رفض بني إسرائيل الجهاد في سبيل الله ومقاتلة الجبارين وإنزال عقاب التيهان بهم
أمر الله تعالى نبيه موسى عليه السلام أن يتوجه بالمؤمنين من بني إسرائيل إلى بيت المقدس في فلسطين، فخرج بهم موسى عليه السلام حتى إذا كانوا في الطريق عطشوا عطشًا شديدًا، فشكوا ذلك إلى نبيّهم موسى عليه السلام مُتذمرين وطلبوا منه الماء والسقيا، فأمره الله سبحانه وتعالى أن يضرب الحجر الذي كان معه بعصاه فلما ضربه بعصاه تفجَّرت منه بقدرة الله تعالى اثنتا عشرة عينًا لكل سِبط من أسباطهم عين تجري بالماء العذب الزُّلال يشربون منها، وأرسل الله سبحانه لهم من السماء المن والسلوى رزقًا منه تعالى وفضلا وكرمًا يحصلون عليه من دون جهد أو تعب. ثم إن كثيرًا منهم ضجر وتبرم وسألوا موسى أن يستبدلوا منها ببدلها مما تنبت الأرض من بقلها وقثائها وفومِها وعدسها وبصلها فوبخهم موسى ونصحهم، قال تعالى: ﴿وَإِذِ اسْتَسْقَى مُوسَى لِقَوْمِهِ فَقُلْنَا اضْرِب بِّعَصَاكَ الْحَجَرَ فَانفَجَرَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْنًا قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَّشْرَبَهُمْ كُلُواْ وَاشْرَبُواْ مِن رِّزْقِ اللَّهِ وَلاَ تَعْثَوْاْ فِي الأَرْضِ مُفْسِدِينَ * وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَن نَّصْبِرَ عَلَىَ طَعَامٍ وَاحِدٍ فَادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُخْرِجْ لَنَا مِمَّا تُنبِتُ الأَرْضُ مِن بَقْلِهَا وَقِثَّآئِهَا وَفُومِهَا وَعَدَسِهَا وَبَصَلِهَا قَالَ أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنَى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ اهْبِطُواْ مِصْرًا فَإِنَّ لَكُم مَّا سَأَلْتُمْ﴾ [سورة البقرة 60-61].
ثم أكمل نبي الله موسى عليه السلام سيرَهُ ببني إسرائيل إلى بيت المقدس التي كان الله سبحانه وتعالى قد وعدهم بها وكتبها لهم، وأخذ موسى عليه السلام يُذكّرهم نعمةَ الله تعالى عليهم وإحسانه إليهم إذ جعل فيهم أنبياء، وءاتاهم من النعم ما لم يؤت أحدًا في زمان نبيهم موسى عليه السلام، ولما انفصل موسى عليه السلام بمن معه من بني إسرائيل وواجه بلاد بيت المقدس في فلسطين وجد عليه السلام فيها قومًا من الجبارين الظالمين المعروفين بكفرهم وجبروتهم وكانوا من الكنعانيين ومن بقايا الحيثانيين وغيرهم، فأمرهم عند ذلك موسى عليه السلام بالدخول على هؤلاء الجبارين ومقاتلتهم وإجلائهم عن بيت المقدس التي كتبها الله تعالى لهم ووعدهم بها، ولكنهم أبوا ورفضوا الجهاد وجَبنوا عن مقاتلة هؤلاء الأعداء الكافرين الذين كانوا ذوي قوة وبأس، وقالوا لنبيهم موسى عليه السلام: يا موسى إن فيها قومًا جبارين وإنا لن ندخلها حتى يخرجوا منها فإن يخرجوا منها فإنا داخلون، وأمام هذا الموقف المخزي من جانب هؤلاء تقدّم رجلان من الذين يخافون الله تعالى وقد أنعم الله تعالى عليهما بالإسلام والإيمان والطاعة والشجاعة والثبات وأشارا عليهم بالجهاد وأن يدخلوا على هؤلاء الجبارين من باب القرية ليمتلئوا منهم خوفًا ورعبًا، وطلبا منهم أن يتوكلوا على الله تعالى حق توكّله وأن يستعينوا به ويلتجئوا إليه لينصرهم على هؤلاء الطغاة الجبارين ويظفرهم بهم.
