ما جاء في فضائل داود عليه الصلاة والسلام وشمائله ودلائل نبوته وكثرة عبادته لله تعالى
أعطى الله تبارك وتعالى عبده داوود عليه الصلاة والسلام فضلا كبيرًا وحَبَاه من لَدُنه خيرًا عظيمًا، فقد كان داود عليه الصلاة والسلام حَسنَ الصوت وكان عندما يَصدحُ بصوته الجميل فيسبّحُ الله تعالى ويحمدُهُ تسبحُ معه الجبال والطير يقول الله تعالى:﴿وَلَقَدْ ءاتَيْنَا دَاوُدَ مِنَّا فَضْلاً يَا جِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْرَ وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ﴾ [سورة سبأ/10]، ويقول تعالى: ﴿وَسَخَّرْنَا مَعَ دَاوُدَ الْجِبَالَ يُسَبِّحْنَ وَالطَّيْرَ وَكُنَّا فَاعِلِينَ﴾ [سورة الأنبياء/79] وكان داودُ عليه الصلاة والسلام إذا قرأ الزبور وما فيه من رقائق وأذكار تكف الطيرُ عن الطيران وتقف على الأغصان والأشجار لتسمع صوته النديّ العذب وتسبح بتسبيحه وترجع بترجيعه، وكذلك الجبال تُرددُ معه في العشي والإبكار تجيبُهُ وتسبحُ الله معه كلما سبح بكرة وعشيا وتعكف الجن والإنس والطير والدواب على صوته، يقول الله عز وجل: ﴿إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبَالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالإِشْرَاقِ * وَالطَّيْرَ مَحْشُورَةً كُلٌّ لَّهُ أَوَّابٌ﴾ [سورة ص18-19]، وكان مع ذلك الصوت الرخيم سريعَ القراءة مع التدبر والتخشع فكان صلوات الله وسلامه عليه يأمر أن تسرج دابته فيقرأ الزبور كلَّه قبل أن تسرجَ، روى البخاري في صحيحه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: “خُفف على داود ـ عليه السلام ـ القرءان فكان يأمر بدوابه فتسرج فيقرأ القرءان قبل أن تُسرج دوابه، ولا يأكل إلا من عمل يده”.
والمراد بالقرءان في هذا الحديث الزبور الذي أنزله الله تعالى عليه وأوحاه إليه. ولقد وَرَدَ أن سيدنا محمدًا صلى الله عليه وسلم وقف يومًا يستمع إلى صوت الصحابي الجليل أبي موسى الأشعري وكان يقرأ القرءان بصوته العَذبِ الحنون، فقال عليه الصلاة والسلام: “لقد أعطيت مزمارًا من مزامير ءال داود”، فقال يا رسول الله: أَكنتَ تستمعُ لقراءتي، قال: “نعم”، فقال: لو علمتُ أنك تستمع لحبرته لك تحبيرًا، أي لجملته تجميلا.
تنبيه: معنى مزمار داود صوته الجميل الذي كان يقرأ به التوراة، وليس المزمار المعروف المحرَّم.
وكان نبيُّ الله داود عليه الصلاة والسلام مع هذه العظمة والملك والجاه الذي تفضل الله به عليه كثيرَ العبادة لله سبحانه وتعالى ليلا ونهارا، فقد كان صلوات الله وسلامه عليه يقوم الليل ويصوم في النهار ويقضي جزءًا كبيرا من يومه في عبادة الله عز وجلّ، يقولُ الله تبارك وتعالى: ﴿وَاذْكُرْ عَبْدَنَا دَاوُدَ ذَا الأَيْدِ إِنَّهُ أَوَّابٌ﴾ [سورة ص/17] ومعنى “ذا الأيد” أي ذا القوة في العبادة والعمل الصالح، فكان داودُ عليه السلام ذا قوة عالية في عبادة الله وطاعته وعمل الصالحات إنه أوّاب مطيع لله. وقد ثَبَتَ في الصحيحين أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: “أحبُّ الصلاة إلى الله صلاة داود، وأحبُّ الصيام إلى الله صيام داود، كان ينام نصف الليل ويقوم ثلثه وينام سدسه، وكان يصوم يومًا ويفطر يومًا، ولا يفر إذا لاقى”.
