لقد فهمت كل شيء بالتقريب عندما التقيت الأميرة الإيطالية فيتوريا دي ألياتا، التي دُفعت لاعتزال الصحافة منذ حرب الخليج الثانية.
ظلت هذه الكاتبة التي تتقن قرابة عشر لغات، بينها العربية، تؤسس لـ”جسر تفاهم” ممدود بين الغرب والشرق، بحكم أنها من جزيرة صقلية، التي عرفت المسلمين والنورمان الأوروبيين، أولئك الذين تعايشوا مع بعض منذ حادثة التسليم الشهيرة في 1131، ولا تزال تلك الحادثة مخلدة بلوحة فنية بحائط داخلي تحت قبة البرلمان الجهوي لصقلية، على مقربة من كنيسة لا شابال بلاتينا، التي تضم للمصادفة نقوشاً وزخارف إسلامية أنشأها حرفيون مسلمون، بطلب من النصارى النورمان في ذروة الحروب الصليبية، وفي غيابات القرون الوسطى.
لعل ذاك ما دفعها للتأسيس لاستشراق إيجابي
كتبت فيتوريا، سليلة عائلة نابوليتانية عريقة، كتباً عن الحريم والعمارة الإسلامية، وحققت مبيعات خيالية، ثم إنها دوّنت الشرق بقلم نابض بالحب والتعارف رغم الفوارق والاختلاف، ورغم الفجوة الهائلة التي صنعها مُنظرو الغرب بين المركز والأطراف؛ حيث هم المركز والباقي أطراف.
كانت تعي أنها تسلك طريقاً شاقة، غالباً ما تطحن فيها حصادة السياسة حقول الثقافة، لتخلف المقبرة، وقد تأكدت تماماً أنه مضى ذلك الزمن الذي كان فيه النورمان حكام صقلية يديرون الجزيرة ، فأبقوا المسلمين من عرب وبربر في دواليب الحكم، حتى إنه لما ضرب زلزال مدينة باليرمو وتضعضع القصر، خرّ أحد مستشاريه ساجداً داعياً الله السلامة، ثم ارتد الساجد واقفاً لما باغته الملك في سجوده، فطلب منه الملك إكمال طقسه ذاك: “لا تتوقف، أكمل، ادعُ ربك بأن ينجينا جميعاً”.
لربما كانت تنام على هذا الحلم قبل أن تصحو ذات عام على واقع مغاير، عندما قامت بترجمة كتاب “حضارة المتوسط”، وهو تأليف اعتمد على مخطوطات عبرانية، دوّنها اليهود أيام الفاطميين، وخُبئت في معبد بن عزرا بالقاهرة، قبل قرون، تحت مسمى وثائق الجنيزا، لتظهر بعد تهدم حائط وتخرج للعلن، وليلتقطها أستاذ جامعي أمريكي يهودي يدعى شلومو قوتاين، ناسجاً منها مؤلفاً عظيماً، هدم كل ما صنعه المخيال الغربي عن الشرق العنيف والمتخلف.
وفقاً لتلك المعثورات، فقد عاش اليهود في حرية تامة أيام الفاطميين، ومارسوا حياتهم، وهذا ما لا تريده دور النشر التي رفضت إصدار ترجمة مدفوعة الثمن من الأميرة ألياتا.
لا أدرى لماذا توقفت فجأة عن الحديث حينما كنا نتجاذب أطراف الحديث في قصرها العائلي بباغيريا، لحظتها كانت حوامة تعبر فوق القصر، ففي هذا العالم صار كل شيء متوقعاً، فقبل أيام من لقائها وبينما كنت عائداً رفقة “سينو كاراباكابا”، مدير مهرجان تشاكا الدولي، من مطعم جبلي إلى المدينة، أوقفنا حاجز لشرطة الكارابانيري في نقطة متوارية لا يتوقعها أحد، فطلبوا منه وثائقه، وقدمت جواز سفري، وقد سمعت ذلك الضابط يرسل بياناتي عبر جهاز الإرسال، صاح سينو متعجباً:
“هذه أول مرة يتم توقيفي في حاجز مراقبة منذ ثلاثين سنة”، فأجبته ضاحكاً: “لو لم أكن معك ما أوقفك أحد. من وظيفتهم التأكد من هوية الأشخاص الغرباء، أما إذا كان الأمر متعلقاً بصحفي يتجول في أرياف صقلية، فالأمر مثار ريبة في هذا العالم المليء بالهواجس والصراعات والإرهاب والحروب”.
