قال الله تبارك وتعالى: ﴿مَّا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ﴾ [سورة المائدة/75]. ذكر عيسى في ثلاث عشرة سورة من القرءان، وفي ثلاث وثلاثين ءاية منه.
نسب سيدنا عيسى ونسب أمه عليهما السلام
هو عبد الله ورسوله عيسى ابن مريم بنت عمران وهو ءاخر أنبياء بني إسرائيل عيشًا في الأرض، قال صلى الله عليه وسلم: “الأنبياء إخوة لعلات دينهم واحد وأمهاتهم شتى وأنا أولى الناس بعيسى ابن مريم ليس بيني وبينه نبي” رواه البخاري، كما أن ءاخر الأنبياء والرسل جميعًا هو محمد صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين.
فسيدنا عيسى عليه الصلاة والسلام عبد من عباد الله خلقه الله تعالى وصوره في الرحم كما صور غيره من البشر، وقد خلقه تعالى من غير أب كما خلق ءادم من غير أب وأم، قال الله عز وجل: ﴿إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِندَ اللَّهِ كَمَثَلِ ءادَمَ خَلَقَهُ مِن تُرَابٍ ثِمَّ قَالَ لَهُ كُن فَيَكُونُ﴾ [سورة ءال عمران/59].
وأُمّ نبي الله عيسى عليه السلام هي مريم بنت عمران من سلالة نبي الله داود عليه السلام، الصدّيقة الولية البتول العذراء الطاهرة التي تربّت في بيت الفضيلة وعاشت عيشة الطهر والنزاهة والتقوى، وقد أثنى الله تبارك وتعالى عليها في القرءان الكريم في مواطن عديدة، قال الله تعالى: ﴿وَمَرْيَمَ ابْنَت عِمْرَانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهِ مِن رُّوحِنَا وَصَدَّقَتْ بِكَلِمَاتِ رَبِّهَا وَكُتُبِهِ وَكَانَتْ مِنَ الْقَانِتِينَ﴾ (1) [سورة التحريم/12].
وقد كان والد مريم عليها السلام عمران رجلا صالحًا عظيمًا وعالما جليلا من علماء بني إسرائيل، وكانت زوجته عاقرًا لا تلد واسمها “حنة” وهي من العابدات، وكان زكريا نبي الله زوج أخت مريم في قول الجمهور وقيل زوج خالتها. وقد نذرت حنة لله إن حملت لتجعلنّ ولدها محررًا لله أي خالصًا لخدمة بيت المقدس، فاستجاب الله عز وجل دعاءها فحملت بمريم عليها السلام، فلما وضعت حملها كان الولد أنثى وكانت ترجو أن يكون الولد ذكرًا ليخدم في بيت الله عندئذ توجهت بالدعاء إلى الله تعالى، قال الله تعالى: ﴿فَلَمَّا وَضَعَتْهَا قَالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنثَى وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالأُنثَى وَإِنِّي سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ وِإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ﴾ [سورة ءال عمران/36]. وقد استجاب الله تعالى لها قال تعالى: ﴿فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنبَتَهَا نَبَاتًا حَسَنًا﴾ [سورة ءال عمران/37].
——————
نشأة مريم عليها السلام وتبشير الملائكة لها
نشأت الصدّيقة الولية مريم عليها السلام نشأة طُهر وعفاف وتربت على التقوى تؤدي الواجبات وتكثر من نوافل الطاعات، وعاشت في جوار بيت المقدس، وقد وصفها الله تعالى في القرءان الكريم بالصدّيقة، وكانت الملائكة تأتي إلى مريم عليها السلام وتزورها، إلى أن جاءت إليها في وقت وبشرتها باصطفاء الله تعالى لها من بين سائر النساء وبتطهيرها من الأدناس والرذائل، وبشرتها كذلك بمولود كريم يكون له شأن عظيم في الدنيا والآخرة ويكلم الناس صغيرًا في المهد ويكون كهلا ومن الصالحين، يقول الله تعالى في القرءان الكريم: ﴿وَإِذْ قَالَتِ الْمَلاَئِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفَاكِ عَلَى نِسَآء الْعَالَمِينَ * يَا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ﴾ [سورة ءال عمران/42-43].
ويقول الله تعالى إخبارًا عن تبشير الملائكة لمريم عليها السلام بعيسى صلى الله عليه وسلم: ﴿إِذْ قَالَتِ الْمَلآئِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِّنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ وَجِيهًا فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ * وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلاً وَمِنَ الصَّالِحِينَ﴾ [سورة ءال عمران 45-46].