وممّا أنعم الله تبارك وتعالى على داود عليه الصلاة والسلام أن علَّمه منطق الطير وألان له الحديد فكان بين يديه بإذن الله كالعجين، حتى كان يفتله بيده ولا يحتاج إلى نار ولا مِطرقة فكان يصنع منها الدروع ليحصّن بها جنوده من الأعداء ولِدرء خطر الحرب والمعارك.
قال الله تبارك وتعالى: ﴿وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ * أَنِ اعْمَلْ سَابِغَاتٍ وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ﴾ [سورة سبأ 10-11]، ويقول الله تعالى: ﴿وَعَلَّمْنَاهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَّكُمْ لِتُحْصِنَكُم مِّن بَأْسِكُمْ فَهَلْ أَنتُمْ شَاكِرُونَ﴾ [سورة الأنبياء/80]، ومن فضل الله تبارك وتعالى على عبده داود أن قوّى مُلكه وجعله منصورًا على أعدائه مُهابا في قومه قال الله تعالى: ﴿وشددنا مُلكه وءاتيناه الحكمة وفصل الخطاب﴾ [سورة ص/20]، وقيل: معنى الحكمة أي النبوة، وأما فصل الخطاب فقد قيل: هو أصابة القضاء وفهم ذلك، وقيل: هو الفصل في الكلام وفي الحكم، وقيل: هو قوله في الخطاب: أما بعد
قِصةُ الخصمين مع داود عليه السلام ورد الفرية العظيمة على داود في هذه القصة
قال الله تبارك وتعالى: ﴿وَهَلْ أَتَاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرَابَ * إِذْ دَخَلُوا عَلَى دَاوُدَ فَفَزِعَ مِنْهُمْ قَالُوا لا تَخَفْ خَصْمَانِ بَغَى بَعْضُنَا عَلَى بَعْضٍ فَاحْكُم بَيْنَنَا بِالْحَقِّ وَلا تُشْطِطْ وَاهْدِنَا إِلَى سَوَاء الصِّرَاطِ * إِنَّ هَذَا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً وَلِيَ نَعْجَةٌ وَاحِدَةٌ فَقَالَ أَكْفِلْنِيهَا وَعَزَّنِي فِي الْخِطَابِ * قَالَ لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤَالِ نَعْجَتِكَ إِلَى نِعَاجِهِ وَإِنَّ كَثِيرًا مِّنْ الْخُلَطَاء لَيَبْغِي بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ إِلاَّ الَّذِينَ ءامَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَقَلِيلٌ مَّا هُمْ وَظَنَّ دَاوُدُ أَنَّمَا فَتَنَّاهُ فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ رَاكِعًا وَأَنَابَ﴾ [سورة ص 21-24].
ليعلم أن بعض المفسرين أورد في تفسير هذه الآيات في قصة الخصمين مع نبي الله داود عليه السلام قصصًا إسرائيليات لا تليق بنبي الله داود الذي خصه الله تعالى بنبوّته وأكرمه برسالته، لأنَّ الأنبياء جميعهم تجبُ لهم العصمة من الكفر والرذائل وكبائر الذنوب وصغائر الخسة كما تقدم، لذلك لا يجوز الاعتماد على مثل هذه القصص المنسوبة كذبا للأنبياء ولا يجوز اعتقادها لأنها تنافي العصمة الواجبة لهم، لذلك ينبغي الاقتصار في فهم قصة الخصمين مع داود عليه السلام على ظاهر ما أوردها الله تعالى في القرءان، فقد جاء في تفسيرها أن ذينك الخصمين كانا في الحقيقة من البشر من بني ءادم بلا شك وأنهما كانا مشتركين في نعاج من الغنم على الحقيقة، وأنه بغى أحدهما على الآخر وظلمه على ما نصت الآية، وقد تسور هذان الخصمان محراب داود عليه السلام وهو أشرف مكان في داره، وكان داود عليه السلام مستغرقًا في عبادة ربه في ذلك المحراب فلم يشعر داود عليه الصلاة والسلام بالشخصين إلا وهما أمامه فلما قال لهما: من أدخلكما عليّ، طمأناه وقالا له: لا تخف، ثم سألاه أن يحكم في شأنهما وقضيتهما إلى ءاخر القصة التي نصّ الله تعالى عليها في القرءان.