وأمام هذا الموقف المشرّف الذي وقفه هذان الرجلان المؤمنان اللذان يخافان الله تعالى، وقع أمر عظيم كبير من جانب بني إسرائيل إذ صمّم أكثرهم على رفض الجهاد والتقاعس عنه وقالوا لنبيهم موسى عليه السلام: يا موسى إنا لن ندخلها ابدًا ما داموا فيها. فاذهب أنت وربُّك فقاتلا إنّا هاهنا قاعدون، فعاقبهم الله تعالى بسبب مخالفتهم نبيهم موسى عليه السلام وعصيانهم أمره بالتيهان في الأرض يسيرون إلى غير مقصد ليلا ونهارًا وصباحًا ومساءً، يحلون ويرتحلون ويذهبون ثم يرجعون إلى مكانهم الذي ذهبوا منه طيلة أربعين سنة، حتى مات هؤلاء كلهم في مدة أربعين سنة ولم يبق إلا أولادهم وذراريهم سوى هذين الرجلين اللذين يخافان الله تعالى وقيل هما: يُوشع بن نون وكالب بن يوفنا وكانا رجلين صالحين. يقول الله سبحانه وتعالى إخبارًا عن موسى عليه السلام مع هؤلاء القوم من بني إسرائيل: ﴿وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ اذْكُرُواْ نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنبِيَاء وَجَعَلَكُم مُّلُوكًا وَءاتَاكُم مَّا لَمْ يُؤْتِ أَحَدًا مِّن الْعَالَمِينَ * يَا قَوْمِ ادْخُلُوا الأَرْضَ المُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَلاَ تَرْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِكُمْ فَتَنقَلِبُوا خَاسِرِينَ * قَالُوا يَا مُوسَى إِنَّ فِيهَا قَوْمًا جَبَّارِينَ وَإِنَّا لَن نَّدْخُلَهَا حَتَّىَ يَخْرُجُواْ مِنْهَا فَإِن يَخْرُجُواْ مِنْهَا فَإِنَّا دَاخِلُونَ * قَالَ رَجُلاَنِ مِنَ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمَا ادْخُلُواْ عَلَيْهِمُ الْبَابَ فَإِذَا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غَالِبُونَ وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُواْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ * قَالُواْ يَا مُوسَى إِنَّا لَن نَّدْخُلَهَا أَبَدًا مَّا دَامُواْ فِيهَا فَاذْهَبْ أَنتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ * قَالَ رَبِّ إِنِّي لا أَمْلِكُ إِلاَّ نَفْسِي وَأَخِي فَافْرُقْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ * قَالَ فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي الأَرْضِ فَلاَ تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ﴾ [سورة المائدة 20-26].
ذهاب موسى عليه السلام لميقات الله تعالى وسؤاله الرؤية
كان نبي الله موسى عليه السلام قد وعد بني إسرائيل الذين ءامنوا به واتبعوه أن يأتيهم بكتاب فيه تبيان معالم الشريعة وما يأتون وما يتركون، فلمّا أهلك الله تبارك وتعالى فرعون مصر ومن اتّبعه من جنوده في البحر وأنجى بني إسرائيل، قالوا لنبيهم موسى عليه السلام: ائتنا بالكتاب الذي وعدتنا، فسأل موسى عليه السلام ربه ذلك، فواعده الله تعالى ثلاثين ليلة وأمره تعالى بالصيام فيها ثم يُتبعها بعشر ليال أخرى يصوم فيها موسى أيضًا ليسمعه كلامه ويعطيه التوراة وفيها الأحكام وتفاصيل الشريعة المطهرة، وقيل الثلاثون ليلة هي شهر ذي القعدة بكماله وأتمت أربعين ليلة بعشر من ذي الحجة. فصام موسى عليه السلام أربعين يومًا استكمل فيها الميقات الذي وعده فيه الله تعالى، فلما عزم على الذهاب لميقات الله تعالى استخلف في غيابه أخاه هارون عليه السلام على بني إسرائيل فوصّاه وأمره أن يخلفه في بني إسرائيل في غيابه مع أن هارون كان معه نبيًّا ورسولا في ذلك الوقت، ولما جاء موسى عليه السلام لميقات الله تعالى أي في الوقت الذي أمره تعالى بالمجىء فيه، رفع الله تعالى الحجاب المعنوي عن سمعه فكلمه تعالى من وراء حجاب، أي من غير أن يرى الله وذلك لأن الله متكلم أزلا وأبدًا من غير حرف ولا صوت كما قال أبو حنيفة في كتابه الفقه الأكبر لأن الكلام الذي يكون بحرف وصوت حادث لأن الحروف يتقدم بعضها عن بعض ويتأخر بعضها عن بعض فيستحيل أن يتكلم الله هكذا لأن هذا من الأعراض التي يشترك بها البشر وغيرهم من المخلوقات والله منزه عن الأعراض في ذاته وفي كل صفاته من علمه وقدرته وحياته.
وكلامه تعالى قديم أزلي ليس شيئًا ينقص بمرور الزمان أو يتجدد شيئًا بعد شىء، والدليل على أن كلامه تعالى ليس حرفًا وصوتًا يسبق بعضه بعضًا قوله تعالى: ﴿وهو أسرع الحاسبين﴾ [سورة الأنعام/62] لأنه يكلم كلاّ منا يوم القيامة ويفرغ من حسابهم في وقت قصير في لحظة ولو كان كلامه لهم بالحرف والصوت لم يكن أسرع الحاسبين، ولا يجوز أن يعتقد أن الله تعالى يكلمهم بالحرف والصوت لأن الله تعالى كان متكلمًا قبل خلق اللغات اللغة العربية وغيرها.
