِلْهُ نَارًا خَالِدًا فِيهَا} والعصيان إن أريد به الكفر فالخلود على بابه، وإن أريد به الكبائر وتجاوز أوامر الله تعالى فالخلود مستعار لمدةٍ ما كما تقول خلّد الله ملكه قال زهير: ولا خالدًا إلا الجبال الرواسيا.
————————————————————————-
28- تفسير قوله تعالى: {إنَّ اللهَ نِعِمَّا يَعِظُكُم بِهِ}.
قال الرازي في التفسير الكبير: أي نعم شيء يعظكم به، أو نعم الذي يعظكم به، والمخصوص بالمدح محذوف، أي نعم شيء يعظكم به ذاك، وهو المأمور به من أداء الأمانات والحكم بالعدل.
————————————————————————-
29- تفسير قوله تعالى: {مَا أصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللهِ وَمَا أصَابَكَ مِن سَيِّئَةٍ فَمِن نَّفْسِكَ} [سورة النساء].
ما أصابك أي هنا تقدير أي الكفار يقولون أو قالوا للنبي وما أصابك من حسنة فمن الله وما أصابك من سيئة فمن نفسك أناس أظهروا الإسلام ثم لما لم يحصل لهم سعة في العيش بل أصابهم مَحْلٌ وضيق قالوا للنبي اعتراضًا وذمًا له ما أصابك أي يا محمد من حسنة فمن الله وما أصابك من سيئة فمن نفسك أي فمن شؤم فعلك، فالخطاب هنا للنبي بدليل ما بعده: {وَأرْسَلْنَاكَ لِلنَّاس رَسُولا} [سورة النساء]. وهذا التفسير الصحيح الذي ذكره السيوطي وغيره.
والصواب في المعتقد أن ما أصاب الرسول من حسنة أي من نعمة ومن سيئة أي مصيبة كل من الله هنا السيئة هي المصيبة في الدنيا في الجسم والمال.
————————————————————————-
30- تفسير قوله تعالى: {وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُّتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا} [سورة النساء].
قال ابن الجوزي في تفسيره: قوله تعالى: {وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُّتَعَمِّدًا} سبب نزولها أن مقيس بن صبابة وجد أخاه هشام بن صُبابة قتيلا في بني النجار وكان مسلمًا، فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكر ذلك له، فأرسل رسول الله رسولا من بني فهر، فقال له: إيت بني النجار فأقرئهم مني السلام، وقل لهم: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمركم إن علمتم قاتل هشام فادفعوه إلى مقيس بن صبابة وأن لم تعلموا له قاتلا فادفعوا إليه ديته” فأبلغهم الفهر ذلك، فقالوا: “والله ما نعلم له قاتلا، ولكنا نعطي ديته فأعطوه مائةً من الإبل ثم انصرفا راجعين إلى المدينة، فأتى الشيطان مقيس بن صُبابة فقال: تقبل دية أخيك فيكون عليك سُبَّة ما بقيت اقتل الذي معك مكان أخيك فرمى الفهريّ بصخرة فشدخ رأسه ثم ركب بعيرًا منها، وساق بقيتها راجعًا إلى مكة. فنزلت هذه الآية، ثم أهدر النبي صلى الله عليه وسلم دمه يوم الفتح فقتل، رواه أبو صالح عن ابن عباس. والصواب في تفسير هذه الآية أنها تحمل على من قتل مسلمًا مستحلا لقتله، وما سواه فهو تكلف لا معنى له.
————————————————————————-
31- تفسير قوله تعالى: {إِنَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ وَلاَ تَكُن لِّلْخَآئِنِينَ خَصِيمًا} [سورة النساء].
قال الرازي في تفسيره: اتفق المفسرون على أن أكثر هذه الايات نزلت في طعمة بن أبيرِق، ثم في كيفية الواقعة روايات: احدها: أن طعمة سرق درعًا فلما طُلبت الوديعة منه رمى واحدًا من اليهود بتلك السرقة، ولما اشتدت الخصومة بين قومه وبين قوم اليهودي جاء قومه إلى النبي صلى الله عليه وسلم وطلبوا منه أن يعينهم على هذا المقصود وأن يلحق هذه الخيانة باليهودي، فهَمَّ الرسول عليه الصلاة والسلام لذلك فنزلت الآية.
وثانيها: أن واحدًا وضع عنده درعًا على سبيل الوديعة ولم يكن هناك شاهد، فلما طلبها منه جحدها.
وثالثها: أن المودع لما طلب الدرع زعم أن اليهودي سرق الدرع.
وأما قوله تعالى: {وَاسْتَغْفِرِ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَّحِيمًا}: فقد فسره بعض أهل العلم بقوله: لعل القوم لما شهدوا على سرقة اليهودي وعلى براءة طعمة من تلك السرقة ولم يظهر للرسول صلى الله عليه وسلم ما يوجب القدح في شهادتهم همَّ بأن يقضي بالسرقة على اليهودي ثم لما أطلعه الله تعالى على كذب أولئك الشهود عرف أن ذلك القضاء لو وقع لكان خطاً. فكان استغفاره بسبب أنه همَّ بذلك وإن كان معذورًا عند الله فيه. وقيل قوله تعالى: {وَاسْتَغْفِرِ اللهَ} يحتمل أن يكون المراد: واستغفر الله لأولئك الذين يذبّون عن طعمة ويريدون أن يظهروا براءته عن السرقة. وأكثر استغفار الرسول صلى الله عليه وسلم لم يكن عن معصيةٍ، ومع هذا كان يكثر من الاستغفار كان كل يوم يستغفر، بل كان يستغفر للترقي من مقام الى أعلى ومن ظن أن الاستغفار لا يكون إلا من معصية فقد بَعُدَ عن الحقيقة.
————————————————————————-
32- تفسير قوله تعالى: {وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَـئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} [سورة المائدة].
قال الخازن في تفسير الآية أن اليهود لما أنكروا حكم الله تعالى المنصوص عليه في التوراة وقالوا أنه غير واجب عليهم فهم كافرون على الإطلاق بموسى والتوراة وبمحمد صلى الله عليه وسلم والقرءان، وكانوا أي اليهود قد أنكروا الرجم والقِصاص.
واختلف العلماء فيمن أنزلت هذه الايات الثلاث وهي قوله: {وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَـئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} [سورة المائدة]، {وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَـئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} [سورة المائدة]، {وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَـئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} [سورة المائدة]، فقال جماعة من المفسرين إن الايات الثلاث نزلت في الكفار لأن المسلم وإن ارتكب كبيرة لا يقال إنه كافر وهذا قول ابن عباس وقتادة والضحاك، ويدل على صحة هذا القول ما رُوي عن البراء بن عازب قال أنزل الله تبارك وتعالى: {وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَـئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} {وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَـئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} {وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَـئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} في الكفار كلها أخرجه مسلم.
وقال مجاهد في هذه الآيات الثلاث من ترك الحكم بما أنزل الله ردًّا لكتاب الله فهو كافر، ظالم، فاسق.
وقال عكرمة: “من أقر به أي بالحكم بغير ما أنزل الله فهو ظالم فاسق”. وقال طاوس قلت لابن عباس أكافر من لم يحكم بما أنزل الله فقال به كفر وليس بكفر ينقل عن الملة كمن كفر بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الاخر، ونحو هذا روي عن عطاء قال: “هو كفر دون الكفر”.
————————————————————————-
33- تفسير قوله تعالى: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُواْ بِمَا قَالُواْ بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ} [سورة المائدة].
قال الخازن: قوله عزَّ وجلَّ: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ} نزلت هذه الآية في فنحَاص بن عازوراء اليهودي. قال ابن عباس: إن الله كان قد بسط على اليهود حتى كانوا أكثر الناس أموالا وأخصبَهم ناحية، فلما عصوا الله ومحمدًا صلى الله عليه وسلم وكذبوا به كف عنهم ما بسط عليهم من السعة فعند ذلك قال فنحاص يد الله مغلولة يعني محبوسة مقبوضةٌ عن الرزق والبذل والعطاء، فنسبوا الله تعالى إلى البخل والقبض، تعالى الله عن قولهم علوّا كبيرًا، ولما قال هذه المقالة الخبيثة فنحاص ولم ينهه بقية اليهود ورضوا بقوله لا جرم أن الله تعالى أشركهم معه في هذه المقالة فقال تعالى إخبارًا عنهم: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ} يعني نعمته مقبوضة عنا.
واعلم أن غل اليد وبسطها مجاز عن البخل والجود بدليل قولِه تعالى لنبيه: {وَلاَ تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلاَ تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ} والسبب أن اليد ءالةٌ لكل الأعمال لا سيما لدفع المال وإنفاقه وإمساكِه فأطلقوا اسم السبب على المسبَّب، وأسندوا الجود والبخل إلى اليد مجازًا، فقيل للجواد الكريم فَيَّاضُ اليد ومبسوط اليد، وقيل للبخيل مقبوض اليد.
وقوله تعالى: {غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُواْ بِمَا قَالُواْ} قال الزجاج رد الله عليهم فقال: أنا الجواد الكريم وهم البخلاء وأيديهم هي المغلولة الممسوكة، وقيل هذا دعاء على اليهود علمنا الله كيف ندعو عليهم فقال: {غُلَّتْ أَيْدِيهِم} أي في نار جهنم، فعلى هذا هو من الغُلّ حقيقة أي شُدَّت أيديهم إلى أعناقهم وطرحوا في النار جزاء لهم على هذا القول ومعنى: {وَلُعِنُواْ بِمَا قَالُواْ} عذبوا بسبب ما قالوا، فمن لعنتهم أنهم مسخوا في الدنيا قردة وخنازير، وضربت عليهم الذلة والمسكنة والجزية، وفي الآخرة لهم عذاب.
وقوله تعالى: {بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ} يعني أنه تعالى جَوَاد كريم ينفق كيف يشاء، وهذا جواب لليهود وَردٌّ عليهم ما افتروا واختلقوه على الله، تعالى الله عن قولهم علوًّا كبيرًا، وإنما أجيبوا بهذا الجواب على قدر كلامهم.
