الحمدُ لله ربِّ العالمين والصلاةُ والسلامُ على سيّدنا محمّدٍ الصادقِ الوعدِ الأمينِ وعلى إخوانِهِ النبيّينَ والمرسلينَ ورضيَ اللهُ عن أمهاتِ المؤمنينَ وألِ البيتِ الطاهرينَ وعنِ الخلفاءِ الراشدينَ أبي بكرٍ وعمرَ وعثمانَ وعليٍّ وعن الأئمةِ المهتدينَ أبي حنيفةَ ومالكٍ والشافعيِّ وأحمدَ وعن الأولياءِ و الصالحينَ.
يقول ابن أبي زيد القيروانيّ رحمه الله في رسالته: (وَأَنَّه فَوْقَ عَرْشِهِ الْمَجِيدِ بِذَاتِهِ).
الشرح:
هذه الجملة مما انتُقِد على المصنف رحمه الله، فإنّ أحدًا من صالِحِ السلف ولا من محققي الخلف لم يثبت عنه أنه أضاف كلمة (بذاته) عند قوله عن الله (استوى على العرش)، ثم الموافق للآية هو لفظ (على العرش) وليس (فوق العرش) مع أنّ الإشكال الذي لا يُتسَامح فيه هو تعبيره بلفظة (بذاته) مع حَمْل كلمة فوق على فوقيّة القهر لا الجهة كما في نحو قوله تعالى (يَخَافُونَ رَبَّهُم مِّن فَوْقِهِمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ (50)) [سورة النحل] والتي قال أبو القاسم القشيريّ وتاج القرّاء الكرمانيّ في معناها (يخافون الله أن ينزّل عليهم عذابًا من فوق رءوسهم)، وقال ابن عطيّة في تفسيرها وقوله (من فوقهم) يَحتمل معنيين:
أحدهما الفوقيّة الّتي يوصف بها الله تعالى فهي فوقيّة القدر والعظمة والقهر والسّلطان.
والآخر أن يتعلّق قوله (من فوقهم) أي بقوله (يَخَافُونَ) يخافون عذابَ ربهم مِن فوقهم، وذلك أنّ عادة عذاب الأمم إنّما أتَى من جهة فوقٍ.
وأمّا الاعتراض على أبي محمد رحمه في قوله عن الله (فَوْقَ عَرْشِهِ الْمَجِيدِ بِذَاتِهِ) فذلك بشأن لفظتين:
الأولى تعبيره بـ (فَوْقَ عَرْشِهِ) وما فيه مِن عُدُولٍ عن لفظ النصّ القرآني (الرَّحْمنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَىٰ (5)) [سورة طه].
قال القاضي عبد الوهّاب في شرحه ما نصُّه (هذه العبارة الآخرة التي هي قوله على العرش [استوى] أحبُّ إلَيَّ من الأولى التي هي قوله (وأنه فوق عرشه المجيد بذاته) لأنّ قوله (على عرشه) هو الذي ورد به النصّ ولم يرد النصّ بذِكر (فوق (1)) وإن كان المعنى واحدًا، وكان المراد بذِكر الفوق في هذا الموضع أنه بمعنى (علَى) إلَّا أنَّ ما طابَق النصَّ أولَى بأن يُستَعمل). اهـ
وقال الشيخ أبو الحسن عليّ بن محمد المنوفي الشاذليّ في كفاية الطالب الربّاني ما نصُّه (وأحسن ما قيل في دفع الإشكال إن الكلام يتضح ببيان معنى الفوقية والعرش والمجيد والذات، فالفوقية عبارة عن كون الشىء أعلى من غيره وهي حقيقة في الأجرام كقولنا زيد فوق السطح مجاز في المعاني كقولنا السيد فوق عبده، وفوقية الله تعالى على عرشه فوقية معنوية بمعنى الشرف وهي بمعنى الحكم والملك، فترجع إلى معنى القهر والعرش اسم لكل ما علا، والمراد به هنا مخلوق عظيم) إلى أن قال (المعنى أن هذه الفوقية المعنوية له تعالى بالذات لا بالغير من كثرة أموال وفخامة أجناد وغير ذلك). اهـ
وقال أبو الحسن العَدَويّ في حاشيته على كفاية الطالب ما نصُّه (وأما قوله (فوق عرشه المجيد) فلم يؤخذ عليه فيه أي لأنه ورد الشرع بإطلاق الفوقية كقوله (يَخَافُونَ رَبَّهُم مِّن فَوْقِهِمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ (50)) [سورة النحل].
