بسم الله الرحمن الرحيم
المقدمة
الحمد لله رب العالمين والصلاةوالسلام على سيدنا محمد الأمين وعلى ءاله وصحبه الطيبين الطاهرين.
أما بعد: يقول الله تبارك وتعالى في محكم التنزيل {كُنتم خيرَ أمةٍ أُخرِجَتْ للناسِ تأمرونَ بالمعروفِ وتنهَونَ عنِالمُنكرِ} [سورة ءال عمران/110]، وقال رسول الله صلىالله عليه وسلم: “من رأى منكم منكرًا فليُغَيِّرهُ بيدهِ فإنْ لم يستطع فبلسانهِفإن لم يستطع فبقلبهِ وذلكَ أضعفُ الإيمان” رواه مسلم [1].
عملاً بما أمرنابه الشرع الحنيف، واتباعًا لسنةِ سيدِ المرسلينَ برزنا للأمر بالمعروفِ والنهي عنالمنكرِ واضعينَ نصب أعيننا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال عن رجلين كانايعيشان بين المسلمين: “ما أظنُّ أن فلانًا وفلانًا يعرفانِ من ديننا شيئًا” رواهالبخاري [2]، وهدفنا من ذلك رد الباطل وإبطاله والدفاع عن الحق وإحقاقه، فقد كثرالمبطلونَ والمفترون وأدعياء العلم الذين يغشون الناس في دينهم ويبيعون الآخرة رجاءدراهم قليلة، فصاروا يتصدرون للتدريس والتأليف والفتوى، ويتكلمون في الدين برأيهموهواهم ويضعون القرءان في غير محله لنصرة مذهبهم الفاسد الذي حوى عقيدة التشبيهوالتجسيم ومخالفة السلف والخلف، ويتهجمون على حديث رسول الله صلى الله عليه وسلمفيُضعّفونَ ما يخالف عقيدتهم ويخرقونَ إجماع الأمة المحمدية ويتطاولون على صحابةرسول الله والسلف الصالح وعلماء الأمة الأجلاء من أشاعرة وماتريدية شافعية كانوا أوحنفية أو مالكية أو من فضلاء الحنابلة، فهذا لا شك طبع الجاهل وسلاح المفلسالعاجز.
ومن هؤلاء رجل نسب نفسه للعلم والعلماء والحديث والمحدثين زورًاوبهتانًا فأطلق لسانه وقلمه فيما ذكرنا وعمد من خلال فتاويه إلى زرع الفتنة والفرقةوبث الحقد والعداوة والبغضاء بين المسلمين، إنه الساعاتي المدعو “ناصر الدينالألباني” الذي كفانا مؤنة نفسه في الرد عليه حيث وصف نفسه بأنه كان يعمل ساعاتيًاوكانت هوايته قراءة الكتب بدون تلقٍ للعلم من أهله ودون أن يكون له إسنادٌ معتبرفيه، فتخبطَ هنا وهناك وبين الكتب ونسب نفسه إلى السلف مع مخالفته لهم في العقيدةوالأحكام الفقهية.
وزعم أنه من المحدثين وهو لا يحفظ حديثًا واحدًا بالإسنادالمتصل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم. ثم كيف يكون محدثًا وهو يصحح أحاديث فيكتبه ويحكم عليها بالتضعيف في مواضع أخرى والعكس، ويتهجم على علماء المحدثينبعبارات الازدراء والتهكم، وهو مع ذلك يكابر ويماري ويجادل بالباطل لهوى في نفسهفيتجرأ على البخاري ومسلم وغيرهما، فيضعّف من الأحاديث ما أجمع الحفاظ على صحتها،فهو بهذا شذَّ عما عليه جمهور الأمة المحمدية من أشاعرة وماتريدية الذين ادعى زورًاأنهم أهل بدعة، سبحانك ربنا هذا بهتان عظيم.
وهو أيضًا شذَّ عن الشرط الذي اشترطه علماء الحديث، لأن التصحيح والتضعيف من وظيفة الحافظ صرّح بذلك كثير منهم فيمؤلفاتهم، ويكفي في ذلك قول الحافظ السيوطي في ألفية الحديث:
Sunna Files Free Newsletter - اشترك في جريدتنا المجانية
Stay updated with our latest reports, news, designs, and more by subscribing to our newsletter! Delivered straight to your inbox twice a month, our newsletter keeps you in the loop with the most important updates from our website
وخذه حيث حافظعليه نص *** أو من مصنف بجمعِه يخص
فكيف تجرأ مع بُعده عن أهلية التصحيحوالتضعيف بُعد الأرض من السماء على تسمية بعض مؤلفاته “الصحيحة” –يعني بذلك أنه جمعفيها الأحاديث الصحيحة فقط-، وبعضها الضعيفة.
