كل ما كتب عن الحملة الرومانية إلى اليمن، اعتمد على رواية الجغرافي اليوناني سترابو. عدا أن الوقائع قيلت وفق ما تصوره الرومان، وليس كما حدثت تمامًا. والغريب أنه لا يوجد بين النقوش اليمنية أية إشارة إلى حدث بتلك الخطورة. ويبدو أن الرومان وقتها لم يكونوا ليتقبلوا الفشل؛ لتتخذ روايتهم بعض المغالطات. مع هذا، لم تكن الحملة مجرد خطر عابر على اليمن، إنما تركت تأثيرًا عميقًا فيما تلاها من نزاعات.
كلف الإمبراطور الروماني “أوغستوس”، نائبه في مصر إليوس جاليوس، بقيادة الحملة إلى اليمن. واللافت أن سترابو أشار إلى أن الغاية منها اكتشاف بلاد العرب وإثيوبيا، على أنه لم يشر لأي تفاصيل عن ماذا جرى في إثيوبيا، هل تم إرسال جيش أو وفود، وما إن سبق الحملة إلى اليمن تواصل مع ملك سبأ الذي أطلق عليه الرومان وقتها اسم إليزاروس، والأرجح أنه”الشرح”.
يعود زمن الحملة إلى عام 24 ق.م، ومن المؤكد أن حافز المخاطرة لبلوغ جنوب الجزيرة العربية، هو السمعة التي سادت عن ثراء العرب على مر العصور، وهو ما أشار إليه سترابو. وكان غرض أوغستوس إما توثيق علاقته بالعرب أو إخضاعهم له. فتصوره أن العرب يجنون أموالًا طائلة من بيع العطور والأحجار الكريمة، لكنهم لا ينفقون شيئًا من التجارة مع الأجانب. وذلك ما جرى سرده ضمن وقائع الحملة.
في رواية سترابو، يقول أوغستوس في معرض إرساله حملة إلى اليمن: إما أن نتعاون مع أصدقائنا الأغنياء أو نتغلب على أعدائنا الأغنياء. وتلك مقولة تعكس ذهنية الإمبراطوريات على مر العصور، ومارستها ضد كل الشعوب التي أخضعتها.
ولنا من التاريخ أمثلة، ففي العهد الفيكتوري شنت بريطانيا حملة بحرية ضد الصين، صارت تعرف بحرب الأفيون. وكلفت الهزيمة إمبراطور الصين، توقيع معاهدة سمح بموجبها بتجارة الأفيون على أرضه، أي أمة تحتمل مثل هذا العار، ذلك ما تفعله الإمبراطوريات لتخضع كل شعوب الأرض.
بالنسبة لمملكة أكسوم، كانوا أكثر مرونة من عرب الجنوب، وأصبحوا وكلاء روما في اليمن. كذلك تلعب اليوم أمريكا بعض سياساتها في المنطقة عبر وكلاء لها. فبعض السياسات الحديثة، سبق للرومان أن أسسوا لها.
وفي نقش صاحبه زعيم قبلي، يقول إنه قاد حروبًا لصالح ملك سبأ شاعرم أوترم، وربما يعود النقش للقرن الثاني الميلادي. ففي نجران يواجه الأحباش ومن والاهم. وفي جملة تلك الحروب، قاد ذلك الزعيم هجومًا على مملكة كندة في وادي الدواسر جنوب نجد، وهو ربما أقدم نقش يمني يشير إلى معارك في تلك النواحي. ربما فتحت الحملة الرومانية عيون اليمنيين على المخاطر القادمة من الشمال.