قال أبو حيان في البحر المحيط: معتقد أهل الحق أن الله تعالى ليس بجسم ولا جارحة، ولا يشبَّه بشيء من خلقه، ولا يُكيَّف ولا يتحيز ولا تحله الحوادث وكل هذا مقرر في علم أصول الدين، والجمهور على أن هذا استعارة عن جوده وإنعامه السابغ، وأضاف ذلك إلى اليدين جاريًا على طريقة العرب في قولهم فلان ينفق بكلتا يديه ومنه قوله:
يَداكَ يَدا مُجِدِّ فكَفٌّ مفيدَةٌ
_____ وكفٌّ إذا ما ضُنَّ بالمالِ تُنْفِقُ
ويؤيد أن اليدين هنا بمعنى الإنعام قرينة الإنفاق، ومن نظر في كلام العرب عرف يقينًا أن بسط اليد وقبضها استعارة للجود والبخل، قال الشاعر:
جادَ الحمى بَسْطَ اليدين بوابِلٍ
_____ شَكَرَتْ نَدَاهُ تِلاعُهُ وَوهادُه
وقال لبيد:
وَغداةَ رِيحٍ قد وَزغتَ وِقرَّةٍ
_____ قد أصبحتْ بيد الشِمالِ زِمامُها
————————————————————————-
34- تفسير قوله تعالى: {لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِّلَّذِينَ ءامَنُواْ الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُواْ وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَّوَدَّةً لِّلَّذِينَ ءامَنُواْ الَّذِينَ قَالُوَاْ إِنَّا نَصَارَى ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَانًا وَأَنَّهُمْ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ} [سورة المائدة].
قال الخازن: قوله تعالى: {لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِّلَّذِينَ ءامَنُواْ الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُواْ} اللام في قوله لتجدن لام القسم، وتقديره والله يا محمد إنك لتجدن أشد الناس عداوة للذين ءامنوا بك وصدقوك اليهود والذين أشركوا، وصف الله شدةعداوة اليهود وصعوبة إجابتهم إلى الحق وجعلهم قرناء المشركين عبدة الأصنام في العداوة للمؤمنين، وذلك حسدًا منهم للمؤمنين: {وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَّوَدَّةً لِّلَّذِينَ ءامَنُواْ الَّذِينَ قَالُوَاْ إِنَّا نَصَارَى} قيل: نزلت في أناس من أهل الكتاب ءامنوا بالرسول فأثنى عليهم قيل هو النجاشي وأصحابه، تلا عليهم جعفر بن ابي طالب حين هاجر إلى الحبشة سورة مريم، فآمنوا وفاضت أعينهم من الدمع، وقيل: هم وفد النجاشي مع جعفر إلى الرسول صلى الله عليه وسلم وكانوا سبعين بعثهم إلى الرسول عليهم ثياب الصوف اثنان وستون من الحبشة وثمانية من الشام وهم بحيرا الراهب وإدريس وأشرف وثمامة وقثم ودريد وأيمن، فقرأ عليهم الرسول صلى الله عليه وسلم: {يس} فبكوا وءامنوا وقالوا: ما أشبه هذا بما كان ينزل على عيسى فأنزل الله هذه الآية، وقوله تعالى: {ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ} يعني من النصارى: {قِسِّيسِينَ وَرُهْبَانًا وَأَنَّهُمْ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ} ولم يرد كل النصارى بل الآية نزلت فيمن ءامن من النصارى كالنجاشي وأصحابه. والقس والقسيس اسم رئيس النصارى والجمع قسيسون، وأما الرهبان فهو جمع راهب وقيل الرهبان واحد وجمعه رهابين وهم سكان الصوامع.
————————————————————————-
35- تفسير قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ لَيَبْلُوَنَّكُمُ اللَّهُ بِشَيْءٍ مِّنَ الصَّيْدِ تَنَالُهُ أَيْدِيكُمْ وَرِمَاحُكُمْ لِيَعْلَمَ اللَّهُ مَن يَخَافُهُ بِالْغَيْبِ} [سورة المائدة].
قال الخازن: نزلت هذه الآية عام الحديبية، وكانوا محرمين فابتلاهم الله بالصيد، فكانت الوحوش تغشى رجالهم من كثرتها، فهموا بأخذها وصيدها، فأنزل الله هذه الآية: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ لَيَبْلُوَنَّكُمُ اللَّهُ}. اللام في ليبلونكم لام القسم أي ليختبرن طاعتكم من معصيتكم والمعنى يعاملكم معاملة المختبر بشيء من الصيد يعني صيد البر دون البحر.
وقيل أراد الصيد في حالة الإحرام دون الإحلال، وإنما قال: {بِشَيْءٍ مِّنَ الصَّيْدِ} ليُعلم أنه ليس بفتنة من الفتن العظام التي تزل عندها أقدام الثابتين ويكون التكليف فيها صعبًا شاقًا كالابتلاء ببذل الأموال والأرواح، وإنما هو ابتلاء يسهل كما ابتلي أصحاب السبت بصيد السمك فيه، لكن الله عزّ وجلّ بفضله وكرمه عصم أمة محمد صلى الله عليه وسلم فلم يصطادوا شيئًا في حالة الابتلاء ولم يعصم أصحاب السبت فمسخوا قردة وخنازير.
وقوله تعالى: {تَنَالُهُ أَيْدِيكُمْ} يعني الفرخ والبيض وما لا يقدر أن يفر من صغار الصيد: {وَرَمَاحُكُم} يعني كبار الصيد مثل حمر الوحش ونحوها. وقوله: {لِيَعْلَمَ اللَّهُ مَن يَخَافُهُ بِالْغَيْبِ} قيل هذا مجاز لأن الله تعالى عالم لم يزل ولا يزال واختلفوا في معناه فقيل نعاملكم معاملة من يطلب أن يعلم وقيل ليُظهِرَ المعلوم أي ما يعلمه وهو خوف الخائف وقيل هذا على حذف المضاف والتقدير: ليعلم أولياء الله من يخافه بالغيب، هو في المعنى واحد والأول أرجح.
————————————————————————-
36- تفسير قوله تعالى: {إِذْ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَن يُنَزِّلَ عَلَيْنَا مَآئِدَةً مِّنَ السَّمَاء} [سورة المائدة].
قال القرطبي: وقيل إن القوم أي الحواريين – لم يشكوا في استطاعة البارئ سبحانه لانهم كانوا مؤمنين عارفين عالمين، وإنما هو كقولك للرجل: هل يستطيع فلان أن يأتيَ وقد علمت أنه يستطيع، فالمعنى: هل يفعل ذلك؟ وهل يجيني إلى ذلك أم لا؟
وقد كانوا عالمين باستطاعة الله تعالى لذلك ولغيره عِلم دلالة وخبر ونظر فأرادوا علم معاينة كذلك، كما قال إبراهيم صلى الله عليه وسلم: {رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِـي الْمَوْتَى} وقد كان إبراهيم علم ذلك عِلم خبر ونظر، ولكن إراد المعاينة التي لا يدخلها ريب ولا شبهة، لأن علم النظر والخبر قد تدخله الشبهة والاعتراضات وعلمَ المعاينة لا يدخله شيء من ذلك، ولذلك قال الحواريون: {وَتَطْمَئِنَّ قُلُوبُنَا} كما قال إبراهيم عليه السلام: {وَلَـكِن لِّيَطْمَئِنَّ قَلْبِي}.
ليس معناه أن علم إبراهيم يحتمل الشك.
————————————————————————-
37- تفسير قوله تعالى: {وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنتَ قُلتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَـهَيْنِ مِن دُونِ اللَّهِ قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِن كُنتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلاَ أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنتَ عَلاَّمُ الْغُيُوبِ}.
قال القرطبي: اختلف أهل التأويل في معنى هذا السؤال -وليس هو باستفهام وإن خّرج مخرج الاستفهام- على قولين:
أحدهما: أنه سأله عن ذلك توبيخًا لمن ادّعى عليه ليكون إنكاره بعد السؤال أبلغَ في التكذيب وأشدَّ في التوبيخ والتقريع.
الثاني: قصد بهذا السؤال تعريفَه أن قومه غيروا بعده وادعوا عليه ما لم يقله.
فإن قيل: فالنصارى لم يتخذوا مريم إلهًا فكيف قال ذلك فيهم؟
فقيل: لما كان من قولهم أنها لم تلد بشرًا وإنما ولدت إلهًا لزمهم أن يقولوا إنها لأجل البعضية بمثابة من ولدته، فصاروا حين لزمهم ذلك بمثابة القائلين له. اهـ.
قال بعض المفسرين: وقوله تعالى إخبارًا عن عيسى عليه السلام: {قَالَ سُبحَانَكَ} يعني تنزيهًا لك عن النقائص وبراءة لك من العيوب، وقوله: {مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ} أي لا أدعي لنفسي ما ليس من حقها، يعني أنني مربوب ولست بربَ وعابدٌ ولست بمعبود، ثم قال: {تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلاَ أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ} أي تعلم ما في غيبي ولا أعلم ما في غيبك وقيل المعنى تعلم ما أعلم ولا أعلم ما تعلم.
ليس المعنى أن الله له نفس بمعنى الروح بل الله هو خالق الروح وخالق الجسد، الله ليس روحًا وجسدًا ولا هو روح فقط ولا هو جسدٌ بلا روح: {إِنَّكَ أَنتَ عَلاَّمُ الْغُيُوبِ} ما كان وما يكون وما لم يكن وما هو كائن.
Sunna Files Free Newsletter - اشترك في جريدتنا المجانية
Stay updated with our latest reports, news, designs, and more by subscribing to our newsletter! Delivered straight to your inbox twice a month, our newsletter keeps you in the loop with the most important updates from our website
فالمتشابهُ هو الذي دِلالتُهُ على المرادِ غيرُ واضحةٍ، أو كان يحتمِلُ بحسبِ وضعِ اللغة العربيةِ أوجهًا عديدةً، واحتيج لمعرفةِ المعنى المرادِ منه لنظرِ أهلِ النَّظرِ والفهمِ الذين لهم درايةٌ بالنُّصوصِ ومعانيها ولهم درايةُ بلغةِ العربِ فلا تخفى عليهم المعاني إذ ليس لكلّ إنسانٍ يقرأ القرءان أن يفسّرهُ.
وليس المرادُ بقوله تعالى: {الرَّحْمَنُ عَلَى العَرْشِ استَوَى} أنه جالسٌ على العرشِ، ولا أنه مستقرُّ عليه ولا أن الله بإزاء العرشِ بل كلُّ هذا لا يليق بالله، نعتقدُ أن الله استوى استواءً على العرشِ يليقُ به ولا نعتقدُ بشيءٍ من هذه الأشياءِ الجلوسَ والاستقرارَ والمحاذاةَ.