وقد امتحن الله تعالى نبيّهُ داود عليه السلام في هذه الحادثة التي جرت معه مع هذين الخصمين، وأما استغفاره عليه الصلاة والسلام فلأجل الذنب الصغير الذي وقع فيه وهو أنه تعجل بالحكم على الخصم الآخر قبل التثبت في الدعوى، وكان يجبُ عليه لما سمع الدعوى من أحد الخصمين أن يسأل الآخر عما عنده فيها ولا يقضي عليه بالحكم قبل سؤاله، وقد تاب داود عليه السلام من ذلك الذنب الذي ليس فيه خسة ولا دناءة وغفر الله تعالى له هذا الذنب بنص القرءان الكريم قال الله تعالى: ﴿فَغَفَرْنَا لَهُ ذَلِكَ وَإِنَّ لَهُ عِندَنَا لَزُلْفَى وَحُسْنَ مَئابٍ﴾ [سورة ص/25].
ومن القصص المفتراة على نبيّ الله داود عليه السلام زُورا وبهتانا وهي من الاسرائيليات المدسوسة على الأنبياء أن داود عليه الصلاة والسلام كان يومًا في محرابه إذ وقعت عليه حمامة من ذهب، فأراد أن يأخذها فطارت فذهب ليأخذها فرأى امرأة تغتسل فوقع في حبها وعشقها وأعجب بها وأغرم، وكانت زوجة أحد قواده ويُسمى “أُوريا” فأراد أن يتخلص منه ليتزوج بها فأرسله في أحد الحروب وحمّله الرّاية وأمره بالتقدم وكان قد أَوعز إلى جنوده أن يتأخروا عنه إذا تقدم نحو الأعداء حتى قُتل ذلك القائد وبهذه الوسيلة ـ كما تقول هذه القصة المفتراة ـ قتل القائد “أوريا” وتزوج داود عليه السلام زوجته من بعده، ويزيد بعضهم فيقول: إن داود زنى بهذه المرأة قبل تدبير هذه المكيدة ﴿كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ إِن يَقُولُونَ إِلاَّ كَذِبًا﴾ [سورة الكهف/5].
وقد قال العلماء المعتبرون: إن هذه الروايات لا تصح لا من طريق النقل ولا تجوز من حيث المعنى لأن الأنبياء منزهون عن مثل هذه الأمور كلها، وقالوا: لا يُلتفت إلى ما سَطّره بعض المفسرين والقصصيين عن أهل الكتاب الذين بدّلوا وغيّروا ولم يكن اعتقادهم بداود عليه الصلاة والسلام أنه رسول الله بل مَلِك من الملوك، وهذا الذي حكاه بعض المفسرين عن سيدنا “داود” وهو أنه عشق امرأة “أُوْريا” فاحتال حتى قتل زوجها فتزوجها لا يليق بالأنبياء بل لو وُصف به أفسق الملوك لكان مُنكرًا، وفي السورة التي ذكرت فيها هذه القصة من أولها إلى ءاخرها فيها محاجة منكري النبوة، فكيف يلائمها القدح في بعض أكابر الأنبياء بهذا الفسق القبيح، وقد وَصَف الله تبارك وتعالى سيدنا داود في هذه الآية بمحامد كثيرة منها قوله تعالى: ﴿ذا الأيد﴾ أي القوة ولا شك أن المراد منه القوة في الدين والعبادة لأن القوة في غير الدين كانت موجودة في الملوك الكفار وما استحقوا بها مَدحا، والقوة في الدين لا معنى لها إلا في القوة والعزم الشديد على أداء الواجبات واجتناب المحرمات، وما روى بعض المفسرين في تفسيرهم أن الخصمين اللذين اختصما إلى داود عليه السلام كَنيا بالنعاج عن المرأة تنبيهًا إلى قصته على زعمهم مع “أُوريا” فغير صحيح، والصحيح أنهما خصمان في نتاج غنم على ظاهر الآية في القرءان.
وقد تكنى العرب عن النساء بالنعاج، لكن لا يجوز تفسير النعاج في قصة داود عليه السلام مع الخصمين المذكورة في القرءان بالنساء كما فعل هؤلاء المفسرون فقد أساءوا بتفسيرهم هذا لأن ما ذكروه لا يليق بنبيّ الله داود عليه الصلاة والسلام، يقول الحافظ تقي الدين السبكي العالم الجليل: النعجة في الآية هي النعجة الحقيقية، والخصمان من البشر. فافهم ذلك أخي المسلم رحمك الله بتوفيقه.
