بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين وصلى الله على سيدنا محمد وعلى أهل بيته الطيبين وصحبه الطاهرين وسلم، وبعد،
ليسَ مَعنى القضاءِ والقدَرِ الإجبارُ والقهرُ، وإنما المعنى إظهارُ ما عَلِمَ اللهُ تعالى أنه لا بدَّ كائنٌ، فالقدَرُ خيرُه وشرّه وحُلوُه ومرّه مِن الله لا خالقَ إلا هوَ سبحانه، لا يُسأل عمّا يفعلُ وهُم يُسألون.
فقد رغّب الله تعالى عباده بالدعاء وجعله بابًا من أبواب الفرج ولا سيما في أيام الشدة التي يعانيها المسلم، وقد كان من سيرة رسول الله صلى الله عليه وسلم اللجوء إلى ربّه في شؤونه كلها وبخاصّة حين الشدائد بالدعاء والرّجاء ليستنّ به المسلمون من بعده وهو الذي أرسله الله ليبيّن للناس ما نزّل إليهم من ربّهم كما هو في كتاب الله تعالى.
وفي سنن الترمذي (279هـ) عن أنس رضي الله عنه مرفوعًا (الدعاء مخّ العبادة)، وقال الله تعالى [وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ] (غافر60)، قال القرطبي (ت671هـ) في تفسيره :
يفسر الآية حديث الترمذي وأبي داود عن النعمان بن بشير رضي الله عنه (الدعاء هو العبادة)، فالمعنى وحّدوني واعبدوني أتقبل عبادتكم وأغفر لكم، وهو قول أكثر المفسرين، وقيل هو الذكر والدعاء والسؤال وأن المعنى أستجب لكم إن شئتُ كما في الأنعام [بَلْ إِيَّاهُ تَدْعُونَ فَيَكْشِفُ مَا تَدْعُونَ إِلَيْهِ إِنْ شَاءَ] (الأنعام41)، فهو من باب المطلق والمقيّد، وهو لا يقضي الاستجابة مطلقًا وإنما المعنى أنه يجيب دعاء الداعين في الجملة، وذلك بشروط منها ما ذكر في حديث الأشعث الأغبر يرفع يديه وفي آخره (وأنى يُستجاب لذلك) كما في مسلم وغيره. اهـ
وقال الإمام الخطابي (388هـ) في شأن الدعاء إن الآية من العام المخصوص، وإنه قيل إن معنى الاستجابة أن الداعي يعوّض من دعائه عوضًا ما، فربما كان ذلك إسعافًا بطلبته التي دعا لها وذلك إذا وافق القضاء، فإن لم يساعده القضاء فإنه يُعطى سكينة في نفسه وانشراحًا في صدره وصبرًا يسهُل معه احتمال ثقل الواردات عليه، وعلى كل حال فلا يعدم فائدة دعائه وهو نوع من الاستجابة. اهـ
يدلّ على ذلك حديث مسلم وغيره عن ثوبان رضي الله عنه مرفوعًا قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (إن الله زوى لي الأرض فرأيت مشارقها ومغاربها وإن أمتي سيبلغ ملكها ما زوى لي منها، وأعطيت الكنـزين الأبيض والأحمر، وإني سألت ربي لأمتي أن لا يهلكها بسَـنة عامة وأن لا يسلط عدوًا من سوى أنفسهم فيستبيح بيضتهم، وإن ربي قال يا محمد إني إذا قضيت قضاء فإنه لا يُردّ، وإني أعطيتك لأمتك أن لا أهلكهم بسَـنة عامة وأن لا أسلط عليهم عدوًا من سوى أنفسهم فيستبيح بيضتهم ولو اجتمع عليهم مَن بأقطارها حتى يكون يهلك بعضهم بعضًا)، وفي رواية لمسلم (وسألته أن لا يجعل بأسهم بينهم فمنعنيها)، وفي كتاب الله تعالى [وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ] (الشُّورى 30)، وفيه كذلك [ذَلِكَ بِأَنَّ اللهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّرًا نِعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَأَنَّ اللهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ] (الأنفال53)، وهو ما نراه اليوم ولا حول ولا قوة إلا بالله تعالى.
