بين عشية وضحاها، تحول السلطان العثماني محمد الفاتح من رمز إسلامي عظيم وبطل من أبطال التاريخ الإسلامي تُدرس سيرته في المناهج التعليمية العربية، إلى قاتل ودموي لا يعرف الرحمة والعدل.
هكذا أصبح محمد بن مراد (محمد الفاتح) وفق ما تصبه وسائل الإعلام المسيسة في آذان الجمهور العربي ليلا ونهارا، بعد أن ناصبت بعض الحكومات العربية تركيا العداء، على إثر مواقفها تجاه عدد من القضايا العربية.
من أبرز التهم التي وُجهت للسلطان محمد الفاتح من قِبل هذه المنابر الإعلامية المُسيَّسة، هو اتهامه بقتل أخيه الرضيع “أحمد” البالغ حينها ستة أشهر، خوفا من السلطان محمد على عرشه.
وحتى لا نُتهم بالتحيز، فإننا نعرض هذه المناقشة الهادئة أمام القارئ العربي، ليكون على بينة من أمره قبل أن يُقلِّد الآخرين في اتهام السلطان دون بيّنة.
وابتداءً، لو ثبتت هذه الجريمة بحق السلطان محمد الفاتح لما جاز لأحد تسويغها تحت أي مبرر ولا تحت أي مصلحة سياسية غالبة، لأننا نتحدث عن طفل رضيع وليس أميرًا عثمانيا يُخشى تمرّده، وحينها لا مناص من الاعتراف بأنه مُدان، وفي نفس الوقت لن نغفل عن فضائله ومحاسنه من أجل جرم ارتكبه.
بيد أن القضية: هل تمت هذه الحادثة بالفعل؟ ربما نستطيع تبيّن الأمور قبل إصدار الحكم على السلطان من خلال عرض المسائل التالية:
المسألة الأولى:
سؤال يطرح نفسه بنفسه: لماذا لم تُروّج هذه التهمة قبل أن تنشب الأزمة السياسية بين بعض الأنظمة العربية وتركيا؟.
الإجابة ببساطة شديدة، لأن المؤرخين العرب لم يتداولوا هذه التهمة في كتبهم عن الدولة العثمانية، ومَن نقلها منهم فإنما كان ناقلا عن المؤرخين والمستشرقين في الغرب، الذين يمثلون الرواية الغربية الصليبية تجاه فاتح القسطنطينية، والذين لم تخْلُ كتاباتهم من روح التعصب الديني باعتراف بعضهم .
وهؤلاء مثل المؤرخ البريطاني إدوارد جيبون والمؤرخ النمساوي جوزيف هامر وغيرهما، وحول ذلك يقول الدكتور محمد سالم الرشيدي في كتابه “السلطان محمد الفاتح”: “وقد اعترف بعض هؤلاء المؤرخين مثل جيبون وبيوري وهامر بتعصب المؤرخين البيزنطيين وتحاملهم الشديد على الأتراك، ولكنهم هم أنفسهم لم يستطيعوا التحرر من هذا التعصب والتحامل”.
وهذا بدوره يقودنا إلى سؤال آخر: لماذا لم ينقل المؤرخون العرب الذين عاصروا محمد الفاتح هذه التهمة؟ علما بأن جمعا غفيرا من مشاهير المؤرخين عاصروا السلطان، أمثال ابن تغري بردي والسخاوي والسيوطي وابن إياس.
وابن إياس هذا عاش بين عامي (1448-1523م)، أي عاصر السلطان محمد الفاتح وحفيده السلطان سليم الأول الذي بسط سيطرته على مصر، وكان ابن إياس من المماليك الشراكسة منحازا في كتاباته ضد العثمانيين، ومع ذلك لم يذكر في كتبه أن السلطان الفاتح قتل أخاه الرضيع مع وجود الداعي إلى ذلك.
كما جاء من بعدهم جمع من المؤرخين العرب المسلمين الذين كتبوا عن الدولة العثمانية، لكنهم لم يذكروا هذه التهمة، ومنهم ابن العماد الحنبلي والإسحاقي وغيرهما.
المسألة الثانية:
Sunna Files Free Newsletter - اشترك في جريدتنا المجانية
Stay updated with our latest reports, news, designs, and more by subscribing to our newsletter! Delivered straight to your inbox twice a month, our newsletter keeps you in the loop with the most important updates from our website
لو كان السلطان محمد قد اقترف هذا الإثم فعلا، فلِمَ سكت عنه علماء عصره من العثمانيين؟
فمن المعلوم أن السلطان كان مُحاطا منذ نعومة أظافره بطائفة من خيرة العلماء والمؤدِّبين، وكانوا يربونه على الإيمان والتقوى والصلاح ويغلظون له أحيانا،
ومما يؤثر في هذا الجانب، ما جاء في كتب التاريخ عن العالم آق شمس الدين، أنه رفض دخول السلطان محمد عليه في خيمته التي يتعبد بها، رغم أنه يُدخل عليه من هم دونه، كما حرص على ألا يقوم من مكانه للسلطان احتراما، وذلك ليدفع عنه بعض الزهو بعد أن فتح القسطنطينية.