فائدة: في تفسير قول الله تبارك وتعالى: ﴿يَا دَاوُدُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الأَرْضِ فَاحْكُم بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ﴾ [سورة ص/26].
هذا خطابٌ من الله تبارك وتعالى إلى داود عليه الصلاة والسلام، وفيه وصية من الله عز وجل لولاة الأمور وحكام الناس أن يحكموا بين الناس بالحق والعدل واتباع الحق المنزل من عنده تبارك وتعالى لا ما سواه من الآراء والأهواء، وتوعّد الله سبحانه وتعالى في هذه الآية من سلك غير ذلك وحكم بغير ذلك وضل عن سبيل الله بأنّ لهم العذاب الشديد يوم القيامة، وقد كان نبيُّ الله داود عليه الصلاة والسلام هو المقتدى به في ذلك الزمان في العدل وكثرة العبادة وأنواع القُربات، قال الله تعالى: ﴿اعمَلوا ءالَ داودَ شُكْرا وقليلٌ من عباديَ الشكورُ﴾ [سورة سبإ/13].
من حِكَم نبيّ الله داود عليه الصلاة والسلام
كانَ لنبيّ الله داود عليه الصلاة والسلام حكمٌ عظيمة فيها المعاني العظيمة ومنها:
قال عبد الله بن المبارك في كتاب “الزهد” بالإسناد عن وهب بن منبه قال: “إنّ من حكمة ءال داود: حقّ على العاقل ألا يغفل عن أربع ساعات: ساعة يناجي فيها ربه، وساعة يُحاسبُ فيها نفسه، وساعة يفضي فيها إلى إخوانه الذين يخبرونه بعيوبه ويَصْدُقُونه عن نفسه، وساعة يُخلي بين نفسه وبين لذاتها فيما يحل ويُجمل، فإن هذه الساعة عونٌ على هذه الساعات وإحجام للقلوب” وقال: “حق على العاقل أن يعرف زمانه ويحفظ لسانه ويقبل على شأنه”.
وقد كان نبي الله داود صلى الله عليه وسلم مع ما ءاتاه الله تبارك وتعالى من الملك والنعم الكثيرة يأكل من كسب يده، ويقوم الليل والنهار في طاعة الله سبحانه وتعالى، وقد ثَبَتَ في الحديث: “اَنَّ أطيب ما أكل الرجل من كسبه وأن نبيَّ الله داود كان يأكل من كسب يده”.
وفاة داود عليه الصلاة والسلام
كان نبيّ الله داود عليه السلام فيه غَيرة شديدة فكان إذا خرج أُغلق الأبواب، فلم يدخل على أهله أحد حتى يرجع، فخرج ذات يوم وغلقت الدار فأقبلت امرأته تطلع إلى الدار، فإذا رجل قائم وسط الدار فقالت لِمن في البيت: من أين دخل هذا الرجل والدار مغلقة والله لنفضحن بداود، فلما جاء داود إذا الرجل قائم في وسط الدار فقال له داود: من أنت؟ فقال: أنا الذي لا أهاب الملوك ولا يمنع مني الحجّاب، فقال داود: أنت والله إذن مَلك الموت مرحبًا بأمر الله، ثم مكث حتى قبضت روحه، ولما غسل وكفن وفرغ من شأنه طلعت عليه الشمس وكانت شديدة فقال ابنه سليمان للطير: أظلّي على داود، فأظلته الطير حتى أظلمت عليه الأرض فقال سليمان للطير: اقبضي جناحًا وغلبت على التظليل عليه المضرحية وهي طيور الصقور الطوال الأجنحة، رواه الإمام أحمد في مسنده بإسناد جيد.
وقيل إن عمر داود عليه السلام لما مات كان مائة سنة، وقيل: إن الناس الذين حضروا جنازَة داود عليه السلام جلسُوا في الشمس وكانوا في يوم صائف شديد الحرارة.
Sunna Files Free Newsletter - اشترك في جريدتنا المجانية
Stay updated with our latest reports, news, designs, and more by subscribing to our newsletter! Delivered straight to your inbox twice a month, our newsletter keeps you in the loop with the most important updates from our website