وأما قوله تعالى: ﴿إنما أمره إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون﴾ [سورة يس/82] فمعناه سرعة الإيجاد من غير مشقة ولا تعب من غير تأخر عن الوقت الذي شاء وجود الشىء فيه، وإنما عبر في القرءان بلفظ كن لأن هذه الكلمة أسهل شىء على الإنسان، والقرءان كما قال الإمام أحمد أمثال ومواعظ. وقد سمع موسى عليه السلام كلام الله الذاتي الأزلي الذي لا يُشبه كلام البشر، وهذا مقامٌ رفيع ومنصبٌ شريف لموسى عليه السلام، فصلوات الله تعالى عليه وعلى جميع إخوانه النبيين والمرسلين. ولما أعطي نبي الله موسى عليه السلام هذه المنزلة العالية وهي سماعه كلام الله تعالى الأزلي، طلب عليه السلام من ربه عزَّ وجل أن يراه فقال: ﴿ربِ أرني أنظر إليك قال لن تراني﴾ [سورة الأعراف/143] وعلّق الله تعالى رؤية موسى له بثبات الجبل عند رؤيته تعالى، والله عالم في الأزل أن الجبل لن يثبت ولهذا قال الله تبارك وتعالى لكليمه موسى عليه السلام: ﴿ولكن انظر إلى الجبل فإن استقر مكانه فسوف تراني﴾ [سورة الأعراف/143] أي أن الله تعالى تجلّى للجبل بعد أن خلق فيه الإدراك والرؤية فاندكّ الجبل دكّا وموسى عليه السلام ينظر إليه حتى خرّ عليه السلام مغشيَا عليه من هول ما رأى من اندكاك الجبل، فلما أفاق عليه السلام من غشيته قال: سبحانك تبت إليك وأنا أول المؤمنين، قال تعالى: ﴿فلما تجلى ربُه للجبل جعله دكا وخر موسى صعِقا فلما أفاق قال سبحانك تبت إليك وأناْ أول المؤمنين﴾ [سورة الأعراف/143]، أي وأنا أول المؤمنين بأنك لا تُرى بالعين في الدنيا وذلك لأن الله لم يوحِ إلى موسى وإلى من قبله من الأنبياء أنه لا يُرى بالعين في الدنيا، وقد ثبت في الصحيحين عن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “لا تخيّروني من بين الأنبياء فإن الناس يصعقون يوم القيامة فأكون أول من يفيق فإذا أنا بموسى ءاخذ بقائمة من قوائم العرش فلا أدري أفاق قبلي أم جوزي بصعقة الطور”.
أنزل الله تبارك وتعالى على نبيه موسى عليه السلام التوراة وكانت مكتوبة على ألواح، قيل: كانت من زبرجد وجوهر نفيس، وقيل: كانت من خشب والله أعلم، وكان فيها تشريعات ومواعظ وتفصيل لكل ما يحتاج إليه بنو إسرائيل من أمور الحلال والحرام، وقد أمره الله تعالى أن يأخذ ألواح التوراة بعزم ونية صادقة قوية، ويأمر قومه بني إسرائيل بالعمل بها على الوجه الأكمل محذّرًا إياهم من مخالفة أوامر الله سبحانه وتعالى، قال الله تبارك وتعالى: ﴿وَوَاعَدْنَا مُوسَى ثَلاَثِينَ لَيْلَةً وَأَتْمَمْنَاهَا بِعَشْرٍ فَتَمَّ مِيقَاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً وَقَالَ مُوسَى لأَخِيهِ هَارُونَ اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ وَلاَ تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ * وَلَمَّا جَاء مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَن تَرَانِي وَلَكِنِ انظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا وَخَرَّ موسَى صَعِقًا فَلَمَّا أَفَاقَ قَالَ سُبْحَانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَاْ أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ * قَالَ يَا مُوسَى إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسَالاَتِي وَبِكَلاَمِي فَخُذْ مَا ءاتَيْتُكَ وَكُن مِّنَ الشَّاكِرِينَ * وَكَتَبْنَا لَهُ فِي الأَلْوَاحِ مِن كُلِّ شَىْءٍ مَّوْعِظَةً وَتَفْصِيلاً لِّكُلِّ شَىْءٍ فَخُذْهَا بِقُوَّةٍ وَأْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُواْ بِأَحْسَنِهَا سَأُرِيكُمْ دَارَ الْفَاسِقِينَ﴾ [سورة الأعراف 142-145]، وقال تعالى: ﴿وإذ واعدنا موسى أربعين ليلة ثم اتخذتم العجل من بعده وأنتم ظالمون﴾ [سورة البقرة/51].
فائدة: من المعلوم لدى علماء أهل الحق أنّ كلام الله تعالى الأزلي الأبدي هو صفته بلا كيف وهو ليس ككلامنا الذي يُبدأ ثم يختم، فكلامه تعالى أزلي ليس بصوت ولا حرف ولا لغة، لذلك نعتقد أنَّ نبي الله موسى عليه السلام سمع كلام الله تعالى الأزلي بعد أن أزال الله تعالى عنه الحجاب الذي يَمنع من سماع كلام الله تعالى الأزلي الأبدي الذي ليس ككلام العالمين، وكذلك سمع نبينا محمد صلى الله عليه وسلم في المعراج كلام الله تعالى الذاتي الأزلي، فقد أسمعه الله تعالى بقدرته كلامه الأزلي في ذلك المكان الذي هو فوق سدرة المنتهى وهو مكان شريف لم يُعص الله فيه وليس هو مكانًا يتحيز فيه الله، لأن الله تعالى موجود بلا مكان ولا يجري عليه الزمان، والله تعالى ليس حجما كثيفا ولا حجما لطيفا كالنور.