وقال الشيخ صالح الآبي الأزهري في كتابه الثمر الداني ما نصّه (فوق عرشه أي فوقية سلطنة وقهر، قال تعالى (وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قَاهِرُونَ (127)) [سورة الأعراف]. اهـ
وقال ابن ناجي التنوخي في شرحه على الرسالة ما نصُّه (فأما لفظ الفوقية فمشترك بين الحس والمعنى والقرينة تخصص المراد منهما)، ثم قال (فإذا تقرر هذا فحَمْلُ الفوق على الحِسّ معلوم الاستحالة بالدليل اليقيني لتقدسه سبحانه عن الجواهر والأجسام، ومعلوم ذلك من سياق كلام المؤلف رحمه الله بحيث لا يوهم أنه أراد الحِسّ، فهو تعالى فوق العرش فوقيَّة معنًى وجلالٍ وعَظَمة). اهـ
Sunna Files Free Newsletter - اشترك في جريدتنا المجانية
Stay updated with our latest reports, news, designs, and more by subscribing to our newsletter! Delivered straight to your inbox twice a month, our newsletter keeps you in the loop with the most important updates from our website
وقال الشيخ أحمد زرُّوق الفاسي في شرحه على الرسالة ما نصُّه (يريد فوقيّةً معنويةً، كما يقال السلطان فوق الوزير والمالك فوق المملوك والشريف فوق الدنيء لا أنها حسية، كالسماء فوق الأرض وما في معناه، لانتفاء الجهة في حَقِّه تعالى لما يلزم عليها من النقص والحدوث)، ثم قال (وكأنّه يقول هو فوق العرش من حيث الجلالة والعظمة لا من حيث الحلولُ والاستقرار). اهـ
وقال الشيخ محمد بن قاسم جسوس في شرحه على الرسالة ما نصُّه (2) (وفوقيته تعالى على عرشه فوقية استيلاء وقهر وغلبة، يقولون السيّد فوق عبده والمالك فوق المملوك والخالق (وَهُوَ اللهُ) فوق المخلوق، فهي راجعة إلى معنى القهر)، ثم قال (وقد عُلِم أنّ الألفاظ الموهمة لا يجوز إطلاقها في حقِّ الله، وأنّ (فوق) لها معنًى صحيحٌ ورد بها السمع، ولم يَرِد السمع بهذا اللفظ في هذا التركيب الموهِم). اهـ
الثانية قوله (بذاته):
قال الشهاب النفراويّ الأزهريّ في الفواكه الدواني ما نصّه (قال في التحقيق: أُخِذ على المصنف في قوله بذاته، وقيل هي دسيسة عليه، فإن صح هذا فلا إشكال في سقوط الاعتراض عنه، ولا عليه، لأنه لم يرد بها سمع). اهـ
وقال ابن ناجي التَنوخي في شرحه على الرسالة ما نصُّه (وهذا مما انتقد على الشيخ رحمه الله في قوله بذاته فإنها زيادة على النص فمن مخطئ ومن معتذر، قال الفاكهاني: وسمعت شيخنا أبا علي البجائي يقول إن هذه لفظة دست على المؤلف رضي الله عنه فإن صح هذا فلا اعتراض على الشيخ). اهـ
وقد قال الحافظ ابن الفخّار القرطبي في رسالته التّبصرة في نقد رسالة ابن أبي زيدٍ القيرواني ما نصّه (وموضع الغلط في هذا الكلام عدوله عن ظاهر نصّ القرآن لأنه تعالى قال (الرَّحْمنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَىٰ (5)) [ سورة طه]. اهـ
وقال الشيخ أبو الحسن الشاذلي في كفاية الطالب الربّاني ما نصُّه (أخذ عليه في قوله (بذاته) لأنّ هذه اللفظة لم يرد بها السمع). اهـ
وقال القلشاني في تحرير المقالة في شرح الرسالة ما نصّه (في عبارته رضي الله عنه في هذا المكان قلق، وقد استشكلت قديمًا وحديثًا). اهـ
وقال الشيخ محمد جسوس في شرحه على الرسالة ما نصُّه (وقوله (بذاته) هو محل للانتقاد على المؤلف، لأنه لفظ يوهم كون الفوقية فوقية استقرار، وقد علِم أنّ الألفاظ الموهمة لا يجوز إطلاقها في حقه الله). اهـ
