يحكى أن الناصر لدين الله كان مخدوماً من الجن، يعلم ما في بطن الحامل، وما وراء الجدران، وقد تمكّن ذلك الخليفة العباسي من إعادة إحياء هيبة الخلافة، حتى خُطِب له في الصين والأندلس، وبايعه كل سلاطين المسلمين، بمن فيهم صلاح الدين الأيوبي.
الناصر لدين الله.. الرجل الذي أعاد الهيبة لدولة الخلافة
مرت الدولة العباسية بالعديد من المطبات؛ ففي بادئ الأمر كان الصراع على السلطة مقتصراً على العرب والفرس، مع ذلك كان للخليفة العباسي هيبة وكلمة مسموعة، لكن بعد أن أدخل المعتصم الأتراك إلى الدولة تعاظمت قوتهم، حتى باتوا ينصبون ويخلعون الخلفاء على هواهم، وأتى على الناس زمن حكم فيه الباطنيون البلاد والعباد، فظهر القرامطة الذين لم يكن للخليفة في عهدهم وزن.
وفي ظل الصراعات الداخلية على السلطة، توقفت الفتوحات الإسلامية، بل وتقلّصت رقعة دولة الخلافة التي لم تستعد هيبتها حتى تولاها الناصر لدين الله بن المستضيء.
اعتلى الناصر عرش بغداد عام 1180، وكان أول أهدافه القضاء على قوة السلاجقة، فهاجمهم وتمكّن من الاستيلاء على عدد من المناطق التي كانوا يسيطرون عليها، ومد سيادته على بلاد ما بين النهرين وبلاد فارس.
كذلك، دان له بالولاء العديد من الملوك والحكام، وقال فيه ابن النجار: “دانت السلاطين للناصر، ودخل في طاعته من كان من المخالفين، وذللت له العتاة والطغاة، وانقهرت بسيفه الجبابرة، واندحض أعداؤه، وكثر أنصاره، وفتح البلاد العديدة، وملك من الممالك ما لم يملكه أحد ممن تقدمه من الخلفاء والملوك، وخُطب له ببلاد الأندلس وبلاد الصين”.
أما ابن الذهبي فقال فيه: ” قمع الأعداء، واستظهر على الملوك، ولم يجد ضيماً، ولا خرج عليه خارجي إلا قمعه، ولا مخالف إلا دفعه، وكل من أضمر له سوءاً رماه الله بالخذلان”.
Sunna Files Free Newsletter - اشترك في جريدتنا المجانية
Stay updated with our latest reports, news, designs, and more by subscribing to our newsletter! Delivered straight to your inbox twice a month, our newsletter keeps you in the loop with the most important updates from our website
مخدوم من الجن أم الإنس؟
وقد تمكّن الناصر من توسيع رقعة بلاده، وحصد ولاءات معاصريه من الملوك؛ بسبب براعته في إدارة شؤونه الداخلية في المقام الأول، فقد وصلت البلاد في عهده إلى حد من الاستقرار بات من الممكن معه التوسع والاهتمام بالشؤون الخارجية.
فقد أدرك الناصر، على سبيل المثال، استغلال العديدين للتعصب المذهبي ليكون سلماً يصلون من خلاله إلى المال والمناصب، فقضى بحزم على كل من تسوّل له نفسه استغلال المذاهب المختلفة لإقامة التحالفات وتعزيز التفرقة في الدولة العباسية، وآلف بين العلويين والحنابلة والشافعية.
كذلك استحدث الناصر نظام الفتوة والتجنيد، وأدخل الكثير من شباب بغداد الجيش، واهتم بزيادة تحصين المدينة، فبنى حولها الأسوار.
من جهة أخرى، حرص الناصر لدين الله على ألا تخفى عليه كبيرة ولا صغيرة في الدولة، وكانت تلك طريقته لحماية نفسه من المكائد.
وقال عنه المؤرخ ابن واصل: ” كان الناصر شهمًا، شجاعًا، ذا فكرة صائبة، وعقل رصين، ومكر ودهاء، وله أصحاب أخبار في العراق وسائر الأطراف، يطالعونه بجزئيات الأمور”.
وقد انتشرت أخبار معرفة الناصر لجميع أسرار الدولة وخفايا العباد؛ حتى قيل: إنه كان مخدوماً من الجن، وإنه يعلم ما في بطن الحامل، وما وراء الجدار!
وقد بلغ من مكره ودهائه أنه كان يستطيع ببساطة إيقاع المودة بين ملوك متعادين وهم لا يشعرون، وإيقاع العداوة بين ملوك متفقين وهم لا يفطنون.
إذا أطعم أشبع، وإذا ضرب أوجع
وفي حين أجمع المؤرخون حول حزم الناصر ومكره ودهائه وقدرته على استرداد هيبة الدولة؛ إلا أنهم اختلفوا حول معاملته لرعيته.
فقد قال عنه ابن واصل: إنه كان “رديء السيرة في الرعية”، على الرغم من عقله الرصين، وأردف: “كان مائلاً للظلم والعسف، ففارق أهل البلاد بلادهم، وأخذ أموالهم وأملاكهم. وكان الناصر إذا أطعم أشبع، وإذا ضرب أوجع، وله مواطن يعطي فيها عطاء من لا يخاف الفقر”.
وأكد على ذلك الإمام جلال الدين السيوطي، فروى في كتابه “تاريخ الخلفاء” أن الناصر كان سيئ السيرة بين الناس، وكان يقوم بأفعال متضادة.
لكن في المقابل، روى الرحالة ابن جبير الأندلسي أنه صادف الخليفة في أسواق بغداد بينما كان متنكراً يتفقد أحوال رعيته، وعلى عكس ما روى ابن واصل، مدح ابن جبير الناصر بقوله: ” يحب الظهور للعامّة، ويؤثر التحبّب لهم، وهو ميمون النقيبة عندهم، قد استسعدوا بأيامه رخاءً وعدلاً وطيب عيش؛ فالكبير والصغير منهم داعٍ له”.
ناصَرَ صلاح الدين، وماتت هيبة الخلافة بموته
كان الخليفة الناصر من المؤيدين لصلاح الدين الأيوبي في حروبه مع الصليبيين، وقد أمر الملوك في الأقطار الإسلامية بمعونته بجيوشهم.
وعندما فُتحت القدس لصلاح الدين، أرسل له الناصر بلوح منقوش كتبت عليه الآية الكريمة: “وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ”.
وكان التنسيق العسكري بين الناصر والأيوبي قوياً على الدوام، وقد شهد الأعيان الثقاة بأنّ صلاح الدين مات وهو على الطاعة للناصر والخلافة العباسية.
لم يكن الأيوبي السلطان الوحيد الذي والى الناصر، فقد عاش ذلك الخليفة العباسي طوال 47 عاماً أطاعه فيها جميع الملوك والحكام المسلمين، وملأ القلوب هيبة وخيفة؛ فكان يرهبه أهل الهند ومصر كما يرهبه أهل بغداد، فأحيا هيبة الخلافة التي ماتت بموته عام 1225.