وليُعلم أن مذهب أهل الحق أن الله سبحانه وتعالى لا يُرى بالعين الفانية في الدنيا لقوله تعالى لكليمه موسى عليه السلام عندما سأله الرؤية: ﴿لن تراني﴾، وقد قال النبيُّ صلى الله عليه وسلم: “واعلموا أنكم لن تروا ربَّكم حتى تموتوا” وإنما يُرى الله سبحانه وتعالى في الآخرة بالعين الباقية يراه المؤمنون الذين ءامنوا بالله تعالى ورسله وهم في الجنة لا يشبه شيئًا من الأشياء بلا مكان ولا جهة ولا مقابلة ولا ثبوت مسافة ولا اتصال شعاع بين الرّائي وبينه عز وجل، يقول الله تعالى: ﴿وجوهٌ يومئذ ناضرة * إلى ربها ناظرة﴾ [سورة القيامة 22-23].
ويقول النبيُّ صلى الله عليه وسلم: “أما إنكم ترون ربَّكم يوم القيامة كما ترون القمر ليلة البدر لا تضامُّون في رؤيته” رواه البخاري، أي لا تشكون أن الذي ترون هو الله تبارك وتعالى كما لا تشكون في القمرِ ليلة البدر، ولا يعني النبيُّ صلى الله عليه وسلم أن بين الله تعالى وبين القمر مشابهةً فهو تعالى أخبر في القرءان أنه لا يشبه شيئًا قال تعالى: ﴿ليس كمثله شيء وهو السميع البصير﴾ [سورة الشورى/11].
قصة عبادة بني إسرائيل العجل في غيبة موسى عليه الصلاة والسلام
بعد أن ذهب نبيُّ الله موسى عليه السلام إلى جبل الطور لميقات ربه، وفي أثناء ذلك عمد رجل من بني إسرائيل يقال له موسى السامريّ منتهزًا غيابَ موسى عليه السلام حيث أخذ ما كانوا استعاروه من حلي ءال فرعون وأتباعه، فصاغ منه شكل عجل ثم ألقى فيه قبضة من التراب كان أخذها من أثر فرس جبريل عليه السلام حين رءاه يوم أغرق الله عز وجل فرعون وجنوده في البحر، فلما ألقاها في فم هذا العجل الذي صاغه صار يخور كما يخور العجل الحقيقي بقدرة الله تعالى ومشيئته ابتلاءً منه تعالى واختبارًا وفتنة، ثم قال السامري ومن وافقه من الذين افتتنوا بهذا العجل ما أخبر الله تعالى في قوله: ﴿فقالوا هذا إلهكم وإله موسى فنسِىَ﴾ [سورة طه/88]، أي قالوا: إن هذا العجل الذي خار هو إلهكم وإله موسى، وقد نسي موسى ربه عندنا وذهب يبحث عنه ويطلبه، قال الله تبارك وتعالى مبينًا بطلان ما ذهبوا إليه وادعوه: ﴿أفلا يرون ألا يرجع إليهم قولا ولا يملك لهم ضرا ولا نفعا﴾ [سورة طه/89]، وقال تعالى: ﴿ألم يروا أنه لا يكلمهم ولا يهديهم سبيلا اتخَذوه وكانوا ظالمين﴾ [سورة الأعراف/148].
ولَمّا رجع نبيُّ الله موسى عليه السلام إلى بني إسرائيل وفيهم هؤلاء الذين عبدوا هذا العجل، ورأى عليه السلام ما هم عليه غضب غضبًا شديدًا وكان معه الألواحُ المتضمنة التوراة، فألقى الألواح التي كانت معه من غير استخفاف بها على مكان طاهر (1)، ثم أقبل على هؤلاء الذين عبدوا العجل يعنفهم ويوبخهم على صنيعهم القبيح هذا.