وقوله تعالى: {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ} [سورة فاطر] أيْ أنَّ الكَلِمَ الطَّيبَ كَلا إلهَ إلا الله يصْعَدُ إلى مََحَلّ كَرَامَتِه وهُوَ السَّمَاءُ، والعَمَلُ الصَّالِحُ يرفَعُه أي الكلمُ الطيبُ يرفَعُ العملَ الصالحَ وَهذا مُنْطَبِقٌ ومُنْسَجِمٌ مَعَ الايةِ المحكمةِ: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شيءٌ}.
هذا من المتشابهِ الذي يعلَمُ معناُه الرَّاسخونَ، فالكلمُ الطَّيبُ هو كلا إله إلا الله والعملُ الصّالحُ يشمَلُ كلَّ عملٍ صالحٍ يُتقرَّبُ به إلى الله كنحو الصلاةِ والصدقةِ وصلة الرحمِ، فالمعنى أن كلَّ ذلك يصعدُ إلى الله أي يتقبَّلُهُ، هذا ليسَ فيه أن الله له حيّزُ يتحيزُ فيه ويسكنُهُ.
فالسماءُ محلُّ كرامةِ الله أي المكان الذي هو مشرََّفٌّ عند الله، لأنها مسكنُ الملائكةِ، هذا التَّفسيرُ موافق للاية المحكمة: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شيءٌ}.
فَتَفْسيرُ الاياتِ المُتَشابِهَةِ يَجبُ أن يُرَدََّ إلى الاياتِ المُحْكَمَةِ، هذا في المُتَشابِه الذي يجوزُ للعُلماءِ أن يعلمُوهُ أي أن من أرادَ أن يُفسّرَ المتشابهَ يجبُ أَنْ يكونَ موافقًا للاياتِ المحكماتِ كتفسيرِ الاستواءِ بالقهرِ فإنه موافقٌ للمحكماتِ، كذلك تفسيرُ: {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ} بمحلِّ كرامتِهِ وهي السَّماءُ موافقٌ للمحكمات.
فَهُنا مسلكانِ كُلٌَ مِنْهُمِا صَحِيحٌ:
الأوَلُ: مَسلَكُ السَّلَفِ: وهُم أهْلُ القُرونِ الثَلاثَةِ الأُولى أي اكثرهم.
فإنهُم يُؤوّلونَها تأوِيلا إجماليًّا بالإيمانِ بها واعتِقادِ أنها ليست من صفاتِ الجسمِ بل أنَّ لَها مَعْنًى يَليقُ بجَلالِ الله وعظمَتِهِ بلا تعْيِينٍ، بَلْ رَدُّوا تِلْكَ الاياتِ إلى الاياتِ المحكَمَةِ كقولِهِ تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شيءٌ} [سورة الشورى].
السلفُ مَن كان َ من أهلِ القرونِ الثلاثةِ الأولى قرنِ أتباعِ التَّابعينَ وقرن التَّابعينَ وقرن الصَّحابةِ وهو قرن الرسولِ، هؤلاءِ يسمَّون السلفَ ومن جاءوا بعدَ ذلكَ يسمَّونَ الخلفَ، ومن العلماءِ من حَدََّ هذا بالمائتين والعشرين سنةً من مبعثِ الرّسولِ ومنهم من حَدَّ هذا بالمئاتِ الثلاثةِ الأولى. فالسّلفُ الغالبُ عليهم أن يؤوّلوا الايات المتشابهة تأويلا إجماليًا بالإيمانِ بها واعتقادِ أن لها معاني تليقُ بجلالِ الله وعظمتِهِ ليست من صفاتِ المخلوقينَ بلا تعيين كآيةِ: {الرَّحْمَنُ عَلَى العَرْشِ استَوَى} و{إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ}. وحديثِ النزولِ بأن يقولوا بلا كيفٍ أو على ما يليق بالله أي من غير أن يكونَ بهيئةٍ من غير أن يكونَ كالجلوسِ والاستقرارِ والجوارحِ والطُّولِ والعرضِ والعمقِ والمساحَةِ والحركةِ والسكونِ والانفعالِ مما هو صفةٌ حادثةٌ. هذا مَسلكُ السّلفِ رَدُّوها من حيثُ الاعتقادُ إلى الاياتِ المحكمةِ كقوله تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شيءٌ} وتركوا تعيينَ معنى معيَّن لها مع نفي تشبيهِ الله بخلقِهِ. قال ابن حجر العسقلاني في فتح الباري: “فمعتقد سلف الأئمة وعلماء السنة من الخلف أن الله منزه عن الحركة والتحول والحلول ليس كمثله شئ” اهـ.
وأما الآيات الكريمة التي اخترنا تفسيرها فهي مجموعة من الايات المتشابهات في صفات الله تعالى وءايات الأحكام، وفي صفات الأنبياء عليهم السلام، والله الموفق وهو نعم النصير.
————————————————————————-
تفسير ءايات من سورة البقرة
1- تفسير قوله تعالى: {اللَّهُ يَسْتَهْزِئُُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ}.
ذكر الإمام فخر الدين الرازي في التفسير الكبير قال:
قوله تعالى: {اللَّهُ يَسْتَهْزِئُُ بِهِمْ} أن ما يفعله الله بهم جزاء على استهزائهم سماه بالاستهزاء، لأن جزء الشيء يسمى باسم ذلك الشيء، قال تعالى: {وَجَزَاء سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا} [سورة الشورى].
والتأويل الثاني أن ضرر استهزائهم بالمؤمنين راجع عليهم وغير ضار بالمؤمنين فيصير كأن الله استهزأ بهم.
تفسير الإحاطة
1. قال تعالى: {واللَّهُ مُحِيطٌ بِالْكافِرِينَ} [سورة البقرة].
2. قال تعالى: {وَاللَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ} [سورة الأنفال].
3. قال تعالى: {قَدْ أَحَاطَ اللَّهُ بِهَا} [سورة الفتح].
4. قال تعالى: {وَاللَّهُ مِن وَرَائِهِم مُّحِيطٌ} [سورة البروج].
5. قال تعالى: {أَلا إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُّحِيطٌ} [سورة فصلت].
اعلم وفقك الله أن ربنا عزَّ وجلَّ ليس متحيزًا بمكان ولا ينتقل من جهة إلى أخرى ولا يفرغ مكانًا ولا يملأ مكانًا وأنه سبحانه وتعالى منزه عن صفات الحوادث من جواهر وأعراض.
وأكثر المفسرين وقفوا عند ءايات الإحاطة بإحاطة العلم بدليل قوله تعالى: {أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا} [سورة الطلاق].
وذكر العبدري لطف الله به في كتاب الدليل نقلا عن كتاب التذكرة الشرقية للإمام أبي نصر القشيري ما يلي:
فإن قيل إن الله يقول: {الرَّحْمَنُ عَلَى العَرْشِ استَوَى} [سورة طه] فيجب الأخذ بظاهره قلنا الله يقول أيضًا: {وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ} [سورة الحديد]. ويقول تعالى: {أَلا إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُّحِيطٌ} [سورة فصلت]. فينبغي (أي على مقتضى كلامهم) أن نأخذ بظاهر هذه الآيات حتى يكونَ على العرش وعندنا ومعنَا ومحيطًا بالعالم محدقًا به بالذات في حالة واحدة والواحد يستحيل أن يكون في حالة بكل مكان اهـ. كلام القشيري.
وهاكم التفاسير التي وردت في تلك الايات:
قوله تعالى: {واللَّهُ مُحِيطٌ بِالْكافِرِينَ} أي أنه لا يفوته أحد منهم فالله جامعهم يوم القيامة، ومثله قوله تعالى: {أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا} قال مجاهد: وقيل: إنه تعالى لا يخفى عليه ما يفعلون.
وأما قوله تعالى: {واللَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ} فيه وعيد وتهديد، يعني أنه تعالى عالم بجميع الاشياء، لا يخفى عن علمه شيء لانه محيط بأعمال العباد كلها، فيجازي المحسنين ويعاقب المسيئين.
وقوله تعالى: {قَدْ أَحَاطَ اللَّهُ بِهَا} أحاط بها علمًا أنها ستكون من فتوحكم (قيل فتح خيبر وقيل فارس والروم وقيل مكة) وقيل حفظها لكم ومنعها من غيركم حتى فتحتموها.
وقوله تعالى: {أَلا إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُّحِيطٌ} أي عالم بجميع المعلومات من المخلوقات فيعلم بواطن هؤلاء الكفار وظواهرهم ويجازي كل أحد على فعله بحسب ما يليق به، إن خيرًا فخير وإن شرًا فشر.
وقوله تعالى: {وَاللَّهُ مِن وَرَائِهِم مُّحِيطٌ} أي عالم بهم لا يخفى عليه شيء من أعمالهم، يقدر أن ينزل بهم ما أنزل بمن كان قبلهم.
————————————————————————-
2- تفسير قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لاَ يَسْتَحْيِي أَن يَضْرِبَ مَثَلاً مَّا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا} كان هذا جوابًا على إثر قول الكفار لرسول الله صلى الله عليه وسلم على ما ذكره بعض أهل التأويل فقالوا: ما يستحي ربك أن يذكر البعوض والذباب ونحوها مما يصغر في نفسه وملوك الارض لا يذكرون ذلك، ويستحون؟ فقال عزَّ وجلَّ جوابًا لقولهم: {إِنَّ اللَّهَ لاَ يَسْتَحْيِي} الاية.. لأن ملوك الأرض إنما ينظرون إلى هذه الأشياء بالاستحقار لها والاستذلال فيستحون من ذكرها على الانكفاف والأنفة.
واللهُ عزَّ وجلَّ لا يستحي عن ذلك، لأن الأعجوبة في الدلالة على وحدانية الله تعالى وربوبيته في خلق الصغير من الحبّة والجسم أكبر من الكبار منها والعظام، لأن الخلائق لو اجتمعوا على تصوير صورة من نحو البعوض والذباب وتركيبٍ يحتاج إليه من الفم والأنف والرجل واليد والمدخل والمخرج ما قدروا.
فأولئك لم ينظروا إليها لما فيها من الأعجوبة واللطافة، ولكن نظروا للحقارة والخساسة أنفًا منهم وانكفافًا.