فدلّ ما تقدّم على أن الله تعالى لا يغيّر شيئًا مما شاء في الأزل حصوله سواء بدعاء سيدنا محمد فمَن دونه صلى الله عليه وسلم أو بالصدقة، ويدل على هذا الأمر حديث البزار والبيهقي (لا ينفع حذر من قدر).
Sunna Files Free Newsletter - اشترك في جريدتنا المجانية
Stay updated with our latest reports, news, designs, and more by subscribing to our newsletter! Delivered straight to your inbox twice a month, our newsletter keeps you in the loop with the most important updates from our website
قال البيهقي:
معناه في ما كتب الله من القضاء المحتوم (يعني القضاء المبـرم) كما لا ينفع الدعاء والدواء في ردّ الموت إن جاء الأجل المحتوم، ثم إن النفع يكون في الحذر والدعاء والدواء إذا كان القلم قد جرى بإلحاق النفع بأحد هؤلاء، والعبد ميسّر لما كتِب له أو عليه من جميع ذلك لا يستطيع أن يعمل غيره.
وعلى هذا يُحمل حديث ابن ماجه (لا يردّ القدر إلا الدعاء) على ما في إسناده من لين، وهو أن الله تعالى قد كتب ما يُصيب عبدًا من عباده من البلاء والحرمان والموت وغير ذلك، وأنه إن دعا الله تعالى وأطاعه في صلة الرحم وغيرها لم يُصبه ذلك البلاء ورزقه كثيراً وعمّره طويلاً.
ويدل عليه كذلك حديث عمر في الطاعون عند البخاري حين قيل له: أفرارًا من قدر الله؟ فقال رضي الله عنه: نعم، نـفِـرّ من قدر الله إلى قدر الله. أرأيتَ لو كان لك إبل فهبطت واديًا له عدوَتان إحداهما خصبة والأخرى جدبة، أليس إن رعيتَ الخصبة رعيتَها بقدر الله، وإن رعيتَ الجدبةَ رعيتَها بقدر الله؟ اهـ
وفي صحيح مسلم بن الحجاج النيسابوري (261هـ) عن يحيى بن يَـعمر عن أبي الأسود الدؤلي قال:
قال لي عمران بن الحصين: أرأيتَ ما يعمل الناس اليوم ويكدحون فيه، أشيء قضيَ عليهم ومضى عليهم من قدر ما سبق، أو فيما يستقبلون به مما أتاهم به نبيّهم وثبتت الحجةُ عليهم، فقلتُ بل شيء قضيَ عليهم ومضى عليهم، قال فقال أفلا يكون ظلمًا، قال ففزعتُ من ذلك فزعًا شديدًا وقلتُ كلّ شيء خلق الله ومِلك يده، فلا يُـسأل عما يَفعل وهم يُسألون، فقال لي يرحمك الله، إني لم أرد بما سألتك إلا لأحزرَ عقلك، إن رجلين من مزينة أتيا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالا: يا رسول الله أرأيتَ ما يعملُ الناسُ اليومَ ويكدحون فيه، أشيءٌ قضيَ عليهم ومضى فيهم من قدَر قد سبق، أو فيما يستقبلون به مما أتاهم به نبيّهم وثبتت الحجةُ عليهم، فقال: لا، بل شيءٌ قضيَ عليهم ومضى فيهم، وتصديقُ ذلك في كتاب الله عز وجل [فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا] (الشمس8). اهـ
وهذا ما يدل عليه النقل والعقل إذ إن العقل يشهد أن للإنسان إرادةً لا يستطيع أن يفعل بها كل ما يريد إذ إنها تحت مشيئة الله تعالى، وهو ما يدل عليه قول الله تعالى [وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللهُ رَبُّ العَالَمِينَ] (التَّكوير:29)، والعقل يشهد كذلك أن للإنسان أفعالاً يفعلها باختياره تغاير ما يفعله بغير اختياره كحركة النائم والمرتعش، فما يفعله باختياره هو محل التكليف، وكل ذلك على أي حال لا يخرج عن علم الله الأزلي الذي لا يتغيّر، [أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الخَبِيرُ] (الملك:14) ولا عن إرادته الأزلية، [فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ] (البروج:16)، فالكل بإرادته تعالى وليس الكل بأمره عز وجلّ، ويوضح ذلك قول الله تعالى [وَمَنْ يُضْلِلِ اللهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ وَمَنْ يَهْدِ اللهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُضِلٍّ] (الزُّمر:36 37).