ثم أقبل عليه السلام على أخيه هارون عليه السلام الذي كان قد استخلفه عليهم في أثناء غيبته وأخذ برأسه ولحيته يجرُّه إليه ليدنيه ويتفحص الواقعة والأخبار منه من غير أن يقصد موسى عليه السلام أن يهينه ويستخفَّ به، وصار عليه السلام يسأله عمّا منعه أن يتبعه ليخبره بما فعله هؤلاء من عبادة العجل فخاف هارون عليه السلام بما فعل أخوه موسى معه في شدة غضبه أن يسبق إلى قلوب قومه ما لا أصل له ويظنوا به ما لا يليق، فقال لموسى عليه السلام: ﴿قَالَ يَبْنَؤُمَّ لا تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلا بِرَأْسِي إِنِّي خَشِيتُ أَن تَقُولَ فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلَمْ تَرْقُبْ قَوْلِي﴾ [سورة طه/94]، فبيَّن هارون لأخيه موسى عليهما السلام أنه خاف إن تركهم وجاءه ليخبره بأمرهم أن يقول له موسى عليه السلام: “تركتهم وجئتني” وهو قد استخلفه عليهم في فترة غيابه، عند ذلك دعا موسى عليه السلام ربه وكان قد هدأ غضبه: ﴿رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلأَخِي وَأَدْخِلْنَا فِي رَحْمَتِكَ وَأَنتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ﴾ [سورة الأعراف/151] وقد كان نبي الله هارون عليه السلام نهى هؤلاء الذين عبدوا العجل عن عبادته أشدَّ النهي وزجرهم عنه زجرًا شديدًا، يقول الله تعالى إخبارًا عن هارون عليه السلام: ﴿وَلَقَدْ قَالَ لَهُمْ هَارُونُ مِن قَبْلُ يَا قَوْمِ إِنَّمَا فُتِنتُم بِهِ﴾ [سورة طه/90] أي إنما قدّر الله تعالى أمر هذا العجل وجعله يخور خوران العجل فتنة واختبارًا لكم، ثم قال لهم عليه السلام ما أخبر الله تعالى: ﴿ وَإِنَّ رَبَّكُمُ الرَّحْمَنُ فَاتَّبِعُونِي وَأَطِيعُوا أَمْرِي﴾ [سورة طه/90]، وأخبر الله تعالى كيف كان ردُّ هؤلاء الضالين على هارون عليه السلام قال الله تعالى: ﴿قَالُوا لَن نَّبْرَحَ عَلَيْهِ عَاكِفِينَ حَتَّى يَرْجِعَ إِلَيْنَا مُوسَى﴾ [سورة طه/91].
وبعد أن سمع موسى عليه السلام مقالةَ أخيه هارون عليه السلام تركه وأقبل غاضبًا على السامري وسأله عما حمله على هذا الصنيع الشنيع في عبادته العجل ودعوةِ الناس إلى عبادته واتخاذه إلـهًا فأخبره موسى السامري بأنه رأى جبريل عليه السلام راكبًا فرسًا يوم أغرق الله تعالى فرعون وجنوده في البحر، وأنه أخذ قبضةً من أثر التراب الذي كان تحت حافر فرسه وألقاه في فم هذا العجل المصنوع من الذهب كما سوّلت له نفسه ذلك وزينت حتى كان من أمر العجل المصوغ ما كان، ولما سمع موسى عليه السلام مقالة السامري وبّخه وعنفه بشدة على عبادته لغير الله تعالى، ثم دعا عليه أن لا يمسَّ أحدا ولا يمسّه أحد ما دام في حياته فقد عاقبه الله تعالى في دنياه بذلك وألهمه أن يقول “لا مساس” فكان السامري إذا لقي أحدًا يقول: “لا مساس” أي لا تقربني ولا تمسني، وصار يهيمُ في البرية مع الوحوش والسباع لا يمسّ أحدًا ولا يمسُّه أحد، وكان نبي الله موسى عليه السلام قد توعده على كفره بالعذاب الأليم في الآخرة.
عمد نبي الله موسى عليه السلام إلى العجل الذي عبده بعض بني إسرائيل بإشارة وطلب من السامري فأحرقه بالنار ورمى رماده في البحر، ثم توجه نحو بني إسرائيل وأخبرهم أن الله تبارك وتعالى هو الإله الذي يستحق العبادة وحده ولا إله غيره فقال لهم: ﴿إِنَّمَا إِلَهُكُمُ اللَّهُ الَّذِي لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ وَسِعَ كُلَّ شَىْءٍ عِلْمًا﴾ [سورة طه/98]، ثم أمر موسى بني إسرائيل بالشرب من هذا فشربوا، فمن كان من عابديه علق على شفاههم من ذلك الرماد ما يدل عليه، ولم يقبل الله تعالى توبة عابدي العجل إلا بالقتل، فدخلوا في الإسلام وندموا على ما فعلوا وصاروا يقتلون أنفسهم قال الله تبارك وتعالى: ﴿وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنفُسَكُمْ بِاتِّخَاذِكُمُ الْعِجْلَ فَتُوبُواْ إِلَى بَارِئِكُمْ فَاقْتُلُواْ أَنفُسَكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ عِندَ بَارِئِكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ﴾ [سورة البقرة/54].
