هناك صفات يشترك فيها كل البشر، عربهم وعجمهم، وتعتبر من أهم سماتهم، وإن كانت فيهم بدرجات متفاوتة، فتكثر في البعض وتقل في آخرين.
ومن تلك الصفات “المَلل”، الذي يُفقد الإنسان لذةَ ما يكون فيه من نعمة؛ فإن النفوس إذا طال إلفها لشيء ملّته، وتطلّعت إلى غيره، وبحثت عن التجديد.
قال الإمام الرازي: “الإنسان مجبول على النسيان وعلى الملالة، فإذا وجد نعمة نسيها في الحال، وظلمها بترك شكرها، وإن لم يَنسها فإنه في الحال يملّها فيقع في كفران النعمة”.
فالإنسان يبحث عمَّا فقده وإن لم يعلم حاله معه من السعادة أو الشقاء إن وجده، ويمل ما أقام عليه وإن كان فيه صلاح حاله.
قال الجاحظ: “من شأن الناس ملالة الكثير، واستثقال الطويل، وإن كثرت محاسنه وجمَّت فوائده”.
بل إن الإنسان قد يزهد ويملّ صاحبَه الذي لم يجد منه إلا كلَّ خير، ويروح يتقرب من المتجافي عنه، لذا قيل: “إن شر الأخلاق ملالة الصاحب، وتقريب المتباعد”.
فالثبات على أمر واحد دون تغيير يُورث الملالة، حتى إن الله تعالى نوَّع في العبادة ما بين صلاة وصوم وزكاة وحج… إلخ، فالصلاة التي تتكرر يوميّاً نوَّع فيها؛ حتى لا يملها العباد، فالفجر ركعتان، والمغرب ثلاث ركعات، يتخللان صلوات رباعية، فيندفع الملل عن العابد.
لذا كانت القاعدة الثابتة أن “المواظبة على نمط واحد تورث الملل”.
Sunna Files Free Newsletter - اشترك في جريدتنا المجانية
Stay updated with our latest reports, news, designs, and more by subscribing to our newsletter! Delivered straight to your inbox twice a month, our newsletter keeps you in the loop with the most important updates from our website
وقد كان العقلاء يحذِّرون من الوقوع في إملال الناس، فيفقدون روح ما يقومون به من عبادة، وقد يصل بهم الأمر إلى كراهية ما هم فيه من حال، وقد كان الفاروق عمر “يَقُولُ عَلَى الْمِنْبَرِ: أَيُّهَا النَّاسُ، لَا تُبَغِّضُوا اللَّهَ إلَى عِبَادِهِ!
فَقِيلَ: كَيْفَ ذَاكَ -أَصْلَحَكَ اللَّهُ؟!
قَالَ: يَجْلِسُ أَحَدُكُمْ قَاصّاً فَيُطَوِّلُ عَلَى النَّاسِ حَتَّى يُبَغِّضَ إلَيْهِمْ مَا هُمْ فِيهِ، وَيَقُومُ أَحَدُكُمْ إمَاماً فَيُطَوِّلُ عَلَى النَّاسِ حَتَّى يُبَغِّضَ إلَيْهِمْ مَا هُمْ فِيهِ.
وَقَالَتْ عَائِشَةُ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا- لِعُبَيْدِ بْنِ عُمَيْرٍ: إيَّاكَ وَإِمْلَالَ النَّاسِ”.
وما ينطبق على الأفراد ينطبق على المجتمعات والشعوب في الملالة.
وسنركز هنا على الملالة المتبادلة بين الشعوب ورؤسائهم وأمرائهم وقادتهم.
إن طول مكث الرؤساء في الحكم يُوقع الملالة بينهم وبين الشعوب، وقد أوضح لنا ذلك خلفاء وأمراء عظام، نراهم من بناة الدول والإمبراطوريات العظيمة، ولم يشفع لهم ذلك في عدم ملالة الناس منهم، ورغبتهم في تغييرهم.
وقد لاحظ أمير المؤمنين عمر أن نفراً من قريش يصنعون جيوباً داخلية تتسبب في صناعة الأزمات ونشر التفرقة، وقد واجه هؤلاء النفر قائلاً: “بلغني أنكم تتخذون مجالس، لا يجلس اثنان معاً حتى يقال: مِن صحابة فلان! مِن جلساء فلان! حتى تُحُوميت المجالس.
وايم الله، إن هذا لسريع في دينكم، سريع في شرفكم، سريع في ذات بينكم.
ولكأني بمن يأتي بعدكم يقول: هذا رأي فلان، قد قسَّموا الإسلام أقساماً.
أفيضوا مجالسكم بينكم، وتجالسوا معاً؛ فإنه أدوم لألفتكم، وأهيب لكم في الناس.
اللهم ملوني ومللتهم، وأحسست من نفسي وأحسوا مني، ولا أدري بأينا يكون الكون، وقد أعلم أن لهم قبيلاً منهم، فاقبضني إليك”.
فإنه نصحهم بالانخراط مع الناس، وترك تلك المجالس الخاصة، وأن يُحسب أناس على أشخاص بعينهم.
لكنه رغم حَزمه وعدله وفتوحاته واجتهاداته فإن الملالة دبت في النفوس، وإن كانت مدة خلافته ليست طويلة جدّاً، بل لم تزِد على عشر سنين إلا أشهراً.
فطلب من ربه أن يقبضه قبل أن يتسع الخرق على الراتق، وقد استجاب الله له بأن ذاق الشهادة على يد علج مجوسي.