وقد ترك الشيخ عبد الله بن أحمد الحاج (توفّي 1209هـ) ناظم رسالة ابن أبي زيد لفظة (بذاته) وأبدلها بلفظة (بعِلْمِه) فقال:
وَهُوَ فَوْقَ عَرْشِهِ الْمَجِيدِ *** بِعِلْمِهِ جَلَّ عَنِ التَّقْيِيدِ
حتّى إنّ الذّهبيّ المجسّم، على شذوذه وانحرافه عن عقيدة أهل السنّة والجماعة، اعترض هنا على الشيخ أبي محمّد لاستعماله لفظة (بذاته) في الرسالة، فقال الذهبيّ في كتابه المسمّى العُلُوّ للعَلِيّ الغَفّار ما نصُّه (وَقد نَقَموا عليه (أي أبي محمَّد القيرواني) في قوله (بذاته)، فَلَيْتَهُ تركها). اهـ
وقد اعترض هذا الذّهبيّ أيضًا على ابن الزاغونيّ المجسِّم من الحنابلة لاستعماله تلك اللفظة في قصيدة له، فقال في سير أعلام النبلاء ما نصُّه (قد ذكرنا أن لفظة (بذاته) لا حاجة إليها، وهي تشغب النفوس، وتركها أولى). اهـ
وقد تمسك بعض المشبهّة بظاهر لفظة أبي محمد القيروانيّ في الرسالة لإثباتهم الجهة والحيّز لله تعالى، وقد رَدّ دعواهم الشيخُ الإمامُ عبد الله بن أبي جمرة رضي الله عنه في كتابه بهجة النفوس بشرح مختصره على صحيح البخاريّ فقال ما نصُّه (وأما ما احتَجُّوا به (يعني المجسّمةَ) لمذهبهم الفاسد بقول ابن أبي زيد رحمه الله في العقيدة التي ابتدأ الرسالة بها بقوله (وأنه فوق عرشه المجيد بذاته) فلا حجة لهم فيه أيضًا لأنهم خفضوا المجيد وجعلوه صفة للعرش، وافتروا على الإمام بذلك، والوجه فيه رفع المجيد لأنه قد تم الكلام بقوله فوق عرشه، والمجيد بذاته كلام مستأنف). اهـ
وهذا ما ذهب إليه بعض شُرَّاح الرسالة في تأويل تلك اللفظة مِن الشيخ أبي محمد، وهذا على فرض ثبوتها عنه، وأقول لا حاجة إلى ذلك، لأنّنا نظنّ أنها دسيسة عليه كما سبق فيما نقلنا، وما ذِكر الإمامِ ابن أبي جمرة رضي الله عنه لمقولتهم إلا مبالغة في التشنيع عليهم لإسكاتهم وتبكيتهم.
قال العلامة محمد الشاذلي النيفر التونسي في كتاب مسامرات الظريف ج 1 ص 358 (وقد قرأت عليه الكفاية شرح الرسالة للشيخ سيدي عبد الله بن أبي زيد القيرواني، وكانت قراءته لذلك قراءة تحقيق بعد صلاة الصبح، ولما ولي رئاسة الفتيا تأخر عن الدرس المذكور، وكانت تقاريره ومباحثه تسحر الألباب، وأذكر منها أنه لما كان يقري قول الشيخ (ومملا يجب اعتقاده أنه تعالى فوق عرشه المجيد بذاته) وقد أورد الشارح الاستشكال على ظاهر العبارة بما هو مبسوط في محله من إشعاره بالجرمية والاستقرار بالذات نفسها، فاستظهر رحمة الله أن الجملة مركبة من عقيدتين، وهما كونه تعالى فوق عرشه، وكونه تعالى مجيداً بذاته، بحيث يقرأ المجيد (بالرفع) خبراً ثانياً، لا بالجر على أنه نعت للعرش، قال وهذا الوجه أخذته من قراءة الوقف على ذي العرش في قوله تعالى (ذُو الْعَرْشِ الْمَجِيدُ) وهو وجه يزيدك حسناً كلما زدته نظراً، وهكذا كانت أختامه ودروسه كلها في غاية حسن التقرير والتحرير، وأدعيته لطيفة الإنشاء، يبدع في تحريرها كيف شاء). انتهى
(1) أي في الكلام على العرش، وإلا فقد جاء في القرآن (يَخَافُونَ رَبَّهُم مِّن فَوْقِهِمْ) [سورة النحل] معناه يخافون عذابه أن يأتيهم من فوقهم.
(2) طبع في ثلاث مجلدات بتحقيق الباحثة إحسان النقوطي، منشورات وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية في المملكة المغربية 1429 هـ – 2008 م.