Sunna Files Free Newsletter - اشترك في جريدتنا المجانية
Stay updated with our latest reports, news, designs, and more by subscribing to our newsletter! Delivered straight to your inbox twice a month, our newsletter keeps you in the loop with the most important updates from our website
كَثْرةٌ كَاثِرةٌ من الناس لا تعرف الشيء الكثير عن مالطا، دولةً ومجتمعاً وثقافةً، لكونها بلدا صغيرا على شكل أرخبيل مؤلف من ثلاث جزر في البحر الأبيض المتوسط، يقع جنوب إيطاليا وشمال ليبيا، ومالطا اليوم إحدى أصغر دول العالم ومساحتها تُقدّر بنحو 213 كلم²، وأكثرها كَثافةً بمعنى التراكم السكاني أو الديموغرافي، ولا يتعدّى عدد سكانها نصف المليون نسمة.
تتميز الجزر المالطية بتاريخِها العريق والعتيد، إذ ان مَوقِعَها الاستراتيجي جعلها عرضة لسلسلة من الغزوات المتوالية عبر التاريخ، فقد استوطنها الفينيقيون الآتون من مدينتي صور وصيدا اللبنانيتين (وفق المؤرخين، ومنهم أحمد فارس الشدياق والفرنسي بارثولوميو) ومن بعدهم الرومان والأغالبة المسلمون، والنورمان والأراغون والأسبان وأسرة هابسبورغ والفرنسيون وأخيراً البريطانيون. غير أن الأكثر تأثيرًا بين موجات هذه الفتوحات جميعاً كان الفتح العربي الذي ترك بصمات عميقة لم تزل قائمة إلى اليوم منذ تسعمئة سنة، وخصوصا من خلال اللغة المالطية، التي تشكل العربية بينها نحو السبعين في المئة من بنيتها العامة، وذلك بخلاف معظم الدراسات الفيلولوجية الإعلامية التي تدَّعي العلمية في ذلك.
قصتي مع اللغة
وبالعودة إلى قصتي مع اللغة العربية، فلقد بدأ اهتمامي بلغة الضاد هذه وأنا في المرحلة الثانوية، إذ اكتشفت وباستغراب شديد، أن هذه اللغة التي كانت وما زالت تُعتبر صعبة للغاية من قبل كثيرين من المالطيين، أنها شبيهة تماماً باللغة المالطية التي نتكلمها ونكتبها ونتداول شؤوننا كافة عبرها؛ ما دفعني إلى الخوض في دراسة العربية التي كانت قد فرضتها الحكومة المالطية في المنهج الدراسي المالطي مطلع السبعينيات من القرن الفائت، ولدواعٍ تاريخية وسياسية، الأمر الذي أثار حفيظة أغلب المالطيين.
وقتها كانت العربية في مالطا تنعم بمكانة مرموقة، مثلها مثل اللغة الإنكليزية، إذ كان يتعين على كل طالب سينخرط في مرحلة الدراسة الجامعية، الحصول مسبقاً على الشهادة باللغة العربية التي كان يدرسُها في المرحلة الثانوية، وذلك كمادة علميّة إجباريّة. وكان يتعيّن على الطلبة الذين اختاروا التخصص باللغة المالطية وآدابها، أن تكون اللغة العربية شرطاً أساسياً من شروط مجال تخصصهم هذا. وعلى الرغم من أن هذا الأمر كان يبدو غريباً بعض الشيء، لكن ما يجعله منطقياً تماماً، هو كون اللغة المالطية مشتقة من اللغة العربية، بما في ذلك قواعد الصرف والنحو القائمة. وهنا بدأ شغفي باللغة العربية وتاريخها، الأمر الذي حفزني على التعمق بدراستها والإيغال في عالمها الغنيّ بالمفردات والمعاني والخلاصات الدلاليّة؛ فبدأت أكتشف عندها خبايا واسرار هائلة تكمن في الجذر الواحد للغتين العربية والمالطية.
