ذكرُ خبر المائدة التي نزلت من السماء
أنزل الله تبارك وتعالى سورة المائدة وَحيًا على رسوله صلى الله عليه وسلم وسُميّت هذه السورة سورة المائدة لأنها تتضمن قصة المائدة التي أنزلها الله تبارك وتعالى من السماء عندما سأله عيسى ابن مريم عليه السلام إنزالها من السماء كما طلب منه ذلك أصحابه وتلاميذه الحواريون، ومضمون خبر وقصة هذه المائدة أن عيسى ابن مريم عليه السلام أمر الحواريين بصيام ثلاثين يومًا فلما أتموها سألوا عيسى عليه السلام إنزال مائدة من السماء عليهم ليأكلوا منها وتطمئن بذلك قلوبهم أن الله تبارك وتعالى قد تقبل صيامهم وتكون لهم عيدًا يفطرون عليها يوم فطرهم، وتكون كافية لأولهم وءاخرهم ولغنيّهم وفقيرهم، ولكنَّ عيسى عليه السلام وعظهم في ذلك وخاف عليهم ألا يقوموا بشكرها، فأبوا عليه إلا أن يسأل لهم ذلك من الله تبارك وتعالى، فلما ألحوا عليه في ذلك قام إلى مُصلاه ولبس ثيابًا من شعر وأطرق رأسه وأسبل عينيه بالبكاء ثم أخذ يتضرع إلى الله تعالى في الدعاء والسؤال أن يجابوا إلى ما طلبوا، فاستجاب الله عز وجل دعاءه فأنزل سبحانه المائدة من السماء والناس ينظرون إليها وهي تنحدر بين غمامتين، وجعلت تدنو قليلا قليلا وكلما دَنَت منهم يسأل عيسى المسيح عليه السلام أن يجعلها رحمة لا نقمة وأن يجعلها سلامًا وبركة، فلم تزل تدنو حتى استقرت بين يدي عيسى عليه السلام وهي مغطاة بمنديل، فقام عيسى عليه السلام يكشف عنها وهو يقول: “بسم الله خير الرازقين” فإذا عليها من الطعام سبعة من الحيتان وسبعة أرغفة وقيل: كان عليها خلّ ورمان وثمار ولها رائحة عظيمة جدًّا، ثم أمرهم نبيهم عيسى عليه السلام بالأكل منها، فقالوا له: لا نأكل حتى تأكل، فلما أبوا أن يبدءوا بالأكل منها أمر عليه السلام الفقراء والمحاويج والمرضى وأصحاب العاهات وكانوا قريبًا من الألف وثلاثمائة أن يأكلوا من هذه المائدة، فأكلوا منها فبرأ كل من به عاهة أو ءافة أو مرض مزمن واستغنى الفقراء وصاروا أغنياء، فندم الناس الذين لم يأكلوا منها لما رأوا من إصلاح حال أولئك الذين أكلوا ثم صعدت المائدة وهم ينظرون إليها حتى توارت عن أعينهم، وقيل: إن هذه المائدة كانت تنزل كل يوم مرة فيأكل الناس منها، فيأكل ءاخرهم كما يأكل أولهم حتى قيل: إنه كان يأكل منها كل يوم سبعة ءالاف شخص.
ثم أمر الله تبارك وتعالى عيسى عليه السلام أن يقصرها على الفقراء والمحتاجين دون الأغنياء، فشق ذلك على كثير من الناس وتكلم منافقوهم في ذلك فرفعت ومُسخ الذين تكلموا في ذلك من المنافقين خنازير. وقد رُوي عن الصحابي الجليل عمار بن ياسر أنه قال: “نزلت المائدة من السماء خبز ولحم وأُمروا ألا يخونوا ولا يدخروا ولا يرفعوا لغد، فخانوا وادخروا ورفعوا فمسخوا قردة وخنازير”، يقول الله تبارك وتعالى: ﴿إِذْ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَن يُنَزِّلَ عَلَيْنَا مَآئِدَةً مِّنَ السَّمَاء قَالَ اتَّقُواْ اللَّهَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ * قَالُواْ نُرِيدُ أَن نَّأْكُلَ مِنْهَا وَتَطْمَئِنَّ قُلُوبُنَا وَنَعْلَمَ أَن قَدْ صَدَقْتَنَا وَنَكُونَ عَلَيْهَا مِنَ الشَّاهِدِينَ * قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ اللَّهُمَّ رَبَّنَا أَنزِلْ عَلَيْنَا مَآئِدَةً مِّنَ السَّمَاء تَكُونُ لَنَا عِيداً لأَوَّلِنَا وَءاخِرِنَا وَءايَةً مِّنكَ وَارْزُقْنَا وَأَنتَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ * قَالَ اللَّهُ إِنِّي مُنَزِّلُهَا عَلَيْكُمْ فَمَن يَكْفُرْ بَعْدُ مِنكُمْ فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ عَذَابًا لاَّ أُعَذِّبُهُ أَحَدًا مِّنَ الْعَالَمِينَ﴾ [سورة المائدة 112-115].