فائدة: روى البخاري ومسلم والترمذي والنسائي وأحمد بالإسناد عن علي بن ابي طالب رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “خير نسائها مريم بنت عمران، وخير نسائها خديجة بنت خويلد”، وروى احمد وغيره عن رسول الله صلى الله عليه وسلم انه قال: “حسبك من نساء العالمين بأربع: مريم بنت عمران، وءاسية امرأة فرعون، وخديجة بنت خويلد، وفاطمة بنت محمد”.
ذكر ولادة نبي الله عيسى ابن مريم عبد الله ورسوله وبيان حال أمه مريم العذراء البتول حين ولادته
قال الله تبارك وتعالى: ﴿وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مَرْيَمَ إِذِ انتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِهَا مَكَانًا شَرْقِيًّا * فَاتَّخَذَتْ مِن دُونِهِمْ حِجَابًا فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَرًا سَوِيًّا * قَالَتْ إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمَن مِنكَ إِن كُنتَ تَقِيًّا * قَالَ إِنَّمَا أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لأَهَبَ لَكِ غُلامًا زَكِيًّا * قَالَتْ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَلَمْ أَكُ بَغِيًّا * قَالَ كَذَلِكِ قَالَ رَبُّكِ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَلِنَجْعَلَهُ ءايَةً لِلنَّاسِ وَرَحْمَةً مِّنَّا وَكَانَ أَمْرًا مَّقْضِيًّا * فَحَمَلَتْهُ فَانتَبَذَتْ بِهِ مَكَانًا قَصِيًّا * فَأَجَاءهَا الْمَخَاضُ إِلَى جِذْعِ النَّخْلَةِ قَالَتْ يَا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَذَا وَكُنتُ نَسْيًا مَّنسِيًّا * فَنَادَاهَا مِن تَحْتِهَا أَلاَّ تَحْزَنِي قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا * وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَبًا جَنِيًّا * فَكُلِي وَاشْرَبِي وَقَرِّي عَيْنًا فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَدًا فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْمًا فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنسِيًّا * فَأَتَتْ بِهِ قَوْمَهَا تَحْمِلُهُ قَالُوا يَا مَرْيَمُ لَقَدْ جِئْتِ شَيْئًا فَرِيًّا * يَا أُخْتَ هَارُونَ مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا * فَأَشَارَتْ إِلَيْهِ قَالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَن كَانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا * قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ ءاتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا * وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنتُ وَأَوْصَانِي بِالصَّلاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا * وَبَرًّا بِوَالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّارًا شَقِيًّا * وَالسَّلامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدتُّ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا * ذَلِكَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ قَوْلَ الْحَقِّ الَّذِي فِيهِ يَمْتَرُونَ * مَا كَانَ لِلَّهِ أَن يَتَّخِذَ مِن وَلَدٍ سُبْحَانَهُ إِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُن فَيَكُونُ * وَإِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُّسْتَقِيمٌ * فَاخْتَلَفَ الأَحْزَابُ مِن بَيْنِهِمْ فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ كَفَرُوا مِن مَّشْهَدِ يَوْمٍ عَظِيمٍ﴾ [سورة مريم 16-37].