————————————————————————-
3- تفسير قوله تعالى: {ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاء فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ} [سورة البقرة].
قال الفخر الرازي في التفسير الكبير: الاستواء في كلام العرب قد يكون بمعنى الانتصاب، وضده الاعوجاج، ولما كان ذلك من صفات الأجسام، فالله تعالى يجب أن يكون منزهًا عن ذلك، ثم قال: ولمَّا ثبت هذا وجب التأويل وتقريره أن معنى: {ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاء} أي خلق بعد الأرض السماء. نقول أوجد السماء بعد الأرض.
————————————————————————-
4- تفسير قوله تعالى إخبارًا عن الملائكة: {أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ} [سورة البقرة].
ذكر ابن الجوزي في زاد المسير أن الملائكة قالوه لاستعلام وجه الحكمة، لا على وجه الاعتراض وقيل إن ظاهر الألف الاستفهام، دخل على معنى العلم ليقع به تحقيق، قال جرير:
ألستم خير من ركب المطايا
_____ وأندى العالمين بطون راحِ
معناه أنتم خير من ركب المطايا.
————————————————————————-
5- تفسير قوله تعالى: {وَعَصَى ءادَمُ رَبَّهُ فَغَوَى} [سورة طه].
قال شيخنا العبدري رحمه الله: تجب العصمة للأنبياء من الكفر والكبائر وصغائر الخسة والدناءة كسرقة لقمة. ويَجوز عليهم ما سوى ذلك من الصغائر، وهذا قول أكثر العلماء كما نقله غير واحد وعليه الإمام أبو الحسن الأشعري.
فإن قيل إننا مأمورون بالاقتداء بهم فلو كانوا يعصون للزم الاقتداء بهم في المعصية ولا يعقل ذلك. فالجواب أنهم ينبهون فورًا فلا يُقرون عليها بل يتوبون قبل أن يقتدي بهم أحد فزال المحذور.
————————————————————————-
6- تفسير قوله تعالى: {الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُم مُّلاَقُو رَبِّهِمْ وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ رَاجِعُونَ} [سورة البقرة].
قال الخازن في تفسيره الاية: {الَّذِينَ يَظُنُّونَ} أي يستيقنون وقيل يعلمون: {أَنَّهُم مُّلاَقُو رَبِّهِمْ} يعني في الآخرة وفيه دليل على ثبوت رؤية الله تعالى في الاخرة: {وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ رَاجِعُونَ} يعني بعد الموت فيجزيهم بأعمالهم.
————————————————————————-
7– تفسير قوله تعالى: {بَلَى مَن كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيـئَتُهُ فَأُوْلَـئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [سورة البقرة].
قال ابن الجوزي في زاد المسير: قوله تعالى: {بَلَى مَن كَسَبَ سَيِّئَةً} بلى: بمنزلة “نعم” إلا أن “بلى” جوابَ النفي، و”نعم” جوابَ الإيجاب. قال الفراء: إذا قال الرجل لصاحبه: ما لك علي شيء، فقال الاخر: نعم: كان تصديقا أن لا شيء له عليه ولو قال: بلى: كان ردًا لقوله.
ومعنى: {بَلَى مَن كَسَبَ سَيِّئَةً} بلى مَنْ كَسَبَ قال الزجاج: بلى ردٌّ لقولهم: {وَقَالُواْ لَن تَمَسَّنَا النَّارُ إِلاَّ أَيَّاماً مَّعْدُودَةً} والسيئة ها هنا الشرك.
{وَأَحَاطَتْ بِه} أي أحدقت به خطيئته قال عكرمة: مات ولم يتب منها.
————————————————————————-
8– تفسير قوله تعالى: {وَلِلّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّواْ فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} [سورة البقرة].
ذكر الفخر الرازي في التفسير الكبير: قيل إن هذه الاية نزلت في أمر يختص بالصلاة وهو المروي عن كافة الصحابة والتابعين وقولهم حجة، وظاهر قوله تعالى: {فَأَيْنَمَا تُوَلُّواْ} يفيد التوجه إلى القبلة في الصلاة ولهذا لا يعقل من قوله: {فَوَلُّواْ وُجُوهَكُمْ} إلا هذا المعنى.
وقال بعض المفسرين: إنه تعالى أراد به تحويل المؤمنين عن استقبال بيت المقدس إلى الكعبة، فبين تعالى أن المشرق والمغرب وجميع الجهات والأطراف كلها مملوكة له سبحانه، فأينما أمركم الله باستقباله فهو القبلة، لأن القبلة ليست قبلة لذاتها، بل لأن الله تعالى جعلها قبلة، فإن جعل الكعبة قبلة فلا تنكروا ذلك، لأنه تعالى يدبر عباده كيف يريد، وهو واسع عليم بمصالحهم فكأنه تعالى ذكر ذلك بيانًا لجواز نسخ القبلة من جانب إلى جانب ءاخر، فيصير ذلك مقدمة لما كان يريد تعالى من نسخ القبلة، وقيل إنه لما حولت القبلة عن بيت المقدس أنكر اليهود ذلك، فنزلت الاية ردًا عليهم، وهو قول ابن عباس.
وعن سعيد بن جبير عن ابن عمر أنه قال: إنما نزلت هذه الاية في الرجل يصلي إلى حيث توجهت به راحلته في السفر. وكان عليه السلام إذا رجع من مكة صلى على راحلته تطوعًا يومئ برأسه نحو المدينة فمعنى الاية: {فَأَيْنَمَا تُوَلُّواْ} وجوهكم لنوافلكم في أسفاركم: {فَثّمَّ وَجْهُ اللهِ} فقد صادفتم المطلوب: {إنَّ اللهَ وَاسِعٌ} الفضل غني، فمن سعة فضله وغناه رخص لكم في ذلك لأنه لو كلفكم استقبال القبلة في مثل هذه الحال لزم أحد الضررين إما ترك النوافل وإما النزول عن الراحلة والتخلف عن الرفقة، بخلاف الفرائض فإنها صلوات معدودة محصورة فتكليف النزول عن الراحلة عند أدائها واستقبال القبلة فيها لا يفضي إلى الحرج، فبخلاف النوافل فإنها غير محصورة فتكليف الاستقبال يفضي إلى الحرَج.
————————————————————————-
فائدة: إن إضافة وجه الله كإضافة بيت الله وناقة الله والمراد منها الإضافة بالخلقِ والإيجادُ على سبيل التشريف فقوله: {فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ} أي فثم وجهه الذي وجهكم إليه لأن المشرق والمغرب له بوجهيهما والمقصود من القبلة إنما يكون قبلة لنصبه تعالى إياها فوجه الله في الاية معناه قبلة الله التي رضيها لعباده في السفر لمن هو راكبٌ دابةً يريد النفل وهذه الرخصة خاصة براكب الدابة يريد النفل فلا يدخل في هذا الحكم راكبو السيارات.
————————————————————————-
9- تفسير الآية: {رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِن ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُّسْلِمَةً لَّكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَآ إِنَّكَ أَنتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ} [سورة البقرة].
قال الرازي: قوله: {رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ} يفيد الحصر أي نكون مُسْلِمَيْنِ لك لا لغيرك وهذا يدل على أن كمال سعادة العبد في أن يكون مسلّمًا لأحكام الله تعالى وقضائه وقدره وأن لا يكون ملتفت الخاطر إلى شيء سواه، وهذا هو المراد من قول إبراهيم عليه السلام في موضع ءاخر: {فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِّي إِلاَّ رَبَّ الْعَالَمِينَ}، ثم هاهنا قولان: أحدهما: {رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ} أي موحدين مخلصين لا نعبد إلا إياك. والثاني: إن اعتبرناهما مع الذرية قائِمِين وأما قائميْن فمعناه قائميْن بجميع شرائع الإسلام وهُوَ الأوجه ونقل القرطبي في الجامع لأحكام القرءان قال: قوله تعال: {وَمِن ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُّسْلِمَةً لَّكَ} أي ومن ذريتنا فاجعل فيقال: إنه لم يدع نبي إلا لنفسه ولأمته إلا ابراهيم فإنه دعا مع دعائه لنفسه ولأمته لهذه الأمة. {وَمِن} في قوله: {وَمِن ذُرِّيَّتِنَا} للتبعيض، لأن الله تعالى قد كان أعلمه أن منهم ظالمين أي كافرين، وحكى الطبري: أنه أراد بقوله: {وَمِن ذُرِّيَّتِنَا} العرب خاصة. قال السهيلي: وذريتهما العرب.
————————————————————————-
10- تفسير قوله تعالى: {وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أّهْوَاءَهُم مِّن بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّكَ إِذًا لَّمِنَ الظَّالِمِينَ} [سورة البقرة].
قال الخازن في تفسيره: {وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أّهْوَاءَهُم} يعني مرادهم ورضاهم لو رجعت إلى قبلتهم: {مِّن بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ} أي في أمر القبلة، وقيل معناه: من بعد ما وصل إليك من العلم بأن أهل الكتاب مقيمون على باطلٍ وعناد للحق: {إِنَّكَ إِذًا لَّمِنَ الظَّالِمِينَ} يعني أنك إن فعلت ذلك كنت بمنزلة من ظلم نفسه وضرّها، قيل: هذا خطاب للنبي صلى الله عليه وسلم والمراد به الأمة لأنه صلى الله عليه وسلم لا يتبع أهواءهم أبدًا.
————————————————————————-
11- تفسير قوله تعالى: {الْحَقُّ مِن رَّبِّكَ فَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ} [سورة البقرة] قال الخازن في تفسيره: {الْحَقُّ} أي الذين يكتمونه هو الحق: {مِن رَّبِّكَ فَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ} أي من الشاكين في أن الذين تقدم ذكرهم علموا صحة نبوتك، وقيل يرجع إلى أمر القبلة والمعنى أن بعضهم عاند وكتم الحق فلا تشك في ذلك، فإن قلت النبي صلى الله عليه وسلم لم يمتر ولم يشك فما معنى هذا النهي؟ قلت هذا الخطاب وإن كان للنبي صلى الله عليه وسلم ولكن المراد غيره، والمعنى فلا تشكّوا أنتم أيها المؤمنون.
————————————————————————-
12- تفسير قوله تعالى: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ} [سورة البقرة].