Sunna Files Free Newsletter - اشترك في جريدتنا المجانية
Stay updated with our latest reports, news, designs, and more by subscribing to our newsletter! Delivered straight to your inbox twice a month, our newsletter keeps you in the loop with the most important updates from our website
لكن أبرز ما جاء في النقش، في سياق حديثنا، عن معركة كلفه بها شاعرم أوترم، ضد عشائر يحبر أسد المتعاونين مع ذي يونم، وربما تعني اليونانيين، والمقصود في ذلك الرومان، أي أنهم حرصوا أثناء المرور في أراضي بعض العشائر، بناء تحالف معهم يناوئ عرب الجنوب. خاض الزعيم القبلي المعارك في كنف أرض الأسد، أي وسطها. والأرجح أنه يعني الأزديين، بينما نتساءل عن معنى لفظة يحبر، هل تعني الحبر أو الأحبار، في إشارة لليهود.
وحد وصف سترابو كان اليهود بين حلفاء روما الذين شملتهم الحملة. هل معنى ذلك أنها غارة تأديبية لتعاون أولئك مع الرومان، ما قد يعني أنها كانت في فترة قريبة من حدوث الحملة الرومانية.
بعد فشل حملتهم، لجأ الرومان للاعتماد على الأحباش، الذين من المرجح أنهم تواجدوا في تهامة منذ القرن الميلادي الأول، وهو التواجد الحبشي الأول. وبينما كان النزاع يستعر بين اليمنيين، حاول الأحباش التوغل في اليمن. كما أطلق بعض ملوك الحبشة على أنفسهم بملوك أكسوم وسبأ.
غير أن اليمن تأثرت بما كانت عليه روما من قوة أو ضعف، وكما عزز الأحباش حضورهم في اليمن بمساعدة الرومان، سنرى أن الحميريين، ومع نهاية القرن الثالث الميلادي، تكون روما منشغلة بأخطار تحيطها، إلى أن تسقط روما بيد القبائل الجرمانية، فتضعف جبهة الأحباش، ليتسنى للحميريين طردهم. وعقب ذلك تصبح مملكة توحيدية تشمل كل اليمن، وتصل حروبها حدود مملكة فارس. ومع صعود بيزنطة الباحثة في عهد جينستاين عن إرث روما، يستعيد الأحباش تواجدهم، لكن في كل اليمن.
مع هذا لا يمكننا التكهن بما جرى في ماضٍ تملأه الفجوات، لكن بعض ما نعرف يفتح لنا أبواب التأويل. كما أن سيرة الحملة، بحسب سترابو، تثير عدة التباسات سواء بتحيزها أو ثغراتها الجلية. وأصبح فشل الحملة ملامًا عليها الأنباط، لخديعة وزيرهم سيلاس أو صالح، كما أن الإمبراطور الروماني أقدم على غزو العرب نتيجة ثقته بتعاونهم له. وذهب سترابو إلى أن جاليوس اكتشف خديعة صالح قبل بداية الرحلة، هل ليخبرنا أن الروماني لم يكن غافلًا عن ذلك. ليقوم ببناء 130، بدلًا من 80 مركبًا في ميناء كيلوباتروس (السويس حاليًا).
لكنه يشير إلى أن خطأه الأول أنه بنى قوارب قصيرة، بينما لم يكن في المتناول حرب بحرية. فالعرب مجرد مساومين وتجار لا يجيدون القتال على الأرض، ليقاتلوا في البحر. أي أن خطأ جاليوس في كونه تصورهم على دراية بالقتال، لكنه لا يخبرنا ما أخطاؤه الأخرى، مع أنه يشير حتمًا إلى ارتكابه بعض الأغلاط، على أنها لا تتعلق بالحرب.
بعد 14 يومًا تصل الحملة إلى لوكا كومة في الحجاز، وهي ميناء تتبع الملك النبطي أبادوس، ربما عباد، هل هي ميناء ينبع؟ ذلك يعني أن الحملة أنهكها الطريق حتى بلغت جنوب الجزيرة العربية.
ثم إن جيشًا يبلغ تعداده 10 آلاف روماني، إضافة إلى 1000 نبطي و500 يهودي، يصعب توفير مياه وطعام كافية لهم طوال تلك الرحلة الطويلة. يقول إن الرحلة أخذت 6 أشهر ذهابًا، لكنه يؤكد أن المرض جعلهم يتوقفون طوال فصلين، ثم تأخذ 50 يومًا عودة. ربما كان هناك تفاوت، لكن بالغ، دون احتساب فترة بقائهم للراحة.