تقدم أن مريم كانت تعبد الله وتقوم بخدمة المسجد، وكانت تخرج منه في زمن حيضها أو لحاجة ضرورية لا بد منها، وفي ذات يوم خرجت من محرابها الذي كانت تعبد الله تعالى فيه وسارت جهة شرقي بيت المقدس وأمر الله تعالى الروح الأمين وهو جبريل عليه السلام أن يذهب إليها ليبشرها بعيسى عليه السلام وهناك تمثل لها جبريل في صورة شاب جميل أبيض الوجه فلما رأته مريم عليها السلام لم تعرف أنه جبريل ففزعت منه واضطربت وخافت على نفسها منه وارتابت في أمره حيث ظهر لها فجأة في ذلك المكان، وصارت تبتعد منه ثم قالت ما أخبر الله به ﴿قَالَتْ إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمَن مِنكَ إِن كُنتَ تَقِيًّا﴾ أي إن كنت تقيًّا مطيعًا فلا تتعرض لي بسوء، لكن جبريل عليه السلام سرعان ما أزال عنها اضطرابها وهدّأ من روعها وقال لها: ﴿إِنَّمَا أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لأَهَبَ لَكِ غُلامًا زَكِيًّا﴾ أي أني لست ببشر ولكني ملَك أرسلني الله تعالى إليك لأهب لك غلامًا يكون طاهرًا نقيّا قالت: ﴿قَالَتْ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَلَمْ أَكُ بَغِيًّا﴾ أي ليس لي زوج ولست بزانية فقد تعجبت مريم عليها السلام عندما بشرها جبريل بالغلام لأنها بكر غير متزوجة وليست زانية ﴿قَالَ كَذَلِكِ قَالَ رَبُّكِ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَلِنَجْعَلَهُ ءايَةً لِلنَّاسِ وَرَحْمَةً مِّنَّا وَكَانَ أَمْرًا مَّقْضِيًّا﴾ فأجابها جبريل عن تعجبها بأنّ خلق ولد من غير أب سهل هيّن على الله تعالى، وليجعله علامة للناس ودليلا على كمال قدرته سبحانه وتعالى وليجعله رحمة ونعمة لمن اتبعه وصدقه وءامن به.
وأمر الله تبارك وتعالى جبريل عليه السلام أن ينفخ في مريم البتول روح عيسى المشرفة عنده فنفخ أمين الوحي جبريل روح عيسى في أعلى جيب قميص مريم عليها السلام فوصلت بنفخته الروح من فم مريم إلى رحمها عليها السلام بقدرة الله وحملت بتلك النفخة بالسيد المسيح عليه السلام قال تعالى: ﴿وَالَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهَا مِن رُّوحِنَا وَجَعَلْنَاهَا وَابْنَهَا ءايَةً لِّلْعَالَمِينَ﴾ [سورة الأنبياء/91]، ويقال إن عمر مريم عليها السلام حين حملت بعيسى المسيح عليه السلام كان ثلاث عشرة سنة، وقد اختلف العلماء في مدة الحمل فقيل: تسع ساعات وقيل: ثمانية أشهر، وقيل: تسعة أشهر، والله أعلم.
اتهام مريم وولادتها السيد المسيح عليه الصلاة والسلام
لما حملت السيدة مريم عليها السلام بعيسى وظهرت عليها ءاثار الحمل كان أول من فطن لذلك زكريا عليه السلام وقيل ابن خالها يوسف بن يعقوب النجار وكان من عباد الله الصالحين، فجعل يتعجب من ذلك لما يعلم من تدينها ونزاهتها فقال لها مرة يعرض لها في حملها: يا مريمُ هل يكون زرعٌ من غير بذر؟ فقالت له: نَعم فمن خلق الزرع الأول؟ ثم قال لها: فهل يكون ولد من غير ذكر؟ قالت: نعم إن الله خلق ءادم من غير ذكر وأنثى، عندئذ قال لها: فأخبريني خبرك، فأخبرته حقيقة أمرها وقالت له: إن الله تعالى بشرني بكلمة منه اسمه المسيح عيسى ابن مريم وجيهًا في الدنيا والآخرة ومن المقربين ويكلم الناس في المهد وكهلا ومن الصالحين.
شاع الخبر في بني إسرائيل أن مريم حامل فأساء بها الظن كثير منهم واتهمها البعض بيوسف النجار الذي كان يتعبدُ معها في المسجد، واتهمها ءاخرون بنبي الله زكريا عليه السلام، وحزنت مريم عليها السلام حزنًا شديدًا واعتراها كرب عظيم وتوارت عن أعينهم واعتزلتهم وانتبذت بحملها مكانًا بعيدًا فرارًا من قومها أن يعيروها بولادتها من غير زوج، وذلك أنها علمت أن الناس يتهمونها ولا يصدقونها إذا أتتهم بمولودها الصغير مع أنها كانت عندهم من العابدات الناسكات المجاورات في المسجد في عبادة الله سبحانه.