ذكر الخازن في تفسيره لباب التأويل: وقوله تعالى: {فَإِنِّي قَرِيبٌ} معناه قريب بالعلم والحفظ لا يخفى عليه شيء. وفيه إشارة إلى سهولة إجابته لمن دعاه وإنجاح حاجة من سأله إذا توافرت شروط الدعاء.
وقوله تعالى: {أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ}. الدعاء عبارة عن التوحيد والثناء على الله تعالى كقول العبد يا الله لا إله إلا أنت فقولك يا الله فيه دعاء وقولك لا إله إلا أنت فيه توحيد وثناء على الله تعالى فسمى هذا الدعاء بهذا الاعتبار، وسمي قبوله إجابة لتجانس اللفظ وفيه إشارة إلى أن العبد يعلم أن له ربَّا مدبرًا يسمع دعاءه إذا دعاه ولا يخيب رجاء من رجاه.
والفخر الرازي قال في تفسيره الكبير: اعلم أنه ليس المراد من هذا القرب بالجهة والمكان بل المراد منه القرب بالعلم والحفظ.
————————————————————————-
13- تفسير قوله تعالى: {وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ} [سورة البقرة].
أكثر المفسرين حملوا معنى الفتنة على الكفر والشرك، ونقل الفخر الرازي في التفسير الكبير عن ابن عباس قال: إن المراد من الفتنة الكفر بالله تعالى وإنما سمي الكفر بالفتنة لأنه فساد في الارض يؤدي إلى الظلم والهرج، وفيه الفتنة، وإنما جعل الكفر أعظم من القتل، لأن الكفر ذنب يستحق صاحبه به العقاب الدائم، والقتل ليس كذلك والكفر يخرج صاحبه به عن الأمة. والقتل ليس كذلك فكان الكفر أعظم من القتل.
وهذا يدعم كلامنا في تفسير قوله تعالى في سورة النساء: {وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُّتَعَمِّدًا فَجَزَآؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا} لأن الخلود في جهنم هو للكافر خاصة.
————————————————————————-
14- تفسير قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ ادْخُلُواْ فِي السِّلْمِ كَآفَّةً وَلاَ تَتَّبِعُواْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ} [سورة البقرة].
قال الخازن في تفسيره: قوله عزَّ وجلَّ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ ادْخُلُواْ فِي السِّلْمِ كَآفَّةً} نزلت في مؤمني أهل الكتاب عبد الله بن سلام وأصحابه.
وذلك لما أسلموا أقاموا على تعظيم شرائع موسى فعظموا السبت وكرهوا لحم الإبل وألبانها، وقالوا إن ترك هذه الأشياء مباح في الإسلام وواجِب في التوراة وقالوا أيضًا يا رسول الله إن التوراة كتاب الله دعنا فلنقم به في صلاتنا بالليل، فأنزل الله هذه الآية وأمرهم أن يدخلوا في السلم أي في شرائع الإسلام ولا يتمسكوا بالتوراة فإنها منسوخة، والمعنى استسلموا لله وأطيعوا فيما أمر به.
————————————————————————-
15- تفسير قوله تعالى: {هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ أَن يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِّنَ الْغَمَامِ وَالْمَلآئِكَةُ} [سورة البقرة].
أجمع المعتبرون من العقلاء على أنه سبحانه وتعالى منزه عن المجيء والذهاب بطريق الحركة والانتقال وقد ثبت في علم الاصول أن كل ما يصح عليه المجيء والذهاب بطريق الحركة والانتقال لا ينفك عن الحركة والسكون وهما محدثان وما لا ينفك عن المحدث فهو محدث فيلزم أن كل ما يصح عليه المجيء والذهاب بطريق الحركة والانتقال يجب أن يكون محدثًا مخلوقًا، والإله القديم يستحيل أن يكون كذلك. وإذا عرفت هذا فنقول ذكر أهل الكلام في قوله تعالى: {هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ أَن يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ} مذهب السلف الصالح أنه لما ثبت بالدلائل القاطعة أن المجيء والذهاب بطريق الحركة والانتقال على الله تعالى محال، علمنا قطعًا أنه ليس مراد الله تعالى من هذه الآية هو المجيء والذهاب بطريق الحركة والانتقال وأن مراده بعد ذلك شيء ءاخر فعند جمهور المتكلمين المراد بالآية: {هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ أَن يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ} ءايات الله، فجعل مجيء الآيات مجيئًا له على التفخيم لشأن الآيات. وقيل المراد أمر الله.
————————————————————————-
16- تفسير قوله تعالى: {وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ} [سورة البقرة].
قال بعض المفسرين هي نظير قوله تعالى: {وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ}. وذهب ءاخرون إلى أن معنى الفتنة هنا فتنتهم المسلمين عن دينهم حتى يهلِكوا، وقال الرازي في التفسير الكبير: إنه ذُكِرَ في الفتنة قولين أحدهما في الكفر وهذا القول عليه أكثر المفسرين والقول الثاني أن الفتنة هنا هي ما كانوا يفتنون المسلمين عن دينهم تارةً بإلقاء الشبهات في قلوبهم وتارةً بالتعذيب، كفعل المشركين ببلال وصهيب وعمار بن ياسر، وعلى هذا ذهب البعض إلى أن المراد بالفتنة الامتحان.
————————————————————————-
17- تفسير قوله تعالى: {وَاتَّقُواْ اللَّهَ وَاعْلَمُواْ أَنَّكُم مُّلاَقُوهُ} [سورة البقرة].
قال الخازن: {وَاتَّقُواْ اللَّهَ} أي احذورا أن تأتوا شيئًا مما نهاكم الله عنه: {وَاعْلَمُواْ أَنَّكُم مُّلاَقُوهُ} أي صائرون إليه في الآخرة فيجزيكم بأعمالكم.
واعلم أنه سبحانه وتعالى لا يوصف بالاتصال والانفصال ولا بالمماسة والملامسة ولا بالاجتماع والافتراق. ولقاء الله حق على معنى أن الخلق صائرون إليه يوم القيامة ليحاسبهم ويجازيهم.
————————————————————————-
18- تفسير قوله تعالى: {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِـي الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِن قَالَ بَلَى وَلَـكِن لِّيَطْمَئِنَّ قَلْبِي} [سورة البقرة].
قيل سبب السؤال أنه مع مناظرته من نمرود لما قال: {رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِـي وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا أُحْيِـي وَأُمِيتُ} فأطلق محبوسًا وقتل رجلا قال ابراهيم: ليس هذا بإحياء وإماتة وعند ذلك قال: {رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِـي الْمَوْتَى} لتنكشف هذه المسئلة عند نمرود فسأل الله تعالى ذلك، وقوله: {لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي} بنجاتي من القتل أو ليطمئن قلبي بقوة حجتي وبرهاني وإن عدولي منها إلى غيرها ما كان بسبب ضعف تلك الحجة بل كان بسبب جهل المستمع، وأحسن ما قيل فيها ليطمئن قلبي أي هل أعطى ذلك إذا طلبته.
————————————————————————-
19– تفسير قوله تعالى: {لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَـكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَن يَشَاء وَمَا تُنفِقُواْ مِنْ خَيْرٍ فَلأنفُسِكُمْ} [سورة البقرة].
ذكر الخازن في تفسيره لباب التأويل فقال في تفسير هذه الآية: {لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ}: أي ليست عليك “أي يا محمد” هداية من خالفك حتى تمنعهم الصدقة لاجل أن يدخلوا في الإسلام، فحينئذ تتصدق عليهم فأعلمه الله تعالى أنه إنما بُعث بشيرًا ونذيرًا وداعيًا إلى الله بإذنه، فأما كونهم مهتدين فليس ذلك إليك: {وَلَـكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَن يَشَاء}: يعني أن الله يوفق من يشاء فيهديه إلى الإسلام، وأراد بالهداية هنا هداية التوفيق، وأما هداية البيان والدعوة فكانت على رسول الله صلى الله عليه وسلم. والصحيح أن يقال ليس عليك أي لست مكلفًا بأن تهتدي قلوبهم لأن القلوب لا يملكها أحد إلا الله بل الله هو يهدي القلوب بأن يجعلها مؤمنة مصدقة ولكن الله يهدي من يشاء أي أن الله هو الذي يهدي القلوب فيجعلها مؤمنة أما الرسول فلو أكره إنسانًا بالقتال على الدخول في الإسلام فأظهر الإسلام والإيمان لكن قلبه قد يكون على خلاف ظاهره فيكون قلبه مكذبًا للدين فليس على الرسول إلا البيان أي الدعوة إلى الايمان بالله ورسوله وقال تعالى: {أَفَأَنتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُواْ مُؤْمِنِينَ} معناه يا محمد أنت لا تستطيع أن تجعلهم مؤمنين قلبًا.
————————————————————————-
20- تفسير قوله تعالى: {لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أحَدٍ مِّن رسُلِهِ} [سورة البقرة].
ذكر ابن الجوزي في زاد المسير قال: ومعنى قوله تعالى: {لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أحَدٍ مِّن رسُلِهِ} أي لا نفعل كما فعل اهل الكتاب ءامنوا ببعض وكفروا ببعض.
