مرت البشرية بأطوار من التقدم الحضاري والمادي في كل المستويات العلمية والثقافية والتقنية وغيرها، وإذا كان إنسان العصر القديم قد عاش في أسرة ثم قبيلة ثم نشأت المدن بفضل التجمعات البشرية على ضفاف الأنهر القديمة، ثم أُنشئت الدول على شواطئ تلك الأنهار، ثم بزغت حضارات مثل مصر والعراق والصين والشام وغيرها، فإن العلاقات الدولية والإقليمية منذ آلاف السنين، ومنذ تلك التجمعات وحتى يومنا هذا تقوم على أساس مقدار القوة العسكرية والحربية لكل دولة أو أمة من هذه الأمم.
لقد قرأنا في مصادر التاريخ القديم عن انتصار الفراعنة المصريين على الهكسوس المحتلين، وعن استخدامهم تقنيات حربية جديدة أثّرت في سير تلك المعارك وعلى رأسها العجَلات الحربية السريعة، وعرفنا قوة الآشوريين في العراق وسيطرتهم على بلاد الرافدين، فضلاً عن السومريين، ثم الساسانيين الفرس والبيزنطيين الروم الذين تمكنوا من السيطرة على قسم كبير من القارة الأوروبية وشمال إفريقيا وبلاد الشام وتركيا، وإن المتأمل في أسباب هذه الانتصارات سيدرك مدى التطور الذي كان متسارعاً في صناعة أسلحة ذلك العصر؛ الثقيلة منها والخفيفة، فضلاً عن التكتيكات العسكرية والخطط الحربية التي كانت في تطور مستمر.
ونظراً لأن المدن كانت على الدوام تتعرض لتهديد مستمر من قِبل الأعداء الذين كانوا قادرين على مباغتة أبناء تلك المدن؛ فقد اهتُدي الإنسان إلى بناء الأسوار لتحصينها من تقدم العدو وآلاته، وللحدّ من سقوط هذه المدن وامتناعها عنه لأيام أو أشهر وربما سنين عدداً، وفي المقابل كان لهذا التحدي الجديد استجابته العسكرية بتطوير آلات الحصار والدّكّ، ومن هذه السلسلة من التحديات العسكرية ظهرت آلات المنجنيقات كاختراع مثير ومهم في تاريخ البشرية.
فما هي المنجنيق؟ وأين ظهرت؟ وهل استخدمها النبي، صلى الله عليه وسلم، والمسلمون من بعده؟ وكيف بلغت مجانق المسلمين على مدار السنين والقرون؟ ذلك ما سنراه في سطورنا التالية..
النبي صلى الله عليه وسلم يستخدم المنجنيق!
حين ننظر إلى معاجم اللغة العربية القديمة سنرى أن المنجنيق بفتح الميم وكسرها هي القذّاف أو الآلة التي تُرمى بها الحجارة، ويخبرنا ابن منظور المصري (ت 711هـ/1311م) في موسوعته “لسان العرب” أن “منجنيق” كلمة دخيلة أعجمية عُرّبت وأصلها بالفارسية: من جِي نيك. أي ما أجودني، وهي مؤنّثة[1].
فالمنجنيق آلة حربية ثقيلة كانت تُستخدم لقذف الحجارة بأحجامها المختلفة والسهام الكبيرة وقوارير النفط القديم ومقذوفات أخرى باتجاه العدو وأسوار المدن، ولذلك اعتبرت المنجنيق من أهم أسلحة الحصار قبل الميلاد وبعده وحتى اختراع المدافع الحديثة، فكانت ذات فاعلية عالية في إحداث نقوب أو ثغرات في أسوار المدن سمحت للقوات المهاجمة بالنفاذ إلى داخل حصون وقلاع ومدن العدو.
Sunna Files Free Newsletter - اشترك في جريدتنا المجانية
Stay updated with our latest reports, news, designs, and more by subscribing to our newsletter! Delivered straight to your inbox twice a month, our newsletter keeps you in the loop with the most important updates from our website
ويبدو من لفظ الكلمة ودلالتها أنها أسبق زمناً من مجيء الإسلام بعدة قرون على الأقل، فقد عرف الفُرس والبيزنطيون المنجنيق، ويرى بعض المؤرخين مثل كريمر أن العرب نقلوا المنجنيق عن البيزنطيين وأنهم أدخلوا عليه الكثير من التحسينات بتكبير الروافع وتضخيم الآلات، ولكن يرى المؤرخون المسلمون مثل العباسي في “آثار الدول” وكذا ما رأيناه في “لسان العرب” لابن منظور أن أصل المنجنيق فارسي، وهناك رأي ثالث يقول إن عرب العراق قبل الإسلام هم الذين اخترعوا المنجنيق، بدليل أن أقدم منجنيق مكتشف في تاريخ العالم عثر عليه في عام 1971م في مدينة الحضر العراقية قرب نينوى، وهي مدينة أنشأها العربُ النازحون إليها من الجزيرة العربية، وأُرّخ له بالقرن الثالث قبل الميلاد، وهو رأي له وجاهته من خلال هذا الكشف الأثري المهم[2].