لما أتمت مريم عليها السلام أيام حملها وهي في بيت لحم اشتد بها المخاض ثم ألجأها وجع الولادة إلى جذع نخلة يابسة وقيل كانت نخلة مثمرة، فاحتضنت ذلك الجذع وولدت مولودها عيسى عليه السلام، وناداها جبريل عليه السلام من مكان من تحتها من أسفل الجبل يطمئنها ويخبرها أن الله تبارك وتعالى جعل تحتها نهرًا صغيرًا ويطلب منها أن تهزّ جذع النخلة ليتساقط عليها الرطب الجني الطري وأن تأكل وتشرب مما رزقها الله تعالى وأن تقر عينها بذلك وأن لا تكلم إنسًا فإن رأت أحدًا من الناس تقول له بالإشارة أنها نذرت للرحمبن صومًا أي صمتا، وكان من صومهم في شريعتهم ترك الكلام والطعام، فهزت مريم عليها السلام جذع النخلة فتساقط عليها الرطب الجني الناضج فأكلت عليها السلام منه وشربت من ذلك النهر الذي أجراه الله تبارك وتعالى بقدرته لها في مكان كان لا يوجد فيه نهر، وكل ذلك إكراما من الله سبحانه وتعالى لمريم على إيمانها وصلاحها وعنايةً بوليدها السيد المسيح عيسى عليه الصلاة والسلام.
أتت السيدة مريم عليها السلام قومها تحمل مولودها عيسى عليه السلام على يدها في بيت لحم فلما رءاها قومها قالوا لها: لقد فعلت فعلة منكرة عظيمة، فإن أباك لم يكن رجل سوء ولم تكن أمك زانية، وظنوا بها السوء وصاروا يوبخوها ويؤنبوها وهي ساكتة لا تجيب لأنها أخبرتهم أنها نذرت للرحمن صوما، ولما ضاق بها الحال أشارت إلى عيسى عليه السلام أن كلموه فعنده جواب ما تبغون، عندها قالوا لها متعجبين: ما أخبر الله به بقوله ﴿كَيْفَ نُكَلِّمُ مَن كَانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا﴾ وما هذا منك إلا على سبيل التهكم بنا والازدراء إذ لا تردين علينا بكلام، عند ذلك أنطق الله تبارك وتعالى بقدرته الرضيع “عيسى” عليه السلام وكان عمره أربعين يومًا ﴿قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ﴾ وهذا اعتراف منه عليه السلام بالعبودية لله تبارك وتعالى وهذه أول كلمة نطق بها عيسى وهو في المهد ﴿ءاتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا﴾ وهذا إخبار عما قضى الله تعالى له وحكم له به ومنحه إياه مما سيظهر ويكون، وفي ذلك تبرئة لأمه مما نسبوا إليها واتهموها به، فإن الله تعالى لا يعطي النبوة لمن هو كما زعموا، ثم قال لهم عيسى عليه السلام ما أخبر الله تعالى به: ﴿وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنتُ﴾ أي نفاعًا حيثما توجهتُ معلمًا للخير، وذلك أن عيسى عليه السلام كان يدعو حيث كان إلى عبادة الله تعالى وحده وأن لا يُعبَدَ شىء غيره. قال تعالى إخبارًا وحكاية عن عيسى: ﴿وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنتُ وَأَوْصَانِي بِالصَّلاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا * وَبَرًّا بِوَالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّارًا شَقِيًّا﴾ وهذا أيضًا إخبار عما قضى الله له ومنحه إياه ممّا سيظهر ويكون، فكان نبي الله عيسى عليه السلام يصلي لله تعالى كما أمره، ويحسنُ إلى عباد الله بالزكاة وبذل الأموال والعطايا للمحتاجين والفقراء، ولم يكن عليه السلام فظّا ولا غليظًا، قال تعالى إخبارًا عن عيسى عليه السلام وما أنطقه به في المهد: ﴿وَالسَّلامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدتُّ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا﴾ فلما كانت هذه المواطن الثلاثة أشقُّ ما يكون على ابن ءادم جعل الله تعالى السلامة على نبيه عيسى عليه السلام في هذه المواطن الثلاثة يوم ولادته وعندما يموت وعند البعث يوم القيامة.
فائدة: بعد أن تكلم عيسى عليه السلام وهو في المهد واعترف بالعبودية لله تعالى ودفع التهمة الباطلة عن أمه مريم إلى ءاخر كلامه وهو في المهد، أمسك بعد ذلك عن الكلام حتى بلغ المبلغ المعتاد في نطق الصبيان فأنطقه الله تعالى بالحكمة وحسن البيان.