ومعنى قوله تعالى حكاية عن أصحاب عيسى عليه السلام: ﴿هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَن يُنَزِّلَ عَلَيْنَا مَآئِدَةً مِّنَ السَّمَاء﴾ أي هل يستجيب ربك لك إن طلبت منه هذا الطلب بدليل هذه القراءة الواردة لهذه الآية وهي ﴿هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ﴾ قال الفراء معناه: هل تقدر أن تسأل ربك، فلا يجوز أن يُتوهم أن الحواريين شكّوا في قدرة الله تعالى على إنزال هذه المائدة من السماء، فالله تعالى قادر على كل شىء لا يعجزه شىء، وإنما كما يقول الإنسان لصاحبه: هل تستطيع أن تقوم معي وهو يعلم أنه مستطيع.
ذكر مكيدة اليهود ورفع عيسى عليه السلام إلى السماء وبيان أنه لم يقتل ولم يصلب
قال الله تبارك وتعالى: ﴿فَلَمَّا أَحَسَّ عِيسَى مِنْهُمُ الْكُفْرَ قَالَ مَنْ أَنصَارِي إِلَى اللَّهِ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنصَارُ اللَّهِ ءامَنَّا بِاللَّهِ وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ * رَبَّنَا ءامَنَّا بِمَا أَنزَلْتَ وَاتَّبَعْنَا الرَّسُولَ فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ * وَمَكَرُواْ وَمَكَرَ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ﴾ [سورة ءال عمران 52-54].
استمر أكثر بني اسرائيل على كفرهم وضلالهم وعنادهم وءامن بعيسى عليه السلام القليل، وكان منهم طائفة صالحة كانوا له أنصارًا وأعوانا قاموا بمتابعته ونصرته وإعانته على نشر دين الإسلام الحق الذي أرسله الله تبارك وتعالى ليدعو إليه، ولما أخذت دعوته تنتشر ويكثر أتباعه ومناصروه حسده اليهود وتآمروا عليه وأخذوا يدبرون مكيدة لقتله والتخلص منه، فوشوا به إلى بعض ملوك الزمان وعزموا على قتله وصلبه فأنقذه الله تبارك وتعالى من مكيدتهم ومكرهم ورفعه إلى السماء من بين أظهرهم وألقى شبهه على أحد أصحابه فأخذوه فقتلوه وصلبوه وهم يعتقدونه عيسى عليه السلام وهم في ذلك غالطون، وسلم لهم كثير من النصارى فيما ادعوه وكلا الفريقين في ذلك مخطئون، قال الله تبارك وتعالى في الرد على اليهود الذين زعموا أنهم قتلوا نبي الله عيسى عليه السلام: ﴿وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللَّهِ وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِن شُبِّهَ لَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُواْ فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِّنْهُ مَا لَهُم بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلاَّ اتِّبَاعَ الظَّنِّ وَمَا قَتَلُوهُ يَقِينًا * بَل رَّفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا﴾ [سورة النساء 157-158].
وورد في قصة رفع نبي الله عيسى عليه السلام إلى السماء أنه قبل أن يدخل اليهود على المسيح عيسى ابن مريم عليه السلام كان عليه السلام مع اثني عشر من أصحابه وتلاميذه في بيت فقال لهم: إن منكم من يكفر بي بعد أن ءامن، ثم قال لهم: أيكم يُلقى عليه شبهي ويُقتل مكاني فيكون رفيقي في الجنة؟ فقام شاب أحدثهم سنًّا فقال: أنا، قال: اجلس، ثم أعاد عيسى عليه السلام مقالته فعاد الشاب وقال: أنا، ثم أعاد عيسى عليه السلام مقالته فعاد الشاب الثالثة، فقال له عليه السلام: أنت هو، وألقى الله سبحانه وتعالى شبه عيسى عليه السلام على هذا الشاب، فدخل اليهود البيت وأخذوا الشاب فقتل وصلب بعد أن رفع عيسى عليه السلام من روزنة في البيت ـ وهي نافذة في أعلى الحائط ـ إلى السماء وأهل البيت ينظرون. ثم افترقوا فرقًا، فرقة قالت: هو الله، وفرقة قالت: هو ابن الله، وفرقة قالت: هو عبد الله ورسوله وهؤلاء المسلمون، فتظاهرت الفرقتان على المسلمة فقتلوها فلم يزل الإسلام طامسًا حتى بعث الله محمدًا صلى الله عليه وسلم.