وقد انقسمت الأمة بعد استشهاد أمير المؤمنين عثمان، وولي أمر المؤمنين سيدنا علي -كرم الله وجهه- فلم يهنأ بولايته يوماً؛ إذ كثرت الحروب من جهات متعددة، ولم يستقِم له أتباعه، وأكثروا مخالفته وعصيان أمره وتجرأوا عليه حتى ملهم وملوه، ولم يسيروا معه سير أتباع سيدنا معاوية؛ إذ اجتمعوا حوله وناصروه واتبعوا أمره.
ورغم قصر فترة خلافة أمير المؤمنين علي إلا أن كثرة الفتن والحروب والانقسامات جعلت النفوس واقعة في ملالةٍ وكُرهٍ وسأَم.
لكن العجيب أن عصر أول ملوك الإسلام معاوية كان فيه استقرار واجتماع للأمة، إلا أن طول ولايته في الإمارة والملك، والتي بلغت حوالي 40 عاماً أورثت الشعب مللاً منه، وأورثته مللاً منهم، وهذا رغم حلمه وكرمه وحسن سياسته.
وكان قد خطب الناس قبل موته فقال: “إني كزرعٍ مُستحصَد، وقد طالت إمرتي عليكم حتى مللتكم ومللتموني، وتمنيت فراقكم وتمنيتم فراقي، ولن يأتيكم بعدي إلا من أنا خير منه، كما أن مَن قبلي كان خيراً مني، وقد قيل: (من أحب لقاء الله أحب الله لقاءه). اللهم إني قد أحببت لقاءك فأحبب لقائي، وبارك لي فيه”.
وكانت أنظمة الحكم وقتها لا تعرف إلا التأبيد في الولايات، ومن أراد التغيير لم يعرف إلا السيف والثورة والخروج لتغيير هذا الوضع.
وقد فصَّل الماوردي هذه القضية عند حديثه عن سبب تغيُّر الأعوان على ملكهم وفسادهم ومحاولتهم التخلُّص منه، وأرجع ذلك من ضمن ما أرجع إلى “أن يكون تغيرهم عليه لمَلل منهم له حدث بطول مكثه فيهم.
فليس الملل من لوازم العلل، ولئن لم يزده المكث حقّاً لم ينقصه.
وقلَّ أن يكون ذلك إلا عند حدوث ناشئة لم ينالوا من دولته حظّاً؛ فهم يأملون بتقلب الأمور أن يستحدثوا نقماً، ويرجون بانتقالها توجيهاً وتقدماً”.
وقد تكلم إمام الحرمين الجويني عن حالة الملل من الإمام -وإن كان في نفسه عاقلاً مدبراً حكيماً- وتغير الناس عليه وعدم طاعته وذهاب شوكته بأنه وجب تثبيت إمام آخر مطاع، فقال: “لَوْ سَقَطَتْ طَاعَةُ الْإِمَامِ فِينَا، وَرَثَّتْ شَوْكَتُهُ، وَوَهَنَتْ عُدَّتُهُ، وَوَهَتْ مُنَّتُهُ، وَنَفَرَتْ مِنْهُ الْقُلُوبُ، مِنْ غَيْرِ سَبَبٍ فِيهِ يَقْتَضِيهِ، وَكَانَ فِي ذَلِكَ عَلَى فِكْرٍ ثَاقِبٍ، وَرَأْيٍ صَائِبٍ، لَا يُؤْتَى فِي ذَلِكَ عَنْ خَلَلٍ فِي عَقْلٍ، أَوْ عَتَهٍ وَخَبَلٍ، أَوْ زَلَلٍ فِي قَوْلٍ أَوْ فِعْلٍ، أَوْ تَقَاعُدٍ عَنْ نَبْلٍ وَنَضْلٍ، وَلَكِنْ خَذَلَهُ الْأَنْصَارُ، وَلَمْ تُوَاتِهِ الْأَقْدَارُ، بَعْدَ تَقَدُّمِ الْعَهْدِ إِلَيْهِ، أَوْ صَحِيحِ الِاخْتِيَارِ، وَلَمْ نَجِدْ لِهَذِهِ الْحَالَةِ مُسْتَدْرَكاً، وَلَا فِي تَثْبِيتِ مَنْصِبِ الْإِمَامَةِ لَهُ مُسْتَمْسَكاً، وَقَدْ يَقَعُ مِثْلُ ذَلِكَ عَنْ مَلَلٍ أَنْتَجَهُ طُولُ مَهَلٍ، وَتَرَاخِي أَجَلٍ، فَإِذَا اتَّفَقَ ذَلِكَ، فَقَدْ حِيلَ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ وَبَيْنَ وَزَرٍ يَسْتَقِلُّ بِالْأَمْرِ، فَالْوَجْهُ نَصْبُ إِمَامٍ مُطَاعٍ، وَلَوْ بَذَلَ الْإِمَامُ الْمُحَقَّقُ أَقْصَى مَا يُسْتَطَاعُ”.
وقد أدرك الغرب هذا الأمر في الشعوب فألغوا فكرة التأبيد في الحكم، وثبَّتوا الأفكار والهويات المؤسِّسة لدولهم، وراحوا يغيرون الأشخاص في البرلمانات والحكومات والرئاسات، وحددوا الرئاسات بالذات بفترات غير قابلة للتجديد؛ حتى لا يمل الناس.
وتجدهم في البرلمانات يجعلون التغيير بين حزبين كبيرين في الغالب؛ فيشعر الناس كأنهم يغيرون الحكومات إذا لم يشعروا بالرضا عن أعمالها.
لكن متى يدرك حكامنا فداحة ملالة الشعوب منهم؟
بقلم الزميل محمد فتحي النادي