كانت فلسطين منطقة إسلامية تحت الحكم العثماني، وكانت تضم أقلية يهودية تتراوح نسبتهم ما بين 3 و5% من مجموع السكان، شهدت المنطقة تزايداً متواضعاً في هذه النسبة إذ وصلت إلى 7% مع حلول عام 1914، لكن موازين القوى بدأت تتغير جذرياً بعد أن أصدرت الحكومة البريطانية ما عُرف باسم “وعد بلفور”.
ما قبل وعد بلفور
دعونا نفهم أولاً السياقات العالمية التي مهَّدت لإصدار وعد بلفور عام 1917، والذي يعد بمثابة دعم صريح وواضح من الحكومة البريطانية لإقامة وطن قومي لليهود في فلسطين.
في أربعينيات القرن التاسع عشر، قام حاكم مصر محمد علي ببسط نفوذه على سوريا وفلسطين، ضدّ رغبة السلطان العثماني، في وقت كان فيه النفوذ الفرنسي يتعاظم في فلسطين أيضاً باعتبارها “حامية للمجتمعات الكاثوليكية”، في حين بدأ النفوذ الروسي بالنمو أيضاً باعتبار روسيا حامية للأرثوذوكس الشرقيين.
بذلك بقيت بريطانيا خارج اللعبة، مما جعلها تشعر بحاجة لوجود كيان “تحميه” في فلسطين. وانطلاقاً من هذه الاعتبارات السياسية انتشرت الخطابات المتعاطفة مع “إعادة اليهود” إلى فلسطين بين أوساط النخبة السياسيّة البريطانيّة في منتصف القرن التاسع عشر، وعليه شجعت وزارة الخارجيّة البريطانيّة هجرة اليهود بنشاط إلى فلسطين.
مع ذلك لم تنجح تلك الجهود البريطانية فعند ظهور الصهيونية وبداية انتشار أفكارها في مختلف أنحاء العالم في أواخر القرن التاسع عشر، لم يكن يعيش في فلسطين أكثر من 24 ألف يهودي.
عليا الأولى.. بداية الهجرة إلى فلسطين
في ظل انتشار الحركات الرافضة لليهود في أوروبا نشأت الحركة الصهيونية التي أبدت انقساماً بين أولئك الذين يرون أن اليهودية مجرد دين يتبعونه وأولئك الذين يعتبرون اليهودية كأمة أو عرقية لهم.
لكن الرأي القائل بأن اليهودية هي أمة وهوية لصاحبها (وليست فقط دين) بدأ بالانتشار بشكل خاص بعد الإبادات المزعومة التي تعرض لها اليهود في روسيا القيصريّة، مما أدى إلى تشكيل منظمة اسمها “أحباء صهيون” وأول موجة رئيسية للهجرة اليهوديّة إلى فلسطين والتي أطلق عليها اسم “عليا الأولى”.
حاييم وايزمان يلتقي بآرثر بلفور
نشر تيودور هرتزل عام 1896، النص الأساسيّ للصهيونيّة السياسيّة بكتاب تحت عنوان “الدولة اليهودية” الذي يؤكد أن الحل الوحيد للأزمة اليهوديّة في أوروبا هو تأسيس دولة لليهود في فلسطين، وقد أسس “المنظمة الصهيونية” لخدمة هذا الهدف لكنه مات قبل أن يحقق أي مكاسب سياسية لقضيته.
Sunna Files Free Newsletter - اشترك في جريدتنا المجانية
Stay updated with our latest reports, news, designs, and more by subscribing to our newsletter! Delivered straight to your inbox twice a month, our newsletter keeps you in the loop with the most important updates from our website
لكن خلفه حاييم وايزمان عقد لقاء مع آرثر بلفور عام 1904 والذي كان رئيساً للوزراء في بريطانيا آنذاك، وقد استطاع هذا الأخير بدفع قضية اليهود إلى البرلمان، وإلقاء خطابات عاطفية تحدثت عن ضرورة تقييد موجة هجرة اليهود الفارين من الإمبراطوريّة الروسيّة إلى بريطانيا، تمهيداً للحصول على موافقة لإنشاء وطن مستقل لهم.
