في أعظم القصور، وتحت خدمتها مئات الجواري والعبيد، عاشت آسية بنت مزاحم، امرأة فرعون، الحاكم الذي ادّعى الألوهية، لكن حياة الترف التي عاشتها لم تستمر، حيث آمنت بموسى -عليه السلام- وعرّضت نفسها للتعذيب.
«آسية»، إحدى سيدات أهل الجنة، كانت زوجة لفرعون، الحاكم الذي أمر عبيده بأن يعبدوه ويقدسوه، وأن ينادوه بفرعون الإله، ظهر في حياتها النبي موسى، وبعد جدال طويل مع زوجها، أصرت على تربيته كابن لهما. يقول ابن كثير عن هذه الواقعة في كتابه «البداية والنهاية»: «التقت الجواري (سيدنا موسى) من البحر في تابوت مغلق عليه، فلم يتجاسرن على فتحه، حتى وضعنه بين يدي امرأة فرعون، فلما فتحت الباب وكشفت الحجاب، رأت وجهه يتلألأ بتلك الأنوار النبوية، فلما رأته ووقع نظرها عليه، أحبته حباً شديداً جداً».
ولما جاء فرعون قال: ما هذا وأمر بذبحه، فاستوهبته منه ودفعت عنه، وقَالت: قُرَّةُ عَين لِي وَلك، فقال لها فرعون: أما لك فنعم، وأما لي فلا، فقالت: (عَسَى أَنْ يَنْفَعَنَا)، ثم تبناه، لأنه لم يكن ينجبا.
كبر موسى، وشاهد بطش فرعون وجنوده، فرحل إلى مدين، ثم عاد إلى مصر، ودعا إلى توحيد الله بدلا من فرعون، فآمنت به «آسية»، وأخفت ذلك عن زوجها، ثم بعد فترة أشهرت إيمانها بدين موسى، حينما قتل الماشطة التي كانت تمشط ابنتها، بعد ان قالت له: «ربي وربك الله»، فقذفها فرعون في النار هي وأولادها، ما أثار غضب «آسية»، لأن الماشطة أختها في الله، وأرادت أن تنتقم من فرعون، فواجهته: «الويل لك.. ما أجرأك على الله»، فرد: «لعلك اعتراك الجنون الذي اعترى الماشطة»، فقالت: «ما بي من جنون، لكني آمنت بالله تعالى رب العالمين».
ويُروى أن فرعون ثار غضباً، وجن جنونه، وتحدث إلى قومه على الملأ، وقال لهم: «ما تعلمون من آسية بنت مزاحم؟»، فأثنوا عليها، فقال لهم: «إنها تعبد رباً غيري»، فقالوا له: «اقتلها»، وبعد ذلك أرسل إليها فرعون عبيده، وقال: «انظروا أعظم صخرة تجدونها، فإن مضت على قولها فألقوها عليها، وإن رجعت عن قولها فهي امرأتي»، ثم شدّ زبانية فرعون بعدما رفضت التراجع ن الإيمان بالله، يديها ورجليها ووضعوها في الحر اللاهب تحت أشعة الشمس المحرقة، ووضعوا على ظهرها صخرة.
إن فرعون تفنن في تعذيب زوجته، لكنها ظلت على الحق، وتحمّلت العذاب، طمعا في الفوز بالجنة، وعندما شعرت بنهايتها، دعت الله أن يبني لها بيتا في الجنة. يقول تعالي: «وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً لِّلَّذِينَ آمَنُوا اِمْرَأَةَ فِرْعَوْنَ إِذْ قَالَتْ رَبِّ ابْنِ لِي عِندَكَ بَيْتاً فِي الْجَنَّةِ وَنَجِّنِي مِن فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ وَنَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ»، «التحريم: الآية 11». وكشف الله عن بصيرتها فأطلعها على مكانها في الجنة ففرحت وضحكت وكان فرعون حاضراً هذا المشهد. فقال: «ألا تعجبون من جنونها، إنا نعذبها وهي تضحك فقبض الله روحها إلى الجنة رضي الله عنها».
وقال الرسول الكريم: «سيدات نساء أهل الجنة بعد مريم بنت عمران: فاطمة وخديجة وآسية امرأة فرعون».
من سيرتها
إنها آسيا بنت مزاحم بن عبيد بن الريان ابن الوليد الذي كان فرعون مصر في زمن يوسف عليه السلام.. وكانت على نسبها ورفعة قدرها شديدة الجمال حسنة الخلق فتمنى الزواج منها الكثيرون إلا أن نصيبها جاء من فرعون مصر وملكها! وكان هذا الزواج هو الاختبار الذي نجحت فيه بجدارة واستحقت عليه لقب إحدى سيدات أهل الجنة الأربع.
Sunna Files Free Newsletter - اشترك في جريدتنا المجانية
Stay updated with our latest reports, news, designs, and more by subscribing to our newsletter! Delivered straight to your inbox twice a month, our newsletter keeps you in the loop with the most important updates from our website
فقد تزوجت من أخبث الرجال وأكثرهم غرورًا على وجه الأرض حتى أن ربنا الكريم يصفه لنا في عدة آيات بالكبر والإسراف والطغيان فيقول تعالى في سورة يونس آية رقم 83 «وإن فرعون لعال في الأرض وإنه لمن المسرفين».