فمَن اهتدى فبفضل مِن الله عليه، ومن أضله الله فلسابق علمه تعالى بما يكون منه، لا تبديل لكلماته تبارك وتعالى.
فالقدَر ليس معناه الإجبار والقهر، وإنما معناه إظهار ما سبق في علم الله تعالى من استعداد العبد، لا تبديل لحكمه ولا معقّب لأمره، فالعبد ينساق باختياره إلى ما علم الله أنه يكون منه، ولا يجوز اعتقاد أن الله تعالى يُعصى قهرًا، بل الله تعالى لا يجري في ملكه إلا ما يريد، من هداه فبفضله ومن أضله فبعدله، لا إله غيره، ولا خالق سواه.
وفي حديث البخاري عن ابن مسعود وغيره مرفوعًا (أن الولد يُكتب وهو في بطن أمه ذكرًا أو أنثى وأجله ورزقه وشقيّ هو أو سعيد).
والقدر كما قال سيدنا علي رضي الله عنه:
إنما هو أمر بين أمرين لا هو جبر ولا هو تفويض (رواه الحافظ ابن عساكر، 571 هـ)، أي أن الإنسان ليس كالريشة المعلقة التي يحركها الهواء يمنة ويسرة من غير اختيار ولا إرادة كما زعمت الجبرية، وليس مستقلاً عن مشيئة الله تعالى بحيث إنه يفعل كل ما يريده كما زعمت المعتزلة الذين قال فيهم رسول الله صلى الله عليه وسلم في ما رواه أبو داود في سننه (مجوس أمتي الذين يقولون لا قدَر). اهـ
وفي هذا تشبيه بليغ لقول المجوس بمدبرين، النور للخير والظلمة للشر، فأشبهت القدرية المجوس في الشرك بالله تعالى، وهو ما فهمه الإمام مالك ابن أنس رضي الله عنه حين سئل عن تزويج القدري فقرأ قول الله تعالى [وَلَعَبْدٌ مُؤْمِنٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكٍ] (البقرة:221)، رواه البيهقي، ومثل ذلك قال الإمام الشافعي في حفص الفرد صريحًا لقول حفص بعد أن كفره الشافعي: أراد الشافعي ضرب عنقي، كما أفاده السيوطي (911هـ) في كتاب تدريب الراوي شرح تقريب النواوي، وهو قول الإمام أحمد بن حنبل (241هـ) في أبي شعيب المعتزلي وقد جاءه وهو في السجن رضي الله عنه يناظره كما في كتاب محنة أحمد للمقدسي (600هـ) وهو قول من لا يحصى من السلف الصالح والأئمة المجتهدين كما ذكر الحافظ اللالكائي (418هـ) في شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة.