شرق إفريقيا بديلاً عن فلسطين
من الجدير بالذكر أن الاستعمار الإسرائيلي القائم على أراضي فلسطين حالياً كان من الممكن أن يقوم في شرق إفريقيا لولا وفاة هرتزل وتسلم حاييم وايزمان مكانه.
ففي عام 1903، اقترح سكرتير الحكومة البريطانية للمستعمرات، جوزيف تشامبرلاين، خطة عرفت باسم “خطة أوغندا”. كانت هذه الخطة تقتضي بإعطاء جزء من شرق أفريقيا البريطانية لليهود لتكون وطناً قومياً لهم.
وقد لاقت هذه الخطة بالفعل ترحيباً من رئيس المنظمة الصهيونية آنذاك تيودور هرتزل، إلا أنه توفي قبل إتمامها.
ولم يكن خلفه حاييم وايزمان متحمساً لخطة أوغندا، بل أكد لآرثر بلفور أن الإنجليز ينتمون للندن تماماً كما ينتمي اليهود إلى القدس.
عائلة روتشيلد في البرلمان البريطاني
بعيداً عن تأمين الدعم السياسي للصهيونية لم يغفل وايزمان عن تأمين دعم اقتصادي كذلك، وذلك عن طريق البارون إدموند روتشيلد، وهو عضو في الفرع الفرنسيّ لعائلة روتشيلد وداعم رئيسي للحركة الصهيونية، وقد أسس البارون المستعمرات الزراعية اليهودية لليهود “عليا الأولى”.
كذلك تطوع ابن البارون جايمس دي روتشيلد للتأثير على مسؤولين في الحكومة البريطانية لتمرير أجندة إنشاء دولة يهودية في فلسطين إلى البرلمان البريطاني.
وقد تم ذلك بالفعل بعد لقاء وايزمان بتشارلز ووالتر روتشيلد، وهما ابنا ناثان روتشيلد البارون الأول في العائلة ورئيس الفرع الإنجليزيّ من العائلة، وقد كان لناثان موقف متريث من الصهيونية لكنه مات عام 1915 وورث عنه ابنه والتر اللقب.
قبيل إعلان وعد بلفور
كانت فلسطين قد أمضت أربعة قرون تحت الحكم العثماني، وقد بدأ العثمانيون بالتضييق على الهجرة اليهودية في آواخر 1882، كردة فعل على موجة “عليا الأولى” التي بدأت في وقت باكر من العام ذاته.
شكّلت “عليا الأولى” توترات بين اليهود المهاجرين والسكان المحليين، لكن مع ذلك فقد أعطت الحكومة العثمانية المركزية لليهود الحقوق ذاتها التي يمتلكها العرب في شراء الأراضي في فلسطين، مما أدى إلى ارتفاع نسبة اليهود إلى 7% تقريباً من مجموع السكان بحلول 1914.
أما فيما يتعلق بـ”شعبية” الصهيونية عالمياً، فقد كان حوالي 8 آلاف يهودي فقط من أصل 300 ألف ينتمون إلى المنظمة الصهيونيّة قبيل إعلان وعد بلفور، وبحلول 1913، كانت نسبة اليهود المنتمون إلى الصهيونية في العالم لا تشكل أكثر من 1%.
تعهدات بريطانية كاذبة للعرب
قبل إصدار وعد بلفور الذي حرصت الحكومة البريطانية على الوفاء به، قدم البريطانيون وعوداً للعرب أيضاً، ففي عام 1915، أكد المندوب السامي البريطانيّ في مصر هينري مكماهون، للحسين بن علي شريف مكة، أن بريطانيا ستعترف بالاستقلال العربي مقابل إطلاق حسين ثورة ضد الدولة العثمانية.