مثل شائع
ثمة مَثل شعبي عربي متداول في مصر ولبنان وتونس وغيرها من بلدان عربية، ينعت الشخص الذي ينادي بشعار وهدف لا طائل منهما بأنه «يؤَذِّنُ في مالطا»، أي أنه يُجَدِّف في الهواء. ولهذا المَثل خلفية تاريخية مفادها أن مالطا كانت ذات يوم جزيرة مأهولة بالعرب المسلمين، حيث بدأ الفتح الإسلامي لمالطا في عام 827 م. ومع الأغالبة المسلمين في عهد الملك أبو عبد الله محمد بن الأغلب، ثامن ملوك بني الأغلب في عام 870 م، سيطر المسلمون كلياً على الجزر المالطية وصار المسيحيون فيها يدفعون الجزية للسلطة الحاكمة. ويُبيِّن تقرير دُوِّن في عام 1240م من قِبل جيليبيرتو أباتا، بصفته ممثِّلا للملك فردريك الثاني الصقلي وَرَدَ فيه أن 1119 عائلة كانت تقطن الجزيرتين مالطا وهودج، من ضمنها 836 عائلة إسلامية، و250 عائلة مسيحية و33 عائلة يهودية. ومع فتوحات النورمانديين، ظلَّ العنصر العربي ثقافةً ولغةً ودينًا مُهيمناً لمدة 150 سنة، أي لغاية القرن الثالث عشر ميلادي.. ومن بعد هذه المرحلة انتشر الدين المسيحي في عموم الجزر المالطية، مُرْغِمًا معتنقي الديانة الإسلامية على ترك دينهم، خصوصاً إذا أصرّوا على البقاء الدائم في مدنهم وقراهم المالطية. وعليه وبالعودة إلى المَثل السائد «يُؤذِّنُ في مالطا»، فقد صار هذا المَثل المذكور متداولاً في البلدان العربية والمسلمة، بمعنى التعجّب والاندهاش من هذا الذي يُؤذِّن بين السكان المسيحيين في مالطا التي صارت بالكامل مسيحية.
الأسماء كما هي
تجدر الإشارة إلى أن اللغة العربية وآدابها وثقافتها ظلت متداولة شفويا في مالطا المسيحية إلى يومنا هذا.. علاوةً على أسماء الأمكنة والمدن والقرى والعائلات المالطية ذاتها، فكلها إذا ما فكّكناها الآن هي عربية مئة في المئة، باستثناء اسم مدينة «فاليتا»، العاصمة الحالية لمالطا، وبعض أسماء بلدات مالطية أخرى قليلة العدد، خصوصاً حديثة العهد منها، وعليه نُكرِّر بأن كل أسماء المدن والبلدات والقرى المالطية اليوم، هي عربية مئة في المئة.
وكذلك أسماء العائلات المالطية اليوم فمعظمها يعود بأصله إلى عوائل عربية مَحْض.
وكذلك أسماء الشوارع في المدن والبلدات القديمة وحتى القرى، فهي ما زالت على مسمياتها العربية القديمة
وعلى الرغم من أن الفاتحين الذين تلوا العرب في الأرخبيل المالطي حاولوا الحدّ من التأثير العربي فيه، خصوصاً على المستوى الثقافي، وكذلك العلاقة بالمكان المالطي ومسمياته العربية، فانهم لم يتمكّنوا من القضاء على هذا الموروث اللغوي المالطي، والذي حماه أهله بتداوله الشفاهي جيلاً عن جيل منذ قرون طويلة الى يومنا هذا.
دلائل حاسمة
من جانب آخر، وعلى مستوى الدليل الأكثر حسماً لجهة تأكيد عربيّة اللغة المالطيّة، جذراً ومصدراً، نُذكّر بما قاله عالِم العربية وسائر اللغات المركزية القديمة، الألماني كيرتشر (ولد 1601 – توفي 1680).. الذي قال بالحرف الواحد «إن المالطية هي أنقى شكل من أشكال اللغة العربية، ولم تفسدها، لا اللغة الإيطالية ولا أي لغة أخرى خالطتها». وكان كيرتشر قد درس اللغة المالطية عميقاً وأقام في مالطا نحو السنتين.