ويقال: إنهم أصبحوا يومًا وقد أخذ من لم يعبد العجل في أيديهم السيوف، وألقى الله عليهم ضبابا وهي السحاب الذي يُغشي الأرض كالدخان حتى لا يعرفَ القريبُ قريبَه ولا النسيب نسيبه، ثم مالوا على عابدي العجل فقتلوهم وحصدوهم، فيقال: إنهم قتلوا في صبيحة واحدة سبعين ألفًا. قال الله تبارك وتعالى: ﴿وَاتَّخَذَ قَوْمُ مُوسَى مِن بَعْدِهِ مِنْ حُلِيِّهِمْ عِجْلاً جَسَدًا لَّهُ خُوَارٌ أَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّهُ لاَ يُكَلِّمُهُمْ وَلاَ يَهْدِيهِمْ سَبِيلاً اتَّخَذُوهُ وَكَانُواْ ظَالِمِينَ * وَلَمَّا سُقِطَ فَي أَيْدِيهِمْ وَرَأَوْاْ أَنَّهُمْ قَدْ ضَلُّواْ قَالُواْ لَئِن لَّمْ يَرْحَمْنَا رَبُّنَا وَيَغْفِرْ لَنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ * وَلَمَّا رَجَعَ مُوسَى إِلَى قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفًا قَالَ بِئْسَمَا خَلَفْتُمُونِي مِن بَعْدِي أَعَجِلْتُمْ أَمْرَ رَبِّكُمْ وَأَلْقَى الألْوَاحَ وَأَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ يَجُرُّهُ إِلَيْهِ قَالَ ابْنَ أُمَّ إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي وَكَادُواْ يَقْتُلُونَنِي فَلاَ تُشْمِتْ بِيَ الأعْدَاء وَلاَ تَجْعَلْنِي مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ * قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلأَخِي وَأَدْخِلْنَا فِي رَحْمَتِكَ وَأَنتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ * إِنَّ الَّذِينَ اتَّخَذُواْ الْعِجْلَ سَيَنَالُهُمْ غَضَبٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَذِلَّةٌ فِي الْحَياةِ الدُّنْيَا وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُفْتَرِينَ * وَالَّذِينَ عَمِلُواْ السَّيِّئَاتِ ثُمَّ تَابُواْ مِن بَعْدِهَا وَءامَنُواْ إِنَّ رَبَّكَ مِن بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ﴾ [سورة الأعراف 148-153]. وقال تعالى: ﴿وَمَا أَعْجَلَكَ عَن قَوْمِكَ يَا مُوسَى * قَالَ هُمْ أُولاء عَلَى أَثَرِي وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضَى * قَالَ فَإِنَّا قَدْ فَتَنَّا قَوْمَكَ مِن بَعْدِكَ وَأَضَلَّهُمُ السَّامِرِيُّ * فَرَجَعَ مُوسَى إِلَى قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفًا قَالَ يَا قَوْمِ أَلَمْ يَعِدْكُمْ رَبُّكُمْ وَعْدًا حَسَنًا أَفَطَالَ عَلَيْكُمُ الْعَهْدُ أَمْ أَرَدتُّمْ أَن يَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبٌ مِّن رَّبِّكُمْ فَأَخْلَفْتُم مَّوْعِدِي * قَالُوا مَا أَخْلَفْنَا مَوْعِدَكَ بِمَلْكِنَا وَلَكِنَّا حُمِّلْنَا أَوْزَارًا مِّن زِينَةِ الْقَوْمِ فَقَذَفْنَاهَا فَكَذَلِكَ أَلْقَى السَّامِرِيُّ * فَأَخْرَجَ لَهُمْ عِجْلاً جَسَدًا لَهُ خُوَارٌ فَقَالُوا هَذَا إِلَهُكُمْ وَإِلَهُ مُوسَى فَنَسِيَ * أَفَلا يَرَوْنَ أَلاَّ يَرْجِعُ إِلَيْهِمْ قَوْلاً وَلا يَمْلِكُ لَهُمْ ضَرًّا وَلا نَفْعًا * وَلَقَدْ قَالَ لَهُمْ هَارُونُ مِن قَبْلُ يَا قَوْمِ إِنَّمَا فُتِنتُم بِهِ وَإِنَّ رَبَّكُمُ الرَّحْمَنُ فَاتَّبِعُونِي وَأَطِيعُوا أَمْرِي * قَالُوا لَن نَّبْرَحَ عَلَيْهِ عَاكِفِينَ حَتَّى يَرْجِعَ إِلَيْنَا مُوسَى * قَالَ يَا هَارُونُ مَا مَنَعَكَ إِذْ رَأَيْتَهُمْ ضَلُّوا * أَلاَّ تَتَّبِعَنِ أَفَعَصَيْتَ أَمْرِي * قَالَ يَبْنَؤُمَّ لا تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلا بِرَأْسِي إِنِّي خَشِيتُ أَن تَقُولَ فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلَمْ تَرْقُبْ قَوْلِي * قَالَ فَمَا خَطْبُكَ يَا سَامِرِيُّ * قَالَ بَصُرْتُ بِمَا لَمْ يَبْصُرُوا بِهِ فَقَبَضْتُ قَبْضَةً مِّنْ أَثَرِ الرَّسُولِ فَنَبَذْتُهَا وَكَذَلِكَ سَوَّلَتْ لِي نَفْسِي * قَالَ فَاذْهَبْ فَإِنَّ لَكَ فِي الْحَيَاةِ أَن تَقُولَ لا مِسَاسَ وَإِنَّ لَكَ مَوْعِدًا لَّنْ تُخْلَفَهُ وَانظُرْ إِلَى إِلَهِكَ الَّذِي ظَلْتَ عَلَيْهِ عَاكِفًا لَّنُحَرِّقَنَّهُ ثُمَّ لَنَنسِفَنَّهُ فِي الْيَمِّ نَسْفًا * إِنَّمَا إِلَهُكُمُ اللَّهُ الَّذِي لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ وَسِعَ كُلَّ شَىْءٍ عِلْمًا﴾ [سورة طه 83-98].