اللافت أن النبي، صلى الله عليه وسلم، استخدم المنجنيق في بعض حروبه، فقد استخدمه في حرب الطائف، فكان صلى الله عليه وسلم أول من رمى في الإسلام بالمنجنيق، وجاء في كُتب السّيَر أن المسلمين استخدموا المنجنيق في غزوة الخندق، وقد عني الخليفة عمر بن الخطاب رضي الله عنه باستعمال المجانيق، حتى أصبح لدى الجيش العربي الإسلامي عشرون منجنيقاً استخدمها في تحرير مدينة “المدائن” من الاحتلال الساساني الفارسي، كما استخدمه خالد بن الوليد وأبو عبيدة بن الجراح، رضي الله عنهما، في فتوحات الشام، فقصفوا به أسوار دمشق سنة 13هـ، بعد حصار دام سبعين ليلة[3].
المنجنيق يضرب الكعبة ويفتح عمورية!
ثم تطور استخدام المنجنيق فيما بعد حتى كان الحجاج بن يوسف الثقفي والي العراق وقائد الجيش الذي هاجم الحجاز، وحاصر مكة المشرفة للقضاء على عبد الله بن الزبير بن العوام رضي الله عنه، كان أول من استخدم المنجنيق ورمى به عبد الله بن الزبير وأصحابه المحاصرين، بل أصابت بعض أحجار هذا المنجنيق الكعبة المشرفة، يقول الطبري في “تاريخ الرسل والملوك” عن أحد شهود العيان في تلك الأجواء العصيبة:
“رأيتُ المنجنيق يرمى به، فرعدَت السماء وبرقت، وعلا صوتُ الرعد والبرق على الحجارة، فاشتمل عليها، فأعظمَ ذلك أهل الشام، فأمسكوا بأيديهم، فرفع الحجاج حجَر المنجنيق فوضعه فيه، ثم قال: ارموا، ورمى معهم. قال: ثم أصبحوا، فجاءت صاعقة تتبعها أخرى، فقتَلَت من أصحابه اثني عشر رجلاً، فانكسَر (انهزم وخاف) أهل الشام، فقال الحجاج: يا أهل الشام، لا تُنكروا هذا فإني ابن تِهامة، هذه صواعق تهامة، هذا الفتح قد حضر فأبشروا، إن القوم يُصيبهم مثل ما أصابكم، فصعقت من الغد فأُصيب من أصحاب ابن الزبير عدة، فقال الحجاج: ألا ترون أنهم يصابون وأنتم على الطاعة، وهم على خلاف”[4].
ومنذ تقلد العباسيون زمام الخلافة في عام 132هـ تطور استعمال المنجنيق للغاية، وأصبح شائع الاستعمال عند العرب وخاصة في حصار المدن، ثم صار في نهاية المطاف سلاحاً أساسياً من صميم أسلحة الجيش وفرقه، ففي عام 149هـ جهز العباسيون جيشاً لفتح حصن كماخ في الأناضول، وكان للمنجنيق الفضل في دك أسوار هذا الحصن المنيع وفتحه، بل استخدمه الخليفة المعتصم بالله بن هارون الرشيد في حملته الشهيرة على مدينة عمورية التي استنصرته فيها امرأة مسلمة، وتقع اليوم قرب مدينة إسكي شهير في غرب تركيا، وقد دكّها المعتصم بالمجانيق الكبار التي كان ارتفاعها قدر ارتفاع أسوار عمورية آنذاك، كل منجنيق منها كان يسع أربعة مقاتلين، وحين اشتد القتال، أمر المعتصم بجمع المجانيق الكبار في مكان واحد وأمرهم بدك أسوار عمورية فأحدثت نقباً أو ثغرة تمكن المسلمون من خلاله من الولوج والانتصار على العدو والاستيلاء على عمورية أهم مدن الروم في الأناضول، والتي كانت تعد العاصمة الثانية بعد القسطنطينية[5].