وبالفعل قاد شريف مكة الثورة العربية الكبرى عام 1916، لكن الثورة على الدولة العثمانية لم تسفر عن قيام دولة عربية مستقلة، إنما تبعها اتفاقية سرية لتقسيم المنطقة بين فرنسا وبريطانيا عرفت باسم “اتفاقية سايكس بيكو”.
جهود وايزمان السياسية تسفر عن وعد بلفور
تابع وايزمان جهوده الحثيثة لتأمين وطن قومي لليهود في فلسطين، وقابل بلفور للمرة الثانية عام 1914.
وقد استطاع وايزمان أخيراً انتزاع اعتراف بريطاني بمشروعه بعد أن استلم ديفيد لويد جورج منصب رئيس الوزراء عام 1916، وعين بلفور وزيراً للخارجيّة.
أراد لويد جورج “انتصاراً كبيراً” لذلك قام بالاستيلاء على مدينة القدس بعد يومين من تسلمه لمنصبه بغرض إثارة إعجاب الرأي العام البريطانيّ.
وتوسع لويد لتشمل مناطق السيطرة البريطانية كلاً من العريش وسيناء ورفح لتصل بريطانيا إلى الحدود الجنوبية للدولة العثمانيّة آنذاك.
وقبيل عام 1917، قاد البريطانيُّون القتال على الحدود الجنوبيّة للدولة العثمانيّة وحدهم (دون تدخل فرنسي أو إيطالي) وبناء عليه أثار لويد جورج قضية فرض الحماية البريطانيّة على فلسطين.
تلقى الفرنسيون الخبر ببرود ولم يستاؤوا كثيراً من الأمر فقد أخذ الفرنسيون نصيبهم كذلك من المنطقة العربية.
وبعد نقاشات حكومية استمرت لمدة شهرين، اتُخذ قرار إعلان “وعد بلفور” من قبل حكومة الحرب البريطانيّة في 31 أكتوبر/تشرين الأول 1917. في حين تم إصدار الوعد فعلياً في الثاني من نوفمبر/تشرين الثاني من نفس العام.
نص وعد بلفور
في جملة واحدة مؤلفة من 67 كلمة كُتبت باللغة الإنجليزية، تم تقرير مصير شعب كامل سيعاني على مدى العقود اللاحقة من الكيان الصهيوني الذي شكل دولة إسرائيل على الأراضي الفلسطينية .
ففي الثاني من نوفمبر عام 1917 أرسل وزير الخارجية البريطاني آرثر بلفور رسالة قصيرة إلى والتر روتشيلد لنقلها إلى الاتحاد الصهيونيّ لبريطانيا العظمى وإيرلندا تضمنت ما عرف لاحقاً باسم “وعد بلفور”.
وتضمن إعلان الوعد أربعة بنود، أول بندين يعدان بدعم “تأسيس وطن قوميّ للشعب اليهوديّ في فلسطين”، وتبعهما “بندان وقائيَّان” ينصان على احترام “الحقوق المدنيّة والدينيّة للمجتمعات غير اليهوديّة الموجودة في فلسطين” وفقاً لما ورد في موقع Britannica.
تبعات وعد بلفور
ردّاً على وعد بلفور قامت عدّة ثورات أبرزها الثورة الفلسطينية الكبرى عام 1935 على يد الشيخ عزّ الدين القّاسم وبعد استشهاده قادها فخري عبد الهادي فأرسل الانتداب البريطاني لجنة بيل عام 1937 والتي أعلنت تقسيم فلسطين بين العرب واليهود.
وبالتأكيد كان دعم الحكومة البريطانية للمشروع الصهيوني اللبنة الأولى لتأسيس ما يُعرف اليوم باسم “الحكومة الإسرائيلية”.