ولما ذهب ما كان في موسى عليه السلام من غضب أخذ الألواح التي كتب فيها التوراة وأمرهم بقبولها والأخذ بها بقوة وعزم، فقالوا له: انشرها علينا فإن كانت أوامرها ونواهيها سهلة قبلناها، فعندئذ قال لهم: اقبلوها بما فيها، فلما راجعوه مرارًا أمر الله تعالى الملائكة فرفعُوا الجبل على رءوسهم حتى صار كأنه غمامة على رءوسهم وقيل لهم: إن لم تقبلوها بما فيها سقط هذا الجبل عليكم، فقبلوا ذلك وأمروا بالسجود فسجدوا، ولما نشر نبي الله موسى عليه السلام ألواح التوراة لم يبق على وجه الأرض جبل ولا شجر ولا حجر إلا اهتزّ، قال الله تعالى: ﴿وَلَمَّا سَكَتَ عَن مُّوسَى الْغَضَبُ أَخَذَ الأَلْوَاحَ وَفِي نُسْخَتِهَا هُدًى وَرَحْمَةٌ لِّلَّذِينَ هُمْ لِرَبِّهِمْ يَرْهَبُونَ﴾ [ سورة الأعراف/154].
وقال الله تعالى: ﴿وَإِذ نَتَقْنَا الْجَبَلَ فَوْقَهُمْ كَأَنَّهُ ظُلَّةٌ وَظَنُّواْ أَنَّهُ وَاقِعٌ بِهِمْ خُذُواْ مَا ءاتَيْنَاكُم بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُواْ مَا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ﴾ [سورة الأعراف/171]، وقال تعالى: ﴿وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُواْ مَآ ءاتَيْنَاكُم بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُواْ مَا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ * ثُمَّ تَوَلَّيْتُم مِّن بَعْدِ ذَلِكَ فَلَوْلاَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَكُنتُم مِّنَ الْخَاسِرِينَ﴾ [سورة البقرة 63-64]، انقلع جبل الطور وصار فوق رؤوسهم أظلهم فخافوا أن يهلكوا فلما رأوا أن لا مهرب لهم قبلوا ذلك وسجدوا على شقِّ وجوههم وجعلوا يلاحظون الجبل وهم سجود فصارت عادةً في اليهود أنهم يسجدون على جانب وجوههم وقالوا: سمعنا وأطعنا.
ثم إن بني اسرائيل سألوا موسى الرؤية فأخذتهم الرجفة كما قال تعالى: ﴿وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ وَأَنتُمْ تَنظُرُونَ * ثُمَّ بَعَثْنَاكُم مِّن بَعْدِ مَوْتِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ﴾ [سورة البقرة 55-56]، وبعد ذلك اختار موسى عليه السلام سبعين رجلا يقال إنهم كانوا علماء بني اسرائيل وخرج معه هارون ويوشع إلى طور سيناء، فلما اقتربوا من الجبل وقع عليه عامود الغمام فدخل موسى في الغمام وهناك أوحى الله لموسى ما أوحى قال تعالى: ﴿وَاخْتَارَ مُوسَى قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلاً لِّمِيقَاتِنَا فَلَمَّا أَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ قَالَ رَبِّ لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُم مِّن قَبْلُ وَإِيَّايَ أَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ السُّفَهَاء مِنَّا إِنْ هِيَ إِلاَّ فِتْنَتُكَ تُضِلُّ بِهَا مَن تَشَاء وَتَهْدِي مَن تَشَاء أَنتَ وَلِيُّنَا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنتَ خَيْرُ الْغَافِرِينَ * وَاكْتُبْ لَنَا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ إِنَّا هُدْنَا إِلَيْكَ قَالَ عَذَابِي أُصِيبُ بِهِ مَنْ أَشَاء وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَىْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُم بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ﴾ [سورة الأعراف 155-156].
——————
قصةُ بقرةِ بني إسرائيل
قال الله تعالى: ﴿وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُواْ بَقَرَةً قَالُواْ أَتَتَّخِذُنَا هُزُوًا قَالَ أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ * قَالُواْ ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّن لّنَا مَا هِيَ قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لاَّ فَارِضٌ وَلاَ بِكْرٌ عَوَانٌ بَيْنَ ذَلِكَ فَافْعَلُواْ مَا تُؤْمَرونَ * قَالُواْ ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّن لَّنَا مَا لَوْنُهَا قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنّهَا بَقَرَةٌ صَفْرَآء فَاقِعٌ لَّوْنُهَا تَسُرُّ النَّاظِرِينَ * قَالُواْ ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّن لَّنَا مَا هِيَ إِنَّ البَقَرَ تَشَابَهَ عَلَيْنَا وَإِنَّآ إِن شَاءَ اللَّهُ لَمُهْتَدُونَ * قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لاَّ ذَلُولٌ تُثِيرُ الأَرْضَ وَلاَ تَسْقِى الْحَرْثَ مُسَلَّمَةٌ لا شِيَةَ فِيهَا قَالُواْ الآنَ جِئْتَ بِالْحَقِّ فَذَبَحُوهَا وَمَا كَادُواْ يَفْعَلُونَ * وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْسًا فَادَّارَأتُمْ فِيهَا وَاللَّهُ مُخْرِجٌ مَّا كُنتُمْ تَكْتُمُونَ * فَقُلْنَا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا كَذَلِكَ يُحْي اللَّهُ الْمَوْتَى وَيُرِيكُمْ ءايَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ﴾ [سورة البقرة 67-73].