وفي فتح الباري شرح الحافظ ابن حجر العسقلاني (852هـ) لصحيح الإمام أبي عبد الله محمد بن إسماعيل البخاري (256هـ) في باب من بسِـط له في الرزق لصلة الرحم من كتاب الأدب شارحًا مسألة القضاء المبرم والقضاء المعلق ما نصه عند حديث أبي هريرة مرفوعًا (مَن سرّه أن يبسَـط له في رزقه وأن يُـنسَـأ له في أثره فليصِل رحمِـَه) ما نصه:
قوله وينسأ بضم أوله وسكون النون بعدها مهملة ثم همزة أي يؤخر في أجله وسمي الأجل أثراً لأنه يتبع العمر قال زهير: والمرء ما عاش ممدود له أمل لا ينقضي العمر حتى ينتهي الأثر وأصله من أثر مشيه في الأرض فإن من مات لا يبقى له حركة فلا يبقى لقدمه في الأرض أثر، قال ابن التين ظاهر الحديث يعارض قوله تعالى [فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ] (الأعراف:34)، والجمع بينهما من وجهين أحدهما أن هذه الزيادة كناية عن البركة في العمر بسبب التوفيق إلى الطاعة وعمارة وقته بما ينفعه في الآخرة وصيانته عن تضييعه ذلك. ومثل هذا ما جاء أن النبي صلى الله عليه وسلم تقاصر أعمار أمته بالنسبة لأعمار من مضى من الأمم فأعطاه الله ليلة القدر، وحاصله أن صلة الرحم تكون سبباً للتوفيق للطاعة والصيانة عن المعصية فيبقى بعده الذكر الجميل فكأنه لم يمت، ومن جملة ما يحصل له من التوفيق العلم الذي ينتفع به من بعده والصدقة الجارية عليه والخلف الصالح وسيأتي مزيد لذلك في كتاب القدر إن شاء الله تعالى، ثانيهما أن الزيادة على حقيقتها وذلك بالنسبة إلى علم الملك الموكل بالعمر وأما الأول الذي دلت عليه الآية فبالنسبة إلى علم الله تعالى كأن يقال للملك مثلاً إن عمر فلان مائة مثلاً إن وصل رحمه وستون إن قطعها، وقد سبق في علم الله أنه يصل أو يقطع، فالذي في علم الله لا يتقدّم ولا يتأخر، والذي في علم الملك هو الذي يمكن فيه الزيادة والنقص، واليه الإشارة بقوله تعالى [يَمْحُوا اللهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الكِتَابِ] (الرعد:39)، فالمحو والإثبات بالنسبة لما في علم الملك، وما في أم الكتاب هو الذي في علم الله تعالى فلا محو فيه البتة، ويقال له القضاء المبرم، ويقال للأول القضاء المعلق. اهـ من فتح الباري في شرح البخاري للحافظ ابن حجر العسقلاني.
وعلى ما تقدّم يدل قول الله تعالى: [وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ] (الفاتحة:5)، وقوله تعالى [اهْدِنَا الصِّرَاطَ المُسْتَقِيمَ] (الفاتحة:6)، وقوله عز وجل [رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا] (آل عمران:8)، فهذا كله يدل على أن الهداية والزيغ بيد الله لا بيد العبد، فلو كان الإنسان مستقلاً بإرادته عن إرادة الله تعالى فلأيّ غرض يستعين بالله في صلاته كل يوم سبع عشرة مرة، يقرأ الفاتحة في كل ركعة من الصلوات المفروضات سوى السنن والنوافل.
هذا وقد ثبت أن الإيمان بالقدر بمعنى ما قدّر الله تعالى على العباد من خير وشرّ وحلو ومرّ أنه بخلق الله تعالى وإرادته وعلمه لا يتغيّر من ذلك شيء، من أصول الإسلام وهو في كتاب الله تعالى [وَمَنْ يُضْلِلِ اللهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ وَمَنْ يَهْدِ اللهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُضِلٍّ] (الزُّمر:36 37).
وفي حديث البخاري ومسلم مرفوعًا (اعملوا فكلٌّ ميسّـرٌ لما خلق له)، وفيه كذلك عن ابن مسعود رضي الله عنه مرفوعًا (فوالذي لا إله غيره إن أحدَكم ليعمل بعمل أهل الجنة حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع فيعمل بعمل أهل النار فيدخلها، وإن أحدَكم ليعمل بعمل أهل النار حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع فيعمل بعمل أهل الجنة فيدخلها)، وفي حديث ابن عباس المشهور (رفعت الأقلام وجفت الصحف) رواه الترمذي.