ويشاطره الرأي هذا، مع بعض التحفّظات غير الجذرية، اللغوي والأديب اللبناني الكبير أحمد فارس الشدياق، حيث يقول في كتابه الشهير «الواسطة في معرفة أحوال مالطة وكشف المُخَبَّأ عن فنون أوروبا»: «إن المالطية هي فرع من الدوحة العربية». وقد نُشر كتابه هذا في القسطنطينية في عام 1835 م. وهو بالمناسبة أول كتاب ألّفه أحمد فارس الشدياق في أدب الرحلات، بعدما كان عمله وسكناه جزيرة مالطا مدة أربعة عشر عاماً، امتدت من عام 1834 إلى عام 1848م، بدعوة من جهات أميركية بروتستانتية اتخذت من الجزيرة المتوسطية منصة للتبشير بالبروتستنتية في المنطقة العربية. ويُعتبر هذا الكتاب سجلاً تاريخياً وسوسيولوجياً وأنثروبولوجياً لا مثيل له لجزيرة مالطا وسكَّانها في منتصف القرن التاسع عشر.. إنه كتاب يشكّل مرآة صادقة لأحوال الديموغرافيا المالطية وقتَها، بعاداتها وتقاليدها ونواميسها وثقافتها ولغتها وحضارتها بعامة.
صمود على مرّ القرون
وعلى مستوى اللغة المالطية التي يتداولها عموم الشعب المالطي اليوم، يؤكد الشدياق بما لا يدع مجالاً للشك بأنها لغة عربيّة على نحو كبير، إذ يقول «المالطية هي لغة عربية بنسبة كبيرة جداً، صمدت على مرّ القرون وتوالي موجات الفاتحين لمالطا، ومخالطتها للغات أخرى، كان آخرها الإيطالية والإنكليزية؛ لكنّ هاتين اللغتين سرعان ما انضمتا إلى غيرهما من لغات سابقة مرّت بالبلاد، ولم تستطع جميعها النيل من اللغة العربية/ المالطية الموروثة جيلاً عن جيل. ويَعتبر بقاء العربيّة في مالطة دليلاً على عظمة هذه اللغة، فيقول الشدياق «إن بقاء اللغة العربيّة في جزيرة مالطة، ولو مُحرّفة مع عدم تقييدها في الكتب، دليل على ما لها من القوة والتمكُّن عند من تصل إليهم من الأجيال».
ويُردف الشدياق متسائلاً «ألا ترى أن مالطة قد تعاقبت عليها دول متعددة وَدّت لو تحمل أهلها على التكلُّم بلغاتها، فلم يتهيّأ لهم، وبقوا محافظين على ما عندهم منها خلفًا بعد خلفٍ. وهؤلاء الإنكليز يزعمون أن لغتهُم ستكون أعمّ اللغات جميعاً، وأشهرها، وما تهيّأ لهم أن يعمّموها عند المالطيين. نعم، الخاصة منهم (أي المالطيين) يتعلّمونها، ولكن ليسوا عليها بمطبوعين، فإن مُحاوراتهم بين أهلهم، إنما هي بالمالطية لا غير، وليس الطبع كالتطبّع ولا الكحل كالتكحّل».
لا جدال إذاً في أن اللغة المالطية هي فعلاً فرع من الدوحة العربية، وعلى المهتمين باللغة العربية في لبنان والعالم العربي، وحتى على مستوى العالم ككل، الاهتمام بالمالطية كسياق لغوي عربي علمي ينبغي حفظه وصَونه، وذلك حتى لا يغيب عن ذاكرة أجياله، وعن ذاكرة المكان المالطي، إذ يكفي أننا خسرنا الحرف العربي مكتوباً بها، ولو لم يحصل هذا التطور، لكان وضع اللغة المالطية على خلاف ما هو عليه الآن.