إن قصة بقرة بني إسرائيل تتلخص في أنَّ رجُلا من بني إسرائيل كان كثيرَ المال وكان شيخًا كبيرًا وله بنو أخ يتمنون موته ليرثوه، فعمد أحدُهم فقتله في الليل وطرحه في مجمع الطرق وقيل على باب رجل منهم، فلمّا أصبح الناس اختصموا فيه، وجاء ابن أخيه فجعل يصرخ ويتظلم فقالوا: ما لكم تختصمون ولا تأتون نبي الله؟ فجاء ابن أخيه هذا وشكا أمر عمه إلى رسول الله موسى عليه السلام، فقال موسى عليه السلام لما سمع الخبر: أنشد الله رجلا عنده علم من أمر هذا القتيل إلا أعلمنا به، فلم يكن عند أحد منهم علم منه، ثم طلبوا منه أن يسأل في هذه القضية ربه عز وجل، فسأل موسى عليه السلام في هذه القضية ربه عز وجل فأمره الله تعالى أن يأمرهم بذبح بقرة فقال لهم: ﴿إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُواْ بَقَرَةً قَالُواْ أَتَتَّخِذُنَا هُزُوًا﴾ [سورة البقرة/67] فقالوا له: نحن نسألك عن أمر هذا القتيل وأنت تقول لنا هذا ﴿قَالَ أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ﴾ أي أعوذ بالله أن أقول غير ما أوحي إلي، ولو أنهم عمدوا إلى أي بقرة فذبحوها لحصل المقصود منها، ولكنهم شددوا فشدد الله عليهم، فقد سألوا عن صفتها ثم عن لونها ثم عن سِنّها فأجيبوا بما عز وجوده فيهم.
والمقصود أنهم أُمروا بذبح بقرة عوان وهي الوسط النصف بين الفارض وهي الكبيرة والبكر وهي الصغيرة، ثم شددوا وضيقوا على أنفسهم فسألوا عن لونها، فأُمروا بصفراء فاقع لونها أي مُشربٌ بحمرة تسر الناظرين، وهذا اللون عزيز يصعب وجوده، ثم شددوا على أنفسهم أيضًا ﴿قَالُواْ ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّن لَّنَا مَا هِيَ إِنَّ البَقَرَ تَشَابَهَ عَلَيْنَا وَإِنَّآ إِن شَاءَ اللَّهُ لَمُهْتَدُونَ﴾ [سورة البقرة/70] فأجابهم موسى عليه السلام بما أخبر الله سبحانه وتعالى: ﴿قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لاَّ ذَلُولٌ تُثِيرُ الأَرْضَ وَلاَ تَسْقِى الْحَرْثَ مُسَلَّمَةٌ لا شِيَةَ فِيهَا قَالُواْ الآنَ جِئْتَ بِالْحَقِّ فَذَبَحُوهَا وَمَا كَادُواْ يَفْعَلُونَ﴾.
وهذه الصفات أضيق مما تقدم حيث أُمروا بذبح بقرة ليست بالذلول وهي المذللة بالحراثة وسقي الأرض بالساقية، مسلّمة وهي الصحيحة التي لا عيب فيها، وقيل ومعنى ﴿لا شية فيها﴾ أي ليس فيها لون يخالف لونها، بل هي مسلمة من العيوب ومن مخالطة سائر الألوان غير لونها، فلما حددها بهذه الصفات ﴿قالوا الآن جئت بالحق﴾ ويقال: إنهم لم يجدوا هذه البقرة بهذه الصفة إلا عند رجل منهم كان بارًّا بأمه فطلبوها منه فأبى عليهم فأرغبوه في ثمنها حتى أعطوه بوزنها ذهبًا فأبى عليهم ولم يقبل حتى أعطوه بوزنها عشر مرات فباعها لهم، فأتوا بها موسى عليه السلام فأمرهم بذبحها ﴿فذبحوها وما كادوا يفعلون﴾ أي وهم يترددون في أمرها، ثم أمرهم موسى عليه السلام أن يضربوا ذلك القتيل ببعض هذه البقرة التي ذبحوها قيل: بلحم فخذها، وقيل بالعظم الذي يلي الغضروف، وقيل بغير ذلك، فلما ضربوا القتيل ببعض هذه البقرة كما أمرهم نبيهم عليه السلام أحياه الله تعالى فسأله نبي الله موسى: من قتلك؟ فقال: قتلني ابن أخي، وعرّفه ثم عاد ميتًا كما كان.
Sunna Files Free Newsletter - اشترك في جريدتنا المجانية
Stay updated with our latest reports, news, designs, and more by subscribing to our newsletter! Delivered straight to your inbox twice a month, our newsletter keeps you in the loop with the most important updates from our website