وقال الخازن في تفسيره: قوله تعالى: {وَكُلٌّ ءَامَنَ بِاللهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ}: قال: فهذه أربع مراتب من أصول الايمان وضرورياته فأما الإيمان بالله فهو أن يؤمن بأن الله واحد أحد لا شريك له ولا نظير له، ويؤمن بجميع أسمائه الحسنى وصفاته العليا وأنه حي عالم قادر على كل شيء، وأما الايمان بالملائكة فهو أن يؤمن بوجودهم وأنهم معصومون مطهرون وأنهم السفرة الكرام البررة وأنهم الوسائط بين الله تعالى وبين رسله. وأما الايمان بكتبه فهو بأن يؤمن بأن الكتب المنزلة من عند الله هي وحي الله إلى رسله، وأنها حق وصدق من عند الله بغير شك ولا ارتياب، وأن القرءان لم يحرّف ولم يبدّل ولم يغيّر، وأنه مشتمل على المحكم والمتشابه وأن محكمه يكشف عن متشابهه، وأما الايمان بالرسل فهو أن يؤمن بأنهم رسل الله إلى عباده وأمناؤه على وحيه وأنهم معصومون وأنهم أفضل خلق الله، وأن بعضهم أفضل من بعض وقد أنكر بعضهم ذلك وتمسك بقوله تعالى: {لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أحَدٍ مِّن رُّسُلِهِ} وأجيب عنه بأن المقصود من هذه الجملة شيء ءاخر وهو إثبات نبوة الانبياء والرد على أهل الكتاب الذين يقرون بنبوة موسى وعيسى وينكرون نبوة محمد صلى الله عليه وسلم، وقد ثبت بالنص الصريح تفضيل بعض الانبياء على بعض بقوله عزَّ وجلَّ: {تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ} ومعنى قوله: {لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أحَدٍ مِن رسُلِهِ} أي لا نفعل كما فعل أهل الكتاب يؤمنون ببعض الكتاب ويكفرون ببعض يعني بعد أن كفروا مع تمسكهم لفظًا بالكتابين، بل نؤمن بجميع رسله وفي الآية إضمار وتقدير. وقالوا: “يعني المؤمنين”: {لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أحَدٍ مِن رسُلِهِ وَقَالُواْ سَمِعْنَا وأطَعْنَا} يعني سمعنا قولك وأطعنا أمرك والمعنى قال المؤمنون سمعنا قول ربنا فيما أمرنا به ونهانا عنه: {غُفْرَانَكَ رَبَّنَا} أي نسألك غفرانك ربنا أو يكون المعنى اغفر لنا غفرانك ربنا: {وَإلَيْكَ المَصِيرُ} يعني قالوا إليكم يا ربنا مرجعنا ومعادنا فاغفر لنا ذنوبنا.
————————————————————————-
21- تفسير قوله تعالى: {لا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْسًا إلا وُسْعَهَا} [سورة البقرة].
اعلم رحمك الله بتوفيقه أن كثيرًا من الجهال أخذ هذه الآية حجة وذريعة له في كثير من أمور التكاليف، فترى الواحد منهم مثلا إن كان مريضًا يشق عليه أمر الصلاة على هيئة كذا قال: {لا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْسًا إلا وُسْعَهَا} [سورة البقرة] فيترك الصلاة، وشاع استعمال هذه الآية في غير موضعها فإذا بكثير من الجهلة يتركون الواجبات ويتقاعسون عن الفرائض والطاعات متذرعين بهذه الآية، فجهل هؤلاء الناس لكثير من أمور الاحكام كان سببًا في هلاكهم، وما ذلك إلا لتكبرهم عن طلب العلم والتعلم، فنسأل الله السلامة والنجاة والمعافاة والتوفيق والسداد.
ومما ورد في تفسير قوله تعالى: {لا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْسًا إلا وُسْعَهَا} قال ابن الجوزي في زاد المسير: الوسع الطاقة قاله ابن عباس وقتادة ومعناه لا يكلفها ما لا قدرة لها عليه لاستحالته، كتكليف الزَّمِنِ السعي والاعمى النظر. فأما تكليف ما يستحيل من المكلف لا كفقد الآلات فيجوز كتكليف الكافر الذي سبق في علم الله القديم أنه لا يؤمن فالآية محمولة على القول الاول. ومن الدليل على ما قلناه قوله تعالى في سياق الآية: {رَبَّنَا وَلاَ تُحَمِّلْنَا مَا لاَ طَاقَةَ لَنَا بِهِ} فلو كان تكليف ما لا يطاق ممتنعًا أي مستحيلا كان السؤال عبثًا وقد أمر الله تعالى نبيه بدعاء قوم قال فيهم: {وَإن تَدْعُهُمْ إلى الهُدَى فَلَن يَهْتَدُواْ إذًا أبَدًا} [سورة الكهف] وقال ابن الأنباري المعنى: لا تحملنا ما يثقل علينا أداؤه، وإن كنا مطيقين له.
————————————————————————-
22- تفسير قوله تعالى إخبارًا عن عيسى عليه السلام: {أَنِّي أَخْلُقُ لَكُم مِّنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِ اللَّهِ} [سورة ءال عمران]. الآية.
جمهور المفسرين على أن الخلق في هذه الآية بمعنى التصوير والتقدير، ولم يخالف في ذلك إلا صاحب بدعة وضلالة وقال صاحب تفسير البحر المحيط أبو حيان الاندلسي في تفسير الآية: ومعنى أخلق أقدّر وأهيء، والخلق يكون بمعنى الإنشاء وإبراز العين من العدم إلى الوجود وهذا لا يكون إلا لله تعالى، ويكون بمعنى التقدير والتصوير قال تعالى: {وَتَخْلُقُونَ إفْكًا}: أي تفترون الكذب، ومما جاء الخلق فيه بمعنى التقدير قوله تعالى: {فَتَبَارَكَ اللهُ أحْسَنُ الخَالِقِينَ}: أي المقدّرين وقال الشاعر:
ولأنت تفري ما خلقت وبعضُ
__م__ القوم يخلق ثم لا يفري
————————————————————————-
23- تفسير قوله تعالى: {وَمَكَرُواْ وَمَكَرَ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ} [سورة ءال عمران].
قال أبو حيان الأندلسي في تفسيره البحر المحيط: قوله تعالى: {وَمَكَرُواْ وَمَكَرَ اللهُ} الضمير في مكروا عائد على من عاد عليه الضمير في: {فَلَمَّا أَحَسَّ عِيسىَ مِنْهُمُ الكُفْرَ} وهم بنو إسرائيل، ومكرهم هو احتيالهم في قتل عيسى بأن وكلوا به من يقتله غيلة، ومَكْرُ الله مجازتهم على مكرهم، سمى ذلك مكرًا لأن المجازاة لهم ناشئة عن المكر كقوله: {وَجَزَاء سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا} [سورة الشورى]. وقوله: {فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُواْ عَلَيْه} [سورة البقرة].
وكثيرًا ما تسمى العقوبة باسم الذنب وإن لم تكن في معناه.
قوله تعالى: {وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ} معناه المجازين على المكر بما يستحق فاعله.
————————————————————————-
24- تفسير قوله تعالى: {إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ} [ءال عمران].
قال الفخر الرازي في تفسير قوله تعالى: {إِنِّي مُتَوَفِّيكَ} ونظيره قوله تعالى حكاية عنه: {فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنتَ أَنتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ}. {مُتَوَفِّيكَ} أي متمم عمرك فحينئذ أتوفاك فلا أتركهم حتى يقتلوك بل أنا رافعك إلى سمائي، ومقربك بملائكتي، وأصونك عن أن يتمكنوا من قتلك وهذا تأويل حسن، قال بعض المفسرين لا بد في الآية من تقديم وتأخير من غير أن يحتاج فيها إلى تقديم أو تأخير قالوا: إن قوله تعالى: {وَرَافِعُكَ إِلَيَّ} يقتضي أنه رفعه حيَّا والواو لا تقتضي الترتيب فلم يبق إلا أن يقول فيها تقديم وتأخير والمعنى إني رافعك إليَّ ومطهرك من الذين كفروا ومتوفيك بعد إنزالي إياك في الدنيا ومثله من التقديم والتأخير كثير في القرءان.
و المراد بقوله تعالى: {وَرَافِعُكَ إِلَيَّ} أي إلى محل كرامتي وجعل ذلك رفعًا إليه للتفخيم والتعظيم ومثله قوله: {إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّي}. وإنما ذهب إبراهيم صلى الله عليه وسلم من العراق إلى الشام، وقد يقول السلطان ارفعوا هذا الأمر إلى القاضي، وقد يسمى الحجاج زوار الله، والمراد من كل ذلك التفخيم والتعظيم فكذا ههنا.
————————————————————————-
25- تفسير قوله تعالى: {قُلْ إِنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاءُ} [سورة ءال عمران].
كر الخازن في لُباب التأويل: وقوله تعالى: {قُلْ إنَّ الفَضْلَ} يعني قل لهم يا محمد إن التوفيق للإيمان والهداية للإسلام: {بِيَدِ اللهِ} أي أنه مالك له وقادر عليه دونكم ودون سائر خلقه: {يُؤْتِيهِ مِن يِشَاءُ} يعني الفضل الذي هو دين الإسلام يعطيه من يشاء من عباده ويوفق له من أراد من خلقه وفيه تكذيب لليهود حيث قالوا لن يؤتي الله أحدًا مثل ما أوتي بنو إسرائيل من النبوة فقال الله ردّا عليهم: {قلْ} لهم: ليس ذلك إليهم وإنما الفضل بيد الله يؤتيه من يشاء.
————————————————————————-
26- تفسير قوله تعالى: {إنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللهِ وَأيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلا أُوْلئِكَ لا خَلاقَ لَهُمْ فىِ الأَخِرَةِ وَلا يُكَلِّمُهُمُ اللهُ وَلا يَنظُرُ إلَيْهِمْ يَوْمَ القِيَامَةِ وَلا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ ألِيمٌ} [سورة ءال عمران].
قال الإمام الفخر الرازي في تفسير الآية: أما الأول وهو قوله: {لا خَلاقَ لَهُمْ فىِ الأَخِرَةِ} فالمعنى لا نصيب لهم في خير الآخرة ونعيمها، واعلم أن هذا العموم مشروط بإجماع الامة بعدم التوبة، فإنه إن تاب عنها سقط الوعيد بالإجماع وعلى مذهبنا مشروط أيضًا بعدم العفو فإنه تعالى قال: {إِنَّ اللهَ لا يَغْفِرُ أن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاءُ} [سورة النساء].
وأما الثاني وهو قوله: {وَلا يُكَلِّمُهُمُ اللهُ} المقصود بيان شدة سخط الله عليهم.
وأما الثالث وهو قوله: {وَلا يَنظُرُ إلَيْهِمْ} فالمراد أنه لا ينظر إليهم بالإحسان، يقال فلان لا ينظر إلى فلان، والمراد به نفي الاعتداد به وترك الإحسان إليه، ولا يجوز أن يكون المراد من هذا النظر الرؤية لأنه تعالى يراهم كما يرى غيرهم، ولا يجوز أن يكون المراد من النظر تقليب الحدقة إلى جانب المرئيّ التماسًا لرؤيته، لأن هذا من صفات الأجسام وتعالى إلهنا عن أن يكون جسمًا.