اختلاف الناس في أمر عيسى ابن مريم عليهما السلام وبيان أن عيسى هو عبد الله ورسوله
قال تعالى: ﴿ذَلِكَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ قَوْلَ الْحَقِّ الَّذِي فِيهِ يَمْتَرُونَ (34) مَا كَانَ لِلَّهِ أَن يَتَّخِذَ مِن وَلَدٍ سُبْحَانَهُ إِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُن فَيَكُونُ﴾ [سورة مريم 34-35].
أي أن عيسى عليه السلام هو عبد من عباد الله مخلوق من امرأة وهي أمه مريم، والله تعالى لا يعجزه شىء ولا يؤوده ويتعبه شىء، بل هو يوجد ما أراد وجوده بسرعة أي من غير تأخر عن الوقت الذي أراد وجوده فيه من غير أن يلحقه تعب ولا مشقة، وقال الله تبارك وتعالى: ﴿فَاخْتَلَفَ الأَحْزَابُ مِن بَيْنِهِمْ فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ كَفَرُوا مِن مَّشْهَدِ يَوْمٍ عَظِيمٍ﴾ [سورة مريم/37] أي فاختلف أهل ذلك الزمان ومن بعدهم في أمر عيسى عليه السلام فمن قائل من اليهود إنه ابن امرأة زانية واستمروا على كفرهم وعنادهم قال تعالى: ﴿وَبِكُفْرِهِمْ وَقَوْلِهِمْ عَلَى مَرْيَمَ بُهْتَانًا عَظِيمًا﴾ [سورة النساء/156]، وقابلهم ءاخرون في الكفر فقالوا: هو الله، وقال ءاخرون: هو ابن الله، وقال ءاخرون: الله ثالث ثلاثة.
وقال المؤمنون: هو عبد الله ورسوله وابن أمته وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه، وهؤلاء هم النّاجون المنصورون، وقد توعد الله تعالى الكافرين بالعذاب يوم القيامة قال الله تبارك وتعالى: ﴿فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ كَفَرُوا مِن مَّشْهَدِ يَوْمٍ عَظِيمٍ﴾ وقد قال الرسول صلى الله عليه وسلم: “من شهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأنَّ محمدًا عبده ورسوله، وأن عيسى عبد الله ورسوله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه والجنة حق والنار حق أدخله الله الجنة على ما كان من العمل” رواه البخاري.
ومعنى “وروح منه” أن المسيح روحٌ صادرة من الله تعالى خلقًا وتكوينا وليس المعنى أن المسيح جزءٌ من الله تعالى، فالله سبحانه وتعالى ليس أصلا لغيره ولا هو فرعٌ عن غيره وليس روحًا ولا جسدًا ﴿لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ * وَلَمْ يَكُن لَّهُ كُفُوًا أَحَدٌ﴾ [سورة الإخلاص 3-4]، ودليلُ ما ذكرناه قوله تعالى: ﴿وَسَخَّرَ لَكُم مَّا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا مِّنْهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لَّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ﴾ [سورة الجاثية/13] أي أن جميع ما في السموات وما في الأرض من الله تعالى خَلقًا وتكوينًا وليس المعنى أنها أجزاءٌ منه تعالى.
وقد قال تعالى بعد ذكر قصة عيسى عليه السلام وما كان من أمره في سورة ءال عمران: ﴿ذَلِكَ نَتْلُوهُ عَلَيْكَ مِنَ الآيَاتِ وَالذِّكْرِ الْحَكِيمِ * إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِندَ اللَّهِ كَمَثَلِ ءادَمَ خَلَقَهُ مِن تُرَابٍ ثِمَّ قَالَ لَهُ كُن فَيَكُونُ * الْحَقُّ مِن رَّبِّكَ فَلاَ تَكُن مِّن الْمُمْتَرِينَ﴾ [سورة ءال عمران 58-60]، وقال تعالى: ﴿إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْقَصَصُ الْحَقُّ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلاَّ اللَّهُ وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ * فَإِن تَوَلَّوْاْ فَإِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِالْمُفْسِدِينَ﴾ [سورة ءال عمران 62-63].
ظهور العجائب على عيسى عليه السلام في صباه وبدء نزول الوحي عليه
لما وُلد عيسى ابن مريم عليه السلام ظهرت أمور عجيبة تعظيمًا لشأن هذا المولود ولما سيكون من أمره في المستقبل من جعله رسولا يدعو الناس إلى عبادة الله تعالى وحده وإلى الشرع القويم الذي أنزل عليه.