قادة الإسلام وتطور المنجنيقات
وقد استخدم كبار قادة الإسلام المنجنيق في حروبهم وغزواتهم وردعهم لأعداء المسلمين، وعلى رأسهم عماد الدين زنكي، الذي بدأ المواجهة العسكرية القوية ضد الوجود الصليبي وحلفائهم من المسلمين في بلاد الشام، فقد روي أنه “أخذ بَعْلَبَكّ بعد أنّ نصبَ عليها أربعة عشر منجنيقاً ترمي بالليل والنهار، فأشرف أهلها على الهلاك، وسلّموا البلد”، كما يروي الذهبي في “تاريخ الإسلام”.
أما القائد صلاح الدين الأيوبي فقد كان المنجنيق ملازماً له في مواجهاته الكاملة ضد الصليبيين، يقول ابن شداد في “النوادر السلطانية والمحاسن اليوسفية” وهو أحد المقربين والمدونين لسيرة صلاح الدين الأيوبي أثناء حصاره لمدينة صفد الفلسطينية التي كان يحتلها الصليبيون: “لقد رأيتُه (أي صلاح الدين) ليلةً على صفد وهو يحاصرها وقد قال: لا ننام الليلة حتى تُنصب لنا خمسة مناجيق، ورتّب (خصّص) لكل منجنيق قوماً يتولون نصْبَه، وكُنا طول الليل في خدمته، والرسل تتواصل تُخبره بأن قد نُصب من المنجنيق الفلاني كذا، ومن المنجنيق الفلاني كذا، حتى أتى الصباح وقد فرغ منها.. وكانت من أطول الليالي وأشدها برداً ومطراً”[6].
وكان لمجانيق صلاح الدين الأيوبي أعظم الأثر في دكّ أسوار الصليبيين وهزيمتهم، بل في حصاره المحكم على مدينة القدس التي سلمها الصليبيون بعد هزيمة حطّين، وبعد حصار الجيش الأيوبي وعلى رأسه المنجنيقات الكبار رغماً عن أنفوهم.
أما آخر معاقل الصليبيين في الشام، في مملكة عكّا أو مدينة عكا، فقد فتحها السلطان المملوكي الأشرف خليل بن قلاوون بعد مرور قرن على وفاة السلطان صلاح الدين الأيوبي، وذلك في عام 690هـ/1291م، وكان للمنجنيقات الكبار أعظمُ الأثر في دك أسوار المدينة، فقد كانت ترمي حجارة حجم الواحدة منها ربع طن (225 كيلوغراماً)، وكان عدد هذه المنجنيقات خمسة عشر، حوّلت أسوار المدينة وبيوتها إلى خرائب، وكانت تُشبه في قوتها وأثرها قذائف المدفعية الثقيلة والهاوتزر وقذائف الدبابات اليوم.
بل يخبرنا بعض المؤرخين أن المسلمين أبدعوا في إنشاء وتطوير هذه المنجنيقات، حتى إن المنجنيق المنصوري الذي استخدمه سلاطين المماليك في الاستيلاء على قلعة الروم سنة 691هـ/1291م، كانت العجَلة الواحدة منه يجرُّها سبعة رجال كاملين، ولنا أن نتخيل حجم وعظم هذا المنجنيق الكبير، وكان له دور عظيم بجوار عشرين منجنيقاً آخر في سحق الروم البيزنطيين والأرمن والمغول- وكانوا متحدين- وتحويل هذه القلعة إلى حصن للمسلمين[7]، وهي تقع اليوم في محافظة غازي عنتاب جنوبي تركيا.
تلك لمحة سريعة عن نشأة المنجنيقات أو مدافع العصور الوسطى التي عمل المسلمون على تطويرها وتعديلها وتكبير حجمها، وتعظيم قوتها لتواجه مستجدات دفاعات العدو، كما أبدع المسلمون في تطوير صنعتها والعلوم العسكرية الضرورية لإنشاء هذه المنجنيقات، فوجدنا أسماء عديدة في كتب التراث باسم “المنجنيقي”، ومؤلفات متخصصة في صناعة المنجنيقات، مثل كتاب “الأنيق في المنجنيق” لابن أرنبغا الزردكاش من ضباط الجيش المملوكي في مصر وغيره، ولا شك أن هذه المسيرة في صناعة الأسلحة في الإسلام كان لها أعظم الأثر فيما بعد في تطوير هذه الأسلحة حتى ظهور المدافع الكبار التي أسهمت في دك حصون وأسوار القسطنطينية وتطور الأسلحة في العصور الحديثة.