و أما الرابع وهو قوله تعالى: {وَلا يُزَكِّيهِمْ} قيل لا يزكيهم أي لا يثني عليهم كما يثني على أوليائه الأزكياء، واعلم أن تزكية الله عباده قد تكون على ألسنة الملائكة كما قال: {وَالمَلائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِم مِّن كُلٍِّ بَابٍ * سَلامٌ عَلَيْكُم بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمََ عُقْبَى الدَّارِ} وقال: {وَتَتَلَقَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ هَذَا يَوْمُكُمُ الَّذِي كُنتُمْ تُوعَدُونَ} {نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ} [سورة فصلت] وقد تكون بغير واسطة أما في الدنيا فكقوله: {التَّائبُونَ العَابِدُونَ} [سورة التوبة] وأما في الآخرة فكقوله: {سَلامٌ قَوْلا مِنْ رَّبٍّ رَّحِيمٍ} [سورة يس].
وأما الخامس وهو قوله: {وَلَهُمْ عَذَابٌ ألِيِمٌ} فاعلم أنه تعالى لما بيّن حرمانهم من الثواب بيّن كونهم في العقاب الشديد المؤلم.
————————————————————————-
27- تفسيره قوله تعالى: {وَمَن يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَارًا خَالِدًا فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُّهِينٌ} [سورة النساء].
قال القرطبي: وقوله: {وَمَن يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} يريد في قسمة المواريث فلم يقسمها ولم يعمل بها: {وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ} أي يخالف أمره {يُدْخِلْهُ نَارًا خَالِدًا فِيهَا} والعصيان إن أريد به الكفر فالخلود على بابه، وإن أريد به الكبائر وتجاوز أوامر الله تعالى فالخلود مستعار لمدةٍ ما كما تقول خلّد الله ملكه قال زهير: ولا خالدًا إلا الجبال الرواسيا.
————————————————————————-
28- تفسير قوله تعالى: {إنَّ اللهَ نِعِمَّا يَعِظُكُم بِهِ}.
قال الرازي في التفسير الكبير: أي نعم شيء يعظكم به، أو نعم الذي يعظكم به، والمخصوص بالمدح محذوف، أي نعم شيء يعظكم به ذاك، وهو المأمور به من أداء الأمانات والحكم بالعدل.
————————————————————————-
29- تفسير قوله تعالى: {مَا أصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللهِ وَمَا أصَابَكَ مِن سَيِّئَةٍ فَمِن نَّفْسِكَ} [سورة النساء].
ما أصابك أي هنا تقدير أي الكفار يقولون أو قالوا للنبي وما أصابك من حسنة فمن الله وما أصابك من سيئة فمن نفسك أناس أظهروا الإسلام ثم لما لم يحصل لهم سعة في العيش بل أصابهم مَحْلٌ وضيق قالوا للنبي اعتراضًا وذمًا له ما أصابك أي يا محمد من حسنة فمن الله وما أصابك من سيئة فمن نفسك أي فمن شؤم فعلك، فالخطاب هنا للنبي بدليل ما بعده: {وَأرْسَلْنَاكَ لِلنَّاس رَسُولا} [سورة النساء]. وهذا التفسير الصحيح الذي ذكره السيوطي وغيره.
والصواب في المعتقد أن ما أصاب الرسول من حسنة أي من نعمة ومن سيئة أي مصيبة كل من الله هنا السيئة هي المصيبة في الدنيا في الجسم والمال.
————————————————————————-
30- تفسير قوله تعالى: {وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُّتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا} [سورة النساء].
قال ابن الجوزي في تفسيره: قوله تعالى: {وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُّتَعَمِّدًا} سبب نزولها أن مقيس بن صبابة وجد أخاه هشام بن صُبابة قتيلا في بني النجار وكان مسلمًا، فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكر ذلك له، فأرسل رسول الله رسولا من بني فهر، فقال له: إيت بني النجار فأقرئهم مني السلام، وقل لهم: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمركم إن علمتم قاتل هشام فادفعوه إلى مقيس بن صبابة وأن لم تعلموا له قاتلا فادفعوا إليه ديته” فأبلغهم الفهر ذلك، فقالوا: “والله ما نعلم له قاتلا، ولكنا نعطي ديته فأعطوه مائةً من الإبل ثم انصرفا راجعين إلى المدينة، فأتى الشيطان مقيس بن صُبابة فقال: تقبل دية أخيك فيكون عليك سُبَّة ما بقيت اقتل الذي معك مكان أخيك فرمى الفهريّ بصخرة فشدخ رأسه ثم ركب بعيرًا منها، وساق بقيتها راجعًا إلى مكة. فنزلت هذه الآية، ثم أهدر النبي صلى الله عليه وسلم دمه يوم الفتح فقتل، رواه أبو صالح عن ابن عباس. والصواب في تفسير هذه الآية أنها تحمل على من قتل مسلمًا مستحلا لقتله، وما سواه فهو تكلف لا معنى له.
————————————————————————-
31- تفسير قوله تعالى: {إِنَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ وَلاَ تَكُن لِّلْخَآئِنِينَ خَصِيمًا} [سورة النساء].
قال الرازي في تفسيره: اتفق المفسرون على أن أكثر هذه الايات نزلت في طعمة بن أبيرِق، ثم في كيفية الواقعة روايات: احدها: أن طعمة سرق درعًا فلما طُلبت الوديعة منه رمى واحدًا من اليهود بتلك السرقة، ولما اشتدت الخصومة بين قومه وبين قوم اليهودي جاء قومه إلى النبي صلى الله عليه وسلم وطلبوا منه أن يعينهم على هذا المقصود وأن يلحق هذه الخيانة باليهودي، فهَمَّ الرسول عليه الصلاة والسلام لذلك فنزلت الآية.
وثانيها: أن واحدًا وضع عنده درعًا على سبيل الوديعة ولم يكن هناك شاهد، فلما طلبها منه جحدها.
وثالثها: أن المودع لما طلب الدرع زعم أن اليهودي سرق الدرع.
وأما قوله تعالى: {وَاسْتَغْفِرِ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَّحِيمًا}: فقد فسره بعض أهل العلم بقوله: لعل القوم لما شهدوا على سرقة اليهودي وعلى براءة طعمة من تلك السرقة ولم يظهر للرسول صلى الله عليه وسلم ما يوجب القدح في شهادتهم همَّ بأن يقضي بالسرقة على اليهودي ثم لما أطلعه الله تعالى على كذب أولئك الشهود عرف أن ذلك القضاء لو وقع لكان خطاً. فكان استغفاره بسبب أنه همَّ بذلك وإن كان معذورًا عند الله فيه. وقيل قوله تعالى: {وَاسْتَغْفِرِ اللهَ} يحتمل أن يكون المراد: واستغفر الله لأولئك الذين يذبّون عن طعمة ويريدون أن يظهروا براءته عن السرقة. وأكثر استغفار الرسول صلى الله عليه وسلم لم يكن عن معصيةٍ، ومع هذا كان يكثر من الاستغفار كان كل يوم يستغفر، بل كان يستغفر للترقي من مقام الى أعلى ومن ظن أن الاستغفار لا يكون إلا من معصية فقد بَعُدَ عن الحقيقة.
————————————————————————-
32- تفسير قوله تعالى: {وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَـئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} [سورة المائدة].
قال الخازن في تفسير الآية أن اليهود لما أنكروا حكم الله تعالى المنصوص عليه في التوراة وقالوا أنه غير واجب عليهم فهم كافرون على الإطلاق بموسى والتوراة وبمحمد صلى الله عليه وسلم والقرءان، وكانوا أي اليهود قد أنكروا الرجم والقِصاص.
واختلف العلماء فيمن أنزلت هذه الايات الثلاث وهي قوله: {وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَـئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} [سورة المائدة]، {وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَـئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} [سورة المائدة]، {وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَـئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} [سورة المائدة]، فقال جماعة من المفسرين إن الايات الثلاث نزلت في الكفار لأن المسلم وإن ارتكب كبيرة لا يقال إنه كافر وهذا قول ابن عباس وقتادة والضحاك، ويدل على صحة هذا القول ما رُوي عن البراء بن عازب قال أنزل الله تبارك وتعالى: {وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَـئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} {وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَـئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} {وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَـئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} في الكفار كلها أخرجه مسلم.
وقال مجاهد في هذه الآيات الثلاث من ترك الحكم بما أنزل الله ردًّا لكتاب الله فهو كافر، ظالم، فاسق.
وقال عكرمة: “من أقر به أي بالحكم بغير ما أنزل الله فهو ظالم فاسق”. وقال طاوس قلت لابن عباس أكافر من لم يحكم بما أنزل الله فقال به كفر وليس بكفر ينقل عن الملة كمن كفر بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الاخر، ونحو هذا روي عن عطاء قال: “هو كفر دون الكفر”.
————————————————————————-
33- تفسير قوله تعالى: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُواْ بِمَا قَالُواْ بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ} [سورة المائدة].
قال الخازن: قوله عزَّ وجلَّ: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ} نزلت هذه الآية في فنحَاص بن عازوراء اليهودي. قال ابن عباس: إن الله كان قد بسط على اليهود حتى كانوا أكثر الناس أموالا وأخصبَهم ناحية، فلما عصوا الله ومحمدًا صلى الله عليه وسلم وكذبوا به كف عنهم ما بسط عليهم من السعة فعند ذلك قال فنحاص يد الله مغلولة يعني محبوسة مقبوضةٌ عن الرزق والبذل والعطاء، فنسبوا الله تعالى إلى البخل والقبض، تعالى الله عن قولهم علوّا كبيرًا، ولما قال هذه المقالة الخبيثة فنحاص ولم ينهه بقية اليهود ورضوا بقوله لا جرم أن الله تعالى أشركهم معه في هذه المقالة فقال تعالى إخبارًا عنهم: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ} يعني نعمته مقبوضة عنا.
واعلم أن غل اليد وبسطها مجاز عن البخل والجود بدليل قولِه تعالى لنبيه: {وَلاَ تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلاَ تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ} والسبب أن اليد ءالةٌ لكل الأعمال لا سيما لدفع المال وإنفاقه وإمساكِه فأطلقوا اسم السبب على المسبَّب، وأسندوا الجود والبخل إلى اليد مجازًا، فقيل للجواد الكريم فَيَّاضُ اليد ومبسوط اليد، وقيل للبخيل مقبوض اليد.