وفي كتاب الله تعالى خطابًا لرسول الله صلى الله عليه وسلم وقد أحبّ لعمه أبي طالب الهدى [إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ] (القصص:56) أي الله تعالى، وليس العبد، إذ إن مشيئة العبد تابعة لمشيئة الله وليست مشيئة الله تابعة لمشيئة العبد، يوضح ذلك ما في كتاب الله تعالى [وَلَوْ أَنَّنَا نَزَّلْنَا إِلَيْهِمُ المَلَائِكَةَ وَكَلَّمَهُمُ المَوْتَى وَحَشَرْنَا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلًا مَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللهُ] (الأنعام:111)، وكذلك قوله تعالى حكاية عن موسى [إِنْ هِيَ إِلَّا فِتْنَتُكَ تُضِلُّ بِهَا مَنْ تَشَاءُ وَتَهْدِي مَنْ تَشَاءُ] (الأعراف:155)، وما في حديث جبريل الطويل الذي في آخره (هذا جبريل أتاكم يعلمكم دينكم) وقد سأله عليه السلام عن الإيمان (وأن تؤمن بالقدر خيره وشره)، وفي رواية (وحلوه ومرّه)، وفي رواية (وأن تؤمن بالقدر كله) ذكرها جميعًا بالإسناد المتصل الإمام البيهقي في كتاب القدر.
فما كان وما يكون وما سـيكون إنما هو بخلق الله تعالى وبعلمه الذي لا يتغيّر وبإرادته التي لا يغلبها مغالب إذ هو تعالى القاهر فوق عباده والغالب على أمره والحافظ للعرش وما دونه، جميع الخلائق مقهورون بقدرته، لا تتحرّك ذرّة إلا بإذنه، ليس معه مدبّر في الخلق ولا شريك في الملك، [لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ] (الأنبياء:23) سبحانه، وهو المنـزّه عن الظلم، [وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ] (فصِّلت:46)، إذ الظلم وضع الشيء في غير موضعه كما في القاموس للفيروزآبادي (817هـ)، والظلم فعل الجاهل بعواقب الأمور والله منـزّه عن ذلك إذ هو المتصرّف في ملكه ولا تخفى عليه خافية ولا ينازعه في ذلك منازع لأن فعله تعالى لا يخلو من حكمة إذ لم يخلق الله تعالى شيئًا عبثًا.
ثم إن الله تعالى بيّـن سبب إرسال الرسل بقوله عز وجل [رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ] (النساء:165)، وذلك منه تعالى فضل وليس ذلك بواجب عليه تعالى، [قُلْ إِنَّ الفَضْلَ بِيَدِ اللهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ] (آل عمران:73) [وَاللهُ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ] (البقرة:105)، وذلك لقيام الدليل على وجوده عز وجل بما هو مشاهد من مخلوقاته على ما فيها من تباين ما يدلّ على كمال قدرته تبارك وتعالى، [إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآَيَاتٍ لِأُولِي الأَلْبَابِ] (آل عمران:190).
على أن كثيرًا من الناس يسأل بعضهم بعضًا هل الإنسان مخير أو مسيّر؟ وهو سؤال الجواب عنه سهل.
إذ يقال إن الإنسان مختار تحت مشيئة الله تعالى، فللعبد الكسب الذي لا خلق فيه، [لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ] (البقرة:286)، ولله الخلق الذي لا يشاركه فيه أحد إذ هو الله الخالق لكل شيء كما نص عليه القرآن [قُلِ اللهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ] (الرعد:16)، فمن خاصم في ذلك من المعتزلة عن الحق كان نصيبه ما في صحيح مسلم أن مشركي قريش جاؤوا يخاصمون رسول الله صلى الله عليه وسلم في القدر فأنزل الله تعالى [يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النَّارِ عَلَى وُجُوهِهِمْ ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ] (القمر:48 49) وقد كان من أول من ألف في الرد عليهم سيدنا عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه (101هـ) في رسالة طويلة سردها الحافظ أبو نعيم الأصبهاني (430هـ) في حلية الأولياء، وفيها قال رضي الله عنه (لو أرادَ الله أن لا يُعصى ما خلق إبليس).