فقد روي أنه لما ولد السيد الجليل عيسى ابن مريم عليه السلام أصبحت الأصنام التي كانت تعبد من دون الله في زمان ولادته بكل أرض مقلوبة منكوسة على رءوسها ففزعت الشياطين وراعها فلم يدروا ما سبب ذلك، فساروا عند ذلك مسرعين حتى جاءوا إبليس اللعين فأخبروه بذلك، فطار إبليس فمر بالمكان الذي ولد فيه عيسى عليه السلام، فلما رأى الملائكة محدقين بذلك المكان علم أن ذلك الحدث بسبب ولادة ذلك المولود، فأراد إبليس اللعين أن يأتيه فلم تمكنه الملائكة من الدنو منه.
ولما بلغ ذلك المولود الرضيع من العمر ثمانية أيام حملته أمه إلى الهيكل فختن، لأن الختان من الفطرة وهو من سُنن الأنبياء من عهد نبيّ الله إبراهيم عليه السلام، وسمَّت مريم عليها السلام مولودها “عيسى” كما أمرها جبريل عليه السلام حين بشّرها به بأمر من الله تبارك وتعالى.
كان عيسى ابن مريم عليهما السلام يظهر عليه العجائب بقدرة الله تعالى، فلما ترعرع عليه السلام وفشا أمره بين اليهود أرادوا به سوءًا وأغروا ملك الروم “هيرودس” بقتله، فلما علمت أمه مريم عليها السلام بمؤامرة اليهود خافت عليه وانطلقت به إلى مصر وهي الربوة التي ذكرها الله تعالى في القرءان بقوله: ﴿وَجَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ ءايَةً وَءاوَيْنَاهُمَآ إِلَى رَبْوَةٍ ذَاتِ قَرَارٍ وَمَعِينٍ﴾ [سورة المؤمنون/50] أخبر الله تعالى في هذه الآية أنه جعل عبده ورسوله عيسى المسيح عليه السلام وأمه مريم ءاية للناس أي علامة وحجة قاطعة على قدرته تعالى على ما يشاء، وكذلك أخبر تعالى في هذه الآية بأنه ءاوى عبده عيسى وأمه مريم عليهما السلام إلى ربوة من الأرض ذات قرار ومعين يجري فيها الماء، وهي على أحد الأقوال بلاد مصر التي قصدتها مريم عليها السلام حاملة مولودها عيسى المسيح عليه السلام، فترعرع هناك ونشأ وعاش بين ربوعها اثنتي عشرة سنة، وقيل: إنه لما بلغ سبع سنين أسلمته أمه إلى “الكُتَّاب” فجعل لا يعلّمه المعلم شيئًا إلا بدره إليه.
يقال إنه بعد موت ملك الروم “هيرودس” أمر الله تعالى عبده عيسى عليه السلام أن يرجع من بلاد مصر إلى بيت المقدس في فلسطين، وقدم عليه ابن خالة أمه يوسف النجار فحمله وأمه على حمار حتى جاء بهما إلى بيت المقدس، وقيل: نزل هو وأمه بقرية يقال لها “ناصرة” وبها سُميت “النصارى”. ولَمّا بلغ عيسى عليه السلام الثلاثين من العمر أوحى الله تعالى إليه أن يبرزَ للناس ويدعوهم إلى عبادة الله تعالى، فصار عليه السلام يدعو الناس إلى ذلك ويقول لهم: أيها الناس اعبدوا الله وحده ولا تشركوا به شيئًا وءامنوا بأني رسول الله إليكم، فآمن به اثنا عشر شخصًا يُسمَّون “الحواريين” فأخذ عيسى عليه السلام يُوزعهم في نواحي الأرض يدعون إلى عبادة الله تعالى وحده ونشر دين الإسلام الذي هو دين جميع الأنبياء والملائكة، وقد أيده الله تعالى بالمعجزات الباهرات فكان عليه السلام يشفي المرضى والزّمنى والأكمه والأبرص وغيرهم من المرضى حتى أحبه الناس وكثر أتباعه وعلا ذكره وشأنه بين الناس، وكان عليه السلام يقضي أيامه في التجوال والسياحة في الأرض لدعوة الناس إلى دين الإسلام.
Sunna Files Free Newsletter - اشترك في جريدتنا المجانية
Stay updated with our latest reports, news, designs, and more by subscribing to our newsletter! Delivered straight to your inbox twice a month, our newsletter keeps you in the loop with the most important updates from our website