وفي سورة هود يقول عنه سبحانه وتعالى: «وما أمر فرعون برشيد». ولنا أن نتخيل زوج بهذه الصفات كيف يمكن أن تستمر الحياة معه وكم تستمر! على أفضل الاحتمالات تستمر الحياة معه عام أو عامين.. أو تستمر الحياة معه على نهجه ظلم وطغيان وكبر! لكن ذلك لم يحدث مع هذه السيدة الحكيمة فهي لم تصطدم معه ولم تمش على نهجه بل إنها كانت تحسن معاشرته، وتجيد فن معاملته.
ولعل نموذج السيدة آسيه يصلح لأن يكون قدوة لكل النساء الصالحات التي أحيانا ما تصطدم قناعتها ومعتقداتها مع الظروف المحيطة بها.. فعليها بإتباع سيرة هذه المرأة الحكيمة، الصالحة التي استطاعت أن توازن في حياتها بين طاعة ربها وحسن معاشرة أخبث الأزواج على الإطلاق، فرعون ذلك الحاكم المتغطرس الذي ادعى أنه إله!
ولم تكن رضى الله عنها راضية عن أفعال زوجها من علو وتكبر وفساد في الأرض وتعذيب لبنى إسرائيل وتقتيل لأولادهم في ذلك الوقت. وكانت تخفى إيمانها بالله عنه فهي كانت مؤمنة من قبل أن يولد موسى . ثم آمنت بموسى بعد بعثته «عليه السلام». وقد اختلف المفسرون حول إنجاب السيدة آسيا فمنهم من يؤكد انها لم تلد مطلقا ومنهم من يؤكد أنها كانت لا تلد سوى البنات. وفى أحد قصورها التي كانت تطل على نهر النيل بمصر جاءتها إحدى الوصيفات تبشرها بوجود صندوق صغير في النهر تظن أنه كنز، فلما فتحت السيدة آسيا الصندوق رأت وجه موسى نبي الله .
الوليد وقد تلألأ بأنوار النبوة فلما رأته ووقع نظرها عليه أحبته حبا شديدا وما ذلك إلا ببركة قول الله عز وجل في شأن موسى: «وألقيت عليك محبة منى» مما جعل كل من تقع عينه على موسى يشعر بالحب نحوه، حتى فرعون نفسه.
وأسرعت السيدة آسيا إلى احتضان الطفل الوليد حتى قالت لزوجها الذي هم بقتله: «قرت عين لي ولك لا تقتلوه عسى أن ينفعنا أو نتخذه ولدا..».
واستجاب فرعون لطلبها رغم علمه بنبوءة الكهان من أن ملكه سوف ينهار على يد غلام من بني إسرائيل، وذلك دلل به المفسرون على علو منزلتها عنده وتمكن حبها من قلبه، بل الأغرب من ذلك أن يأمر فرعون بالتماس المراضع لهذا الوليد.
ولعل قول السيدة آسيا: «عسى أن ينفعنا» قد أنالها الله ما رجت من النفع، أما في الدنيا فهداها الله به، وأما في الآخرة فأسكنها جنته بسببه.
وعاش موسى متمتعا ـ بحنان أمه ـ التي اعتقد الجميع أنها مجرد مرضعته، ورعاية السيدة آسيا (رضي الله عنها) له فآمنت به وصدقت برسالته ولم تكن هي وحدها التي آمنت به؛ بل آمنت به ماشطة بنات فرعون، وأخ للسيدة آسيا، وكثير من أهل القصر وحاشيته.
وبدأ جواسيس القصر في نقل أخبار من آمن إلى فرعون ورجاله خاصة وزير دفاعه«هامان» الذي جن جنونه ،وأخذ يخطط ويدبر في أساليب التعذيب لكل من آمن.. وبدأ بصغار الحاشية فأحرق ماشطة بنات فرعون وأولادها ورضيعها وقتل من آمن من صغار الحاشية وجاء الدور على السيدة آسيا فحاول فرعون إغراءها وإثناءها وإبعادها عن إيمانها فلم يفلح فأمر بربطها وصلبها في شجرة تحت قيظ الشمس الحارقة اعتقادا أنها لن تتحمل وسوف تنهار وتتراجع عن إيمانها.
إلا ان ذلك لم يحدث فثبتت وتحملت وهتفت بمقولتها الشهيرة التي خلدها لها رب العالمين في قرآن يتلى إلى يوم القيامة «رب ابن لي عندك بيتا في الجنة ونجني من فرعون وعمله ونجني من القوم الظالمين». فلم يتحمل فرعون هذا التحدي وذلك الإصرار فقام بفعلته الشنيعة وأقدم على قتلها بأن رماها بحجر ضخم فأرداها قتيلة. إلا أن فرعون لم يهدأ ولم يهنأ بفعلته فقد رأى ابتسامة الرضا على وجهها بعد أن فاضت روحها الكريمة.
وهى واحدة من أربع نساء في الوجود كله من لدن آدم حتى تقوم الساعة هن سيدات نساء العالمين: «آسيا بنت مزاحم، مريم بنت عمران، خديجة بنت خويلد، فاطمة بنت محمد».. ويقول النبي صلوات الله وسلامه عليه: «كمل من الرجال كثير، ولم يكمل من النساء إلا آسيا بنت مزاحم، ومريم ابنة عمران». وفى رواية أخرى ذكر معهن السيدة خديجة والسيدة فاطمة. وقد مضى على هذه القصة آلاف السنين تنعم فيها السيدة آسيا بالروح والريحان، ويعذب فرعون صباح مساء.