وفي شأن الدعاء للإمام أبي سليمان الخطابي (388هـ):
فإن قال قائل فإذا كان الأمر على ما ذكرتموه من أن الدعاء لا يدفع ضررًا ولا يجلب نفعًا لم يكن جرى به القضاء، فما فائدته وما معنى الاشتغال به؟
فالجواب أن هذا من جملة الباب الذي وقع التعبّد فيه بظاهر من العلم يجري مجرى الأمارة المبشّرة أو المنذِرة دون العلة الموجِبة، وذلك والله أعلم، لِتكون المعاملة فيه على معنى الترجّي والتعلق بالطمع الباعثَين على الطلب دون اليقين الذي يقع معه طمأنينة النفس، فيُفضي بصاحبه إلى ترك العمل والإخلاد إلى دَعة العُطلة، فإن العمل الدائر بين الظفر بالمطلوب وبين مخافة فوته يحرّك على السعي له والدأب فيه، وأما اليقين فيسكّن النفس ويريحها، كما اليأس يُبلّدها ويُطفئها. وقد قضى الله سبحانه أن يكون العبدُ ممتحَنًا ومعلّقًا بين الرجاء والخوف اللذين هما مدرَجتا العبودية ليُستخرج منه بذلك الوظائف المضروبة عليه التي هي سِمة كلّ عبد ونصبة كل مربوب مدبَّر، وعلى هذا بُنيَ الامر في معاني ما نعتقده في مبادئ الأمور التي هي الأقدار والأقضية مع التزامنا الأوامر التي تعبّدنا اللهُ تعالى بها ووعدنا عليها في المعاد الثوابَ والعقابَ. ولما عرَض هذا الإشكال سألت الصحابة رسولَ الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: أرأيتَ أعمالنا هذه، أشيء قد فُرغ منه أم أمرٌ نستأنِفه، فقال صلى الله عليه وسلم: بل هو أمر قد فُرِغ منه، فقالوا ففيمَ العمل إذًا؟، قال صلى الله عليه وسلم: اعملوا فكلٌّ ميسَّرٌ لما خلِق له، قالوا: فنعمل إذًا.
ألا تراه صلى الله عليه وسلم كيف علّقهم بين الأمرين، فرَهَنهم بسابق القدَر المفروغ منه، ثم ألزمهُم العملَ الذي هو مَدرَجة التعبّد لتكون تلك الأفعال أمائر مبشّرة ومنذرة فلم يَبطل الثوابُ الذي هو كالفرع بالعلة التي هي له كالأصل، ولم يَترك أحد الأمرين للآخر. وأخبر مع ذلك أن فائدة العمل هو القدر المفروغ منه، وهو معنى قوله صلى الله عليه وسلم (فكلّ ميسّـرٌ لما خلق له)، يريد أنه ميسّـر في أيام حياته إلى العمل الذي سبق له القدر به قبل وقت وجوده وكونه، إلا أن الواجب أن تعلم فرق ما بين الميسّر والمسخّر، فتفهّم ذلك.
وكذلك القول في باب الرزق وفي التسبب إليه بالكسب وهو أمر مفروغ منه في الأصل لا يزيده الطلب ولا يُنقصه الترك، ونظير ذلك أمر العمر والأجل المضروب فيه في قوله عز وجلّ [فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ] (الأعراف:34)، ثم قد جاء في الطب والعلاج ما جاء وقد استعمله عامة أهل الدين من السلف والخلف مع علمهم بأن ما تقدّم من الأقدار والأقضية لا يدفعه العلاج بالعقاقير والأدوية.
فإذا تأملت هذه الأمور علمتَ أن الله سبحانه قد لطف بعباده فعلّل طباعهم البشرية بوضع هذه الأسباب ليأنسوا بها فيخفف عنهم ثقل الامتحان الذي تعبّدهم به وليتصرفوا بذلك بين الرجاء والخوف، وليستخرج منهم وظيفتي الشكر والصبر في طورَي السرّاء والضرّاء والشدة والرّخاء، ومِن وراء ذلك عِلمُ الله تعالى فيهم، ولله عاقبة الأمور وهو العليم الحكيم لا معقب لحكمه ولا رادّ لقضائه لا يُسأل عمّا يَفعلُ وهُم يُسألون. اهـ كلام الخطابي وهو عجيبٌ لمن تأمله فرحمه الله من إمام بَرّ وعالم بحر.