قال الله تبارك وتعالى: ﴿وَمَكَرُواْ وَمَكَرَ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ * إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ وَجَاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُواْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأَحْكُمُ بَيْنَكُمْ فِيمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ﴾ [سورة ءال عمران 54-55]. ومعنى قول الله تعالى: ﴿متوفيك﴾ أي قابضك إلى السماء وأنت حيٌّ يقظان، ويجوز أن يفسر بأن هذا من باب المقدم والمؤخر فكأن السياق إني رافعك ومطهرك من الذين كفروا ومتوفيك أي مميتك، فعلى هذا التفسير وهو تفسير ابن عباس يكون متوفيك معناه مميتك.
وقوله تعالى: ﴿وَجَاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُواْ﴾ أي جاعل من اتبعك على الإسلام والتوحيد وهم من بقي بعد رفعه إلى السماء على الإسلام ثم بعد انقراضهم أمة محمد لأن هؤلاء هم متبعوا عيسى على ما جاء به من توحيد الله وسائر أصول العقيدة والأحكام التي اتفقت عليها شرائع الأنبياء فإنهم فوق الكافرين من حيث المعنى والحكم فإن من معه الحق فهو فوق غيره، وفي هذه الآية دلالة على أن أمة محمد ءاخر الأمم المسلمة أتباع الأنبياء في الإسلام والتوحيد وأنهم يبقون إلى نهاية الدنيا.
بيان نزول عيسى المسيح عليه السلام من السماء قبل يوم القيامة وأنه من علامات الساعة
ليعلم أنه ورد في الشريعة أن من علامات قرب قيام الساعة نزول عيسى عليه السلام من السماء إلى الأرض، فعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قرأ قوله تعالى: ﴿وإنه لَعِلمٌ للساعة﴾ [سورة الزخرف/61] فقال: “نزول عيسى ابن مريم قبل يوم القيامة”. فأحاديث نزوله عليه السلام من السماء مشهورة قريبة من التواتر، وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أن عيسى عليه السلام لما ينزل من السماء ينزل عند المنارة البيضاء شرقي دمشق، ثم يعيش في الأرض أربعين سنة يحكم خلالها بشريعة القرءان شريعة النبي محمد صلى الله عليه وسلم، ويعمّ بعد نزول عيسى عليه السلام الأرض الإسلام والأمن والسلام ويهلك الله في زمانه المسيح الدجال الكذاب، ويكسر عليه السلام عند نزوله الصليب ويقتل الخنزير في بقاع الأرض، فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “والذي نفسي بيده ليوشكن أن ينزل فيكم ابن مريم حكمًا عدلا فيكسر الصليب ويقتل الخنزير ويضع الجزية ويفيض المال حتى لا يقبله أحد حتى تكون السجدة خيرًا من الدنيا وما فيها” رواه البخاري ومسلم وغيرهما.
وقد ورد أنه عليه السلام يسلك فج الرَّوحاء حاجًّا أو معتمرًا ويقصد قبر النبي فيسلم على الرسول صلى الله عليه وسلم فيرد الرسول عليه السلام، ويقيم في الأرض حاكمًا أربعين سنة ثم يموت فيدفن في الحجرة النبوية قرب قبر النبي صلى الله عليه وسلم وصاحبيه.
روى الحاكم في المستدرك أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: “ليهبطنَّ عيسى ابن مريم حكمًا مقسطًا وليسلكن فجًّا حاجًّا أو معتمرًا وليأتينّ قبري حتى يسلم عليَّ ولأردنَّ عليه”.
قال تعالى: ﴿وَإِن مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلاَّ لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا﴾ [سورة النساء/159]، قال تعالى: ﴿وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ لِّلسَّاعَةِ فَلا تَمْتَرُنَّ بِهَا وَاتَّبِعُونِ هَذَا صِرَاطٌ مُّسْتَقِيمٌ﴾ [سورة الزخرف/61].
Sunna Files Free Newsletter - اشترك في جريدتنا المجانية
Stay updated with our latest reports, news, designs, and more by subscribing to our newsletter! Delivered straight to your inbox twice a month, our newsletter keeps you in the loop with the most important updates from our website