Sunna Files Free Newsletter - اشترك في جريدتنا المجانية
Stay updated with our latest reports, news, designs, and more by subscribing to our newsletter! Delivered straight to your inbox twice a month, our newsletter keeps you in the loop with the most important updates from our website
والأميرة فيتوريا قلم رصين غزير ودقيق، ينهل من رصيد متراكم من التجارب الشخصية والمهنية التي قضتها في دول الشرق المتوسط، ولم تكن تعتقد البتة أنها ستصبح في لائحة سوداء، إذ إن كل مقالاتها المرسلة للنشر بجريدة “لا ريبوبليكا” التي يديرها صديقها الصحفي الكبير ألدو مونتانيلي لن تعرف طريق النشر، حتى إذا ما اجتمعا معاً، تجرأ في أن يخبرها متحسراً:
– فيتوريا إنك في لائحة الممنوعين من النشر.
– لماذا؟
– جاء الأمر بمكالمة من وزير الخارجية وبطلب من حلف الناتو؟
– لماذا؟
فرقع ألدو حبة الرمان على الطاولة:
– يقولون إن كتاباتك تجعل الآخرين محبوبين.
مالك بن نبي: التشويه عبر مرآتي الكف والحرمان
في خمسينيات وستينيات القرن الماضي حاول المهندس والمفكر الجزائري مالك بن نبي طرح فكرة بناء عالم الآخرين، وقد كاد يتبلور في مؤتمر باندونغ عبر رباط الفكرة الأفروآسيوية، الممتد من مراكش إلى جاكرتا، مقترحاً نموذج كومنولث إسلامي متفتح على آسيا في إطار موسع لحضارة الشرق، شبيه بالكومنولث البريطاني، حتى لا يكون هذا العالم “لقيطاً” في محفل الأمم، التي لا تتورع عن تطبيق نظرية الكلب العقور، أو نظريات مرآة “الكف” ومرآة “الحرمان”، وهي كل تلك الطرق الخبيثة والماكرة التي تكف عنك الإشعاع وتحرمك من الإيجابية، وتسعى للتشويه مركزة على مساوئك مضخمة إياها،
وأحياناً يطبقون نظريات “السبين دوكتور”، التي طبقتها مؤسسة أمريكية مساعدة للجيش الأمريكي، بهدف التأثير في الأحداث، من خلال التدوير الذكي وغير المروّع للخسائر الجانبية لغزو العراق، كأن تتوقع تلك المؤسسة الإعلامية للناطق العسكري حزمة الأسئلة المحرجة وكيفية الخروج من مطباتها الأمنية والسياسية، حتى إذا ما سقطت قذيفة أمريكية في حي سكني ببغداد وأردت العشرات قتلى، وقف ذلك الناطق ليقول في مؤتمره الصحفي: “نعم سمعنا الخبر، ليست لدينا معلومات دقيقة حول الموضوع، نحن ننتظر نتائج التحقيق، هل من سؤال آخر؟”، أو كأن يبادر صحفي مضمن ومقرب باستهلال الندوة بالسؤال المنتظر، حتى يتم الرد عليه بصورة مقتضبة، تفادياً لإعادة طرحه من صحفي مستقل ومشاكس مثل ديفيد هيرست أو الراحل روبرت فيسك أو من على شاكلتهما، فيتحول الجدل واللجج والحجاج إلى موضوع قد يفوق في ضجيجه ما تسعى تلك المؤسسات الوصية على الخطاب المرسل إلى حشره بين دفتي كتاب “قانون الصمت”.
وعى بن نبي، منذ زمن بعيد، أن الأمر متعلق بالصراع الفكري؛ لذا كان مؤلفه تحت عنوان “الصراع الفكري في البلدان المستعمرة”، لون الحروب التي لا لون لها، تشبه مسرح الظلال الذي يملي على العرائس مسارات وحركات واتجاهات يتلقاها المشاهد، ولا يعرف سرها سوى مُحركي الخيوط غير المرئية.
شيرين أبو عاقلة: الجثة المطوّقة لمنع الصدى الدولي
لذا لا تتعجب أن ترى جرائد ومواقع غربية استهلت خبر مقتل شيرين أبو عاقلة بكلمات، مثل “وفاة”، الوفاة برصاصة اخترقت العنق وتحاشت بدقة الخوذة وسترة الصحفية، لكن من سوء الحظ أنها كانت جثة غير استثنائية، فهي صحفية بارعة ومعروفة وتعمل بقناة الجزيرة، إحدى أكبر القنوات تأثيراً، في خضم حرب مصغرة تدور رحاها خلسة عن الجميع؛ كي لا تذكر بالصورة المشهدية الكاملة، صورة شعب يعيش تحت سلطة احتلال، وما سيفرضه من متغيرات على سياسة إحلال السلام وعربة التطبيع، التي قد تتعثر عجلاتها المتزلجة تحت شلالات الدماء.
وأما التصريحات الغربية فقد اصطبغ لونها بلون البياض، مثل: “نشعر بحزن عميق” أو “نطالب بإطلاق تحقيق عميق وفوري”، تلك اللغة القريبة من الشاعرية والإنسانية شبيهة “بالأكل مع الذئب، والنباح مع الكلب، والبكاء مع الراعي”!