وقوله تعالى: {غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُواْ بِمَا قَالُواْ} قال الزجاج رد الله عليهم فقال: أنا الجواد الكريم وهم البخلاء وأيديهم هي المغلولة الممسوكة، وقيل هذا دعاء على اليهود علمنا الله كيف ندعو عليهم فقال: {غُلَّتْ أَيْدِيهِم} أي في نار جهنم، فعلى هذا هو من الغُلّ حقيقة أي شُدَّت أيديهم إلى أعناقهم وطرحوا في النار جزاء لهم على هذا القول ومعنى: {وَلُعِنُواْ بِمَا قَالُواْ} عذبوا بسبب ما قالوا، فمن لعنتهم أنهم مسخوا في الدنيا قردة وخنازير، وضربت عليهم الذلة والمسكنة والجزية، وفي الآخرة لهم عذاب.
وقوله تعالى: {بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ} يعني أنه تعالى جَوَاد كريم ينفق كيف يشاء، وهذا جواب لليهود وَردٌّ عليهم ما افتروا واختلقوه على الله، تعالى الله عن قولهم علوًّا كبيرًا، وإنما أجيبوا بهذا الجواب على قدر كلامهم.
قال أبو حيان في البحر المحيط: معتقد أهل الحق أن الله تعالى ليس بجسم ولا جارحة، ولا يشبَّه بشيء من خلقه، ولا يُكيَّف ولا يتحيز ولا تحله الحوادث وكل هذا مقرر في علم أصول الدين، والجمهور على أن هذا استعارة عن جوده وإنعامه السابغ، وأضاف ذلك إلى اليدين جاريًا على طريقة العرب في قولهم فلان ينفق بكلتا يديه ومنه قوله:
يَداكَ يَدا مُجِدِّ فكَفٌّ مفيدَةٌ
_____ وكفٌّ إذا ما ضُنَّ بالمالِ تُنْفِقُ
ويؤيد أن اليدين هنا بمعنى الإنعام قرينة الإنفاق، ومن نظر في كلام العرب عرف يقينًا أن بسط اليد وقبضها استعارة للجود والبخل، قال الشاعر:
جادَ الحمى بَسْطَ اليدين بوابِلٍ
_____ شَكَرَتْ نَدَاهُ تِلاعُهُ وَوهادُه
وقال لبيد:
وَغداةَ رِيحٍ قد وَزغتَ وِقرَّةٍ
_____ قد أصبحتْ بيد الشِمالِ زِمامُها
————————————————————————-
34- تفسير قوله تعالى: {لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِّلَّذِينَ ءامَنُواْ الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُواْ وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَّوَدَّةً لِّلَّذِينَ ءامَنُواْ الَّذِينَ قَالُوَاْ إِنَّا نَصَارَى ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَانًا وَأَنَّهُمْ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ} [سورة المائدة].
قال الخازن: قوله تعالى: {لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِّلَّذِينَ ءامَنُواْ الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُواْ} اللام في قوله لتجدن لام القسم، وتقديره والله يا محمد إنك لتجدن أشد الناس عداوة للذين ءامنوا بك وصدقوك اليهود والذين أشركوا، وصف الله شدةعداوة اليهود وصعوبة إجابتهم إلى الحق وجعلهم قرناء المشركين عبدة الأصنام في العداوة للمؤمنين، وذلك حسدًا منهم للمؤمنين: {وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَّوَدَّةً لِّلَّذِينَ ءامَنُواْ الَّذِينَ قَالُوَاْ إِنَّا نَصَارَى} قيل: نزلت في أناس من أهل الكتاب ءامنوا بالرسول فأثنى عليهم قيل هو النجاشي وأصحابه، تلا عليهم جعفر بن ابي طالب حين هاجر إلى الحبشة سورة مريم، فآمنوا وفاضت أعينهم من الدمع، وقيل: هم وفد النجاشي مع جعفر إلى الرسول صلى الله عليه وسلم وكانوا سبعين بعثهم إلى الرسول عليهم ثياب الصوف اثنان وستون من الحبشة وثمانية من الشام وهم بحيرا الراهب وإدريس وأشرف وثمامة وقثم ودريد وأيمن، فقرأ عليهم الرسول صلى الله عليه وسلم: {يس} فبكوا وءامنوا وقالوا: ما أشبه هذا بما كان ينزل على عيسى فأنزل الله هذه الآية، وقوله تعالى: {ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ} يعني من النصارى: {قِسِّيسِينَ وَرُهْبَانًا وَأَنَّهُمْ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ} ولم يرد كل النصارى بل الآية نزلت فيمن ءامن من النصارى كالنجاشي وأصحابه. والقس والقسيس اسم رئيس النصارى والجمع قسيسون، وأما الرهبان فهو جمع راهب وقيل الرهبان واحد وجمعه رهابين وهم سكان الصوامع.
————————————————————————-
35- تفسير قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ لَيَبْلُوَنَّكُمُ اللَّهُ بِشَيْءٍ مِّنَ الصَّيْدِ تَنَالُهُ أَيْدِيكُمْ وَرِمَاحُكُمْ لِيَعْلَمَ اللَّهُ مَن يَخَافُهُ بِالْغَيْبِ} [سورة المائدة].
قال الخازن: نزلت هذه الآية عام الحديبية، وكانوا محرمين فابتلاهم الله بالصيد، فكانت الوحوش تغشى رجالهم من كثرتها، فهموا بأخذها وصيدها، فأنزل الله هذه الآية: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ لَيَبْلُوَنَّكُمُ اللَّهُ}. اللام في ليبلونكم لام القسم أي ليختبرن طاعتكم من معصيتكم والمعنى يعاملكم معاملة المختبر بشيء من الصيد يعني صيد البر دون البحر.
وقيل أراد الصيد في حالة الإحرام دون الإحلال، وإنما قال: {بِشَيْءٍ مِّنَ الصَّيْدِ} ليُعلم أنه ليس بفتنة من الفتن العظام التي تزل عندها أقدام الثابتين ويكون التكليف فيها صعبًا شاقًا كالابتلاء ببذل الأموال والأرواح، وإنما هو ابتلاء يسهل كما ابتلي أصحاب السبت بصيد السمك فيه، لكن الله عزّ وجلّ بفضله وكرمه عصم أمة محمد صلى الله عليه وسلم فلم يصطادوا شيئًا في حالة الابتلاء ولم يعصم أصحاب السبت فمسخوا قردة وخنازير.
وقوله تعالى: {تَنَالُهُ أَيْدِيكُمْ} يعني الفرخ والبيض وما لا يقدر أن يفر من صغار الصيد: {وَرَمَاحُكُم} يعني كبار الصيد مثل حمر الوحش ونحوها. وقوله: {لِيَعْلَمَ اللَّهُ مَن يَخَافُهُ بِالْغَيْبِ} قيل هذا مجاز لأن الله تعالى عالم لم يزل ولا يزال واختلفوا في معناه فقيل نعاملكم معاملة من يطلب أن يعلم وقيل ليُظهِرَ المعلوم أي ما يعلمه وهو خوف الخائف وقيل هذا على حذف المضاف والتقدير: ليعلم أولياء الله من يخافه بالغيب، هو في المعنى واحد والأول أرجح.
————————————————————————-
36- تفسير قوله تعالى: {إِذْ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَن يُنَزِّلَ عَلَيْنَا مَآئِدَةً مِّنَ السَّمَاء} [سورة المائدة].
قال القرطبي: وقيل إن القوم أي الحواريين – لم يشكوا في استطاعة البارئ سبحانه لانهم كانوا مؤمنين عارفين عالمين، وإنما هو كقولك للرجل: هل يستطيع فلان أن يأتيَ وقد علمت أنه يستطيع، فالمعنى: هل يفعل ذلك؟ وهل يجيني إلى ذلك أم لا؟
وقد كانوا عالمين باستطاعة الله تعالى لذلك ولغيره عِلم دلالة وخبر ونظر فأرادوا علم معاينة كذلك، كما قال إبراهيم صلى الله عليه وسلم: {رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِـي الْمَوْتَى} وقد كان إبراهيم علم ذلك عِلم خبر ونظر، ولكن إراد المعاينة التي لا يدخلها ريب ولا شبهة، لأن علم النظر والخبر قد تدخله الشبهة والاعتراضات وعلمَ المعاينة لا يدخله شيء من ذلك، ولذلك قال الحواريون: {وَتَطْمَئِنَّ قُلُوبُنَا} كما قال إبراهيم عليه السلام: {وَلَـكِن لِّيَطْمَئِنَّ قَلْبِي}.
ليس معناه أن علم إبراهيم يحتمل الشك.
————————————————————————-
37- تفسير قوله تعالى: {وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنتَ قُلتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَـهَيْنِ مِن دُونِ اللَّهِ قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِن كُنتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلاَ أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنتَ عَلاَّمُ الْغُيُوبِ}.
قال القرطبي: اختلف أهل التأويل في معنى هذا السؤال -وليس هو باستفهام وإن خّرج مخرج الاستفهام- على قولين:
أحدهما: أنه سأله عن ذلك توبيخًا لمن ادّعى عليه ليكون إنكاره بعد السؤال أبلغَ في التكذيب وأشدَّ في التوبيخ والتقريع.
الثاني: قصد بهذا السؤال تعريفَه أن قومه غيروا بعده وادعوا عليه ما لم يقله.
فإن قيل: فالنصارى لم يتخذوا مريم إلهًا فكيف قال ذلك فيهم؟
فقيل: لما كان من قولهم أنها لم تلد بشرًا وإنما ولدت إلهًا لزمهم أن يقولوا إنها لأجل البعضية بمثابة من ولدته، فصاروا حين لزمهم ذلك بمثابة القائلين له. اهـ.
قال بعض المفسرين: وقوله تعالى إخبارًا عن عيسى عليه السلام: {قَالَ سُبحَانَكَ} يعني تنزيهًا لك عن النقائص وبراءة لك من العيوب، وقوله: {مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ} أي لا أدعي لنفسي ما ليس من حقها، يعني أنني مربوب ولست بربَ وعابدٌ ولست بمعبود، ثم قال: {تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلاَ أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ} أي تعلم ما في غيبي ولا أعلم ما في غيبك وقيل المعنى تعلم ما أعلم ولا أعلم ما تعلم.
ليس المعنى أن الله له نفس بمعنى الروح بل الله هو خالق الروح وخالق الجسد، الله ليس روحًا وجسدًا ولا هو روح فقط ولا هو جسدٌ بلا روح: {إِنَّكَ أَنتَ عَلاَّمُ الْغُيُوبِ} ما كان وما يكون وما لم يكن وما هو كائن.