بعد طرق طويلة وشاقة بلغ الرومان مدينة نيجرانا، نجران، التي تسقط دون معركة. بعد 6 أيام وصلوا نهرًا، ربما جدولًا غزيرًا، هناك واجهوا البرابرة، بحسب سترابو، ليقتلوا منهم 10 آلاف، بينما اثنان من الرومان فقط قُتلا. وتلك مبالغة كانت من عادات ذلك العصر الذي لم يتسم بأية دقة
عمل سترابو على الحط من صورة العرب، سواء في الحرب أو الأخلاق، وهو مبدأ أساسي في خطاب الغزاة نحو كل الشعوب التي استعبدوها. وبرأيهم أن العرب استخدموا أسلحتهم بصورة غير دقيقة. إنهم في نظر الرومان غير صالحين للحرب.
يقول سترابو إن الرومان استولوا على مدينتين دون قتال، هما؛ أسكا وإثريولا، ويرجح المؤرخون أنهما نشق، وإيثل، في الجوف. بعد ذلك، يصل الرومان مدينة ماريسابا، وتتبع قبيلة الرامانيتي، الذين يتبعون أليزاروس أو الشرح. لكن هل المقصود هنا الرحبيون؟ رأى المختصون بالتاريخ اليمني القديم، أن الرومان يقصدون هنا مدينة مأرب. لكن سترابو في بداية وصفه للوقائع، سماها ماريابا، ثم ذكرها مارسيابا، مع أنه يشير إليها في بداية وصفه للحملة باسم ماريابا، كما أنه في فصل آخر يتحدث عن تشابه أسماء القبائل العربية، وربما قصد مدنها. ثم إنه أشار إلى قوة تحصينها، بحيث حاصرها الرومان 6 أيام، ولنقص المياه والإمدادات، انسحب الرومان. لكن هل كان يقصد أنها مدينة صنعاء أو صنعو، التي كانت شديدة التحصين؟ لا يمكننا التكهن، خصوصًا وأن مركز وجود الملك الشرح يحصب كان وقتها في صنعاء. ثم إنه أشار إلى أن المدينة التي تنتج العطور كانت على بعد يومين، بعد أن علم الرومان من الأسرى العرب. هذا يعني أنهم حملوا معهم بعض الأسرى العرب
يتضح أن سترابو حرص دائمًا أن يهون من خسائر الرومان خلال المعارك، إذ قال إنهم فقط 7، بينما البقية، ويبدو أنهم كثيرون، ماتوا بسبب المرض أو الجوع أو الإجهاد أو مشقة الطرق، وكذلك من مات غرقًا. والأرجح أن معظمهم ماتوا لتلك الأسباب، مع هذا، يبدو أن سترابو احتاط في روايته بأن يحافظ على هالة الجيش الروماني المرهوب في ذلك العهد.
على أنه لم يخبرنا كم كانت خسارة الجيش الروماني، فالحملة، بحسب الرواية، بلغت 10 آلاف من الرومان، ومن حلفائهم 500 يهودي و1500 من الأنباط. وتلك ربما مبالغة أخرى، إذ لا يمكن توفير مياه ومؤونة كافية لذلك العدد، في تلك الأراضي القاحلة.
إنها قصة مثيرة بحاجة لإعادة تفسير ما هو متاح من حوادث في النقوش اليمنية. فما فشل الرومان في تحقيقه عسكريًا، نجحوا في تحقيقه على فترات متباعدة، بالصراع، وعرفوا في وقت مبكر أن أقوى فكرة للسيطرة على اليمن تلك القادمة من البحر، أو أن غزو آسيا من إفريقيا يأتي من إثيوبيا، عبر اجتياز البحر، ذلك ما استند إليه الرومان من أسطورة تنتسب لملك فرعوني