والسلطان بنفسه قال عن الشيخ آق شمس الدين: “إن احترامي للشيخ آق شمس الدين احترام غير اختياري، إنني أشعر وأنا بجانبه بالانفعال والرهبة”، فهل يعقل أن مثل هذا العالم يسكت عن تلك الجريمة؟
قد يقول قائل: ربما حصل السلطان على فتوى شرعية من هؤلاء العلماء تجيز قتل الرضيع وفقا لحسابات المصالح والمفاسد وحفظ النظام العام نظرًا لحالات التمرد التي سادت بين الأمراء العثمانيين قبل هذا الوقت.
حسنًا، لو قلنا بذلك للزم أن تكون الفتوى شائعة ومعروفة لا تُنكر بين علماء هذا العصر، وهذا لم يحدث.
فإن قيل: ربما أُصدرت الفتوى في نطاق السرية، فيلزم مع هذا القول أن تُنفّذ الجريمة في سرية أيضا، وإلا أوقعت العلماء وأهل الفتوى في حرج بالغ، وسكوتهم عن هذا حتما يتنافى مع مكانتهم في السلطنة.
لكن القصة الشائعة تقول إن السلطان أصدر أوامره بقتل الرضيع عن طريق أحد رجاله، الذي دخل حمام النساء بينما المربية تنظف الطفل، فقام بإغراقه في الماء، أي أن الأمر – وفق القصة المختلقة- تم بصورة علنية.
المسألة الثالثة:
التهمة تقول إن السلطان محمد الفاتح قام بقتل الطفل الرضيع بعد توليه الحكم، وقبل فتح القسطنطينية الذي تم بعد عامين من صعوده على العرش.
ومن المعلوم أن هذا الفتح كان الحلم الأعظم للسلطان وتربى عليه، وقام بتجييش وتعبئة الشعب ومؤسساته لتحقيق هذا الهدف، فهل يُعقل أن السلطان الذي عُرف بالحكمة والذكاء وحسن تقدير المصلحة أن يقتل طفلا رضيعا وهو يُجهّز لهذا الفتح العظيم؟ هل الحكمة أن يقوم بذلك العمل البشع في وقت يحتاج إلى لُحمة داخلية وتعاطف شعبي وتأييد على كافة المستويات؟.
أبسط قواعد التفكير السليم لأي شخص في مكان السلطان، أن ينظر إلى التهديدات المحتملة، فهل كان الصبي ذو الستة أشهر يُمثل خطرًا على السلطان في ذلك الوقت؟.
أليس من الحكمة أن يُرجئ قتله حتى يكون غلاما يافعا على الأقل؟ ألم يكن الأحرى أن يُربيه لكي يستميله ويأمن جانبه؟
كل هذه تساؤلات لابد من الإجابة عليها قبل إصدار الحكم على السلطان بأنه ارتكب هذه الجريمة.
المسألة الرابعة:
رغم أنه ثبت وجود ابن للسلطان مراد الثاني (والد محمد الفاتح) واسمه أحمد بالفعل مات صغيرًا، إلا أن العديد من المؤرخين مثل الفيلسوف الروسي كانتمير، قد ذكروا أن السلطان مراد الثاني عندما تُوفي، كان جميع أبنائه قد ماتوا، عدا ابنه محمد الذي فتح القسطنطينية، فكيف يمكن أن يكون السلطان محمد قتل الرضيع الذي مات في حياة أبيه؟ .
المسألة الخامسة:
الرواية تقول إن أحد رجال محمد الفاتح اقتحم حمام النساء عندما كانت المربية تقوم بغسل الرضيع، فأمسك بالطفل وغطسه تحت الماء كم أسلفنا، فالسؤال هنا:
هل عجز السلطان أن يجد طريقة أخرى لقتل الولد دون إثارة البلبلة والشكوك؟ ألم يكن بإمكانه أن يقوم بالجريمة في سرية؟.
المسألة السادسة:
هل السلطان محمد الفاتح الذي تربى على القرآن والعلوم الإسلامية وعُرف بالصلاح واتباع الشريعة والعدل والتسامح حتى مع غير المسلمين، هل يعقل أن يُسوغ لنفسه هذه الجريمة؟ .
لذلك نرى الشاعر والأديب التركي محمد نامق كمال (1840-1888م) ينفي بشدة عن السلطان ارتكاب هذه الجريمة، وما أدراك من هو محمد نامق كمال، رائد التحديث في الأدب التركي، واشتغل بالتأليف في التاريخ العثماني، وترجم لمحمد الفاتح وغيره، قال عنه جورجي زيدان في كتابه “تراجم مشاهير الشرق في القرن الـ 19” : “طالع علم الحقوق على العلامة الفرنساوي الشهير إميل أفولا، ودرس فني الاقتصاد والسياسة، أما التاريخ فقد كان من أكبر علمائه”.
وأخيرًا:
بعد عرض هذه المسائل، نجد أنفسنا أمام رواية ليس لها سند تاريخي يمكن الاتكاء عليه، ووفقا لقواعد الشريعة لا يمكن إلصاق هذه التهمة بالسلطان إلا ببينة وقرينة لا تحتمل الشك، وفي كل الدساتير والقوانين والأعراف الإنسانية يكون المتهم بريئًا حتى تثبت إدانته، فهل ثبتت إدانة السلطان في قتل أخيه بدليل قطعي؟
لذا بعد كل هذا السرد، لا نستطيع القول إلا أن فاتح القسطنطينية برئ من هذا الفعل، وأن سيرته التي عطرت الآفاق على مدى قرون، صارت ضحية لخلافات سياسية.