فما هذه الجرأة والوقاحة التييتحلى بها هذا الرجل، فلكشف هذا الأمر نطالبه بعقد مجلس يحضره علماء نناظره في هذهالمسئلة وغيرها حتى يعرف أتباعه الذي أوهمهم أنه أهل للتصحيح وللتضعيف وهم عدد فيالشام والحجاز وفي مصر وفي المغرب أوهمهم أنه أهل للتصحيح والتضعيف على أنه اعترففي بعض المجالس بأنه ليس بحافظ، وقد ذُكر لنا أن رجلاً من المحامين قال له: أنتمحدث؟ قال: نعم، قال: تروى لنا عشرة أحاديث بأسانيدها، قال: أنا لست محدث حفظ بلمحدث كتاب، فقال الرجل: وأنا أستطيع أن أحدّث من كتاب، فأسكته.
فويل للذين قلّدوه من أتباعه الذين يشتغلون بالتعليق على كتب المحدثين فليتقوا الله فإنهمتائهون مثلما تاه متبوعهم، وليعرفوا أنهم مخالفون للمحدثين حيث يقدمون على التصحيحوالتضعيف ولا تسمح القواعد الحديثية لأمثالهم بالعمل الذي يعملونه، ولا يقلدالألباني إلا المغترون الذين لا يحسنون قواعد علم الحديث لم يؤتوا حظًّا لحفظ متونالأحاديث، ولا في دراية قواعده مثل علي الحلبي، ومراد شكري، ومحمد شقرة، وعمرالأشقر، وسليم الهلالي وغيرهم. فغيرةً منا على ديننا وعقيدتنا وسنة نبينا وانتصارًاللسلف والخلف أهل الحق، وحرصًا منا على تبيان حال من شبَّه الخالق سبحانه وتعالىبخلقه وتجرأ على حديث رسول الله وضلل المسلمين، عملنا هذا البيان سائلين المولى عزوجل أن يعيذنا من شؤم هذا الحال وسجعلنا أئمة هادين مهتدين لا ضالين مضلين فإليهالمصير وعليه توكلنا وبه نستعين، وليس مرادنا حصر جميع ضلالات الألباني في هذهالأوراق بل اقتصرنا على ذكر بعض من أشنع مقالاته الشاذة.
فمن تأمل في أمرهذا الرجل يجده قد ادعى العلم بالحديث لأمرين أحدهما الشهرة والآخر جمع المال، فإنهحريص على المال بدليل ما حدث بينه وبين تلميذه زهير الشاويش الذي كان يطبع لهمؤلفاته فيكتسب منها دخلاً كبيرًا من المال والألباني يكتسب كذلك فإنه بعد مدةطويلة من الصداقة القوية فيما بينهما اختصما لأمر دنيوي وذلك عملاً بما أحدثهالأوروبيون من حجر الشخص على الناس أن يطبعوا مؤلفاتهم إلا بإذن المؤلف بحيث أنهميقاضونه قانونًا بالغرامة أو بإنزال العقوبة به، وهذا مخالف لشريعة الله لأنه مماتقرر في شرع الله وظهر ظهورًا لا خلاف فيه أن الشخص إذا ملك نسخة من كتاب بطريق هبةأو بطريق بيع وشراء يجوز له أن ينتفع بهذا الكتاب تفهمًا لما يحويه ذلك المؤلَّف منالعلم وتحصيل نسخ يستفيد منها بالبيع كما كانت عادة المسلمين قبل قرن واحد أي قبلأن تنتشر الطباعة حين كانوا يستنسخون نسخًا فتباع وتشترى، وعلى ذلك درج السلفوالخلف ولم ينقل عن أحد منهم أنه حجر الاستنساخ من مؤلفاتهم بطريق التفهم وبطريقالبيع والشراء، وعلماء الإسلام الذين كانوا يبرون أقلامهم كلما ضعُفَ قلم عنالصلاحية للكتابة يبرون قلمًا ءاخر وهكذا حتى يفرغون من التأليف، والحبر لم يكنمتيسرًا مثل هذه الأيام كانوا يأخذون لإعداده أيامًا ثم يستعملونه وهكذا. ثم إنهمحين يكتبون في الليالي كانوا يستعينون بالمصابيح التي تنطفئ بعد وقت قصير ثميصلحونها إما بواسطة فتائل تغمسُ في الزيتِ أو بواسطة الشموع، فليحذر المتقي ربّهمن هذه البدعة المحرمة وهي قولهم: “حقوق الطبع محفوظة للمؤلف”، فهذه القاعدةالمخالفة للشرع تدخل تحت قوله عليه السلام: “من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهوردٌّ” رواه مسلم [3].
فما لهؤلاء الناس ينهون الناس عن أمور محدثة ثم يعملونما يخالف شرع الله، يحرمون على الناس ما استحدثه العلماء والمحدثون مما يوافق شرعالله كعمل المولدِ والصلاة جهرًا على النبي صلى الله عليه وسلم عقب الأذان، ومنهممن بالغ في ذلك وهم الوهابية حيث جعل بعضهم الصلاة على النبي بعد الأذان شركًا،وقال بعضهم إنه كالزنى بالأم، وهم فعلوا أشياء أُحدثت بعد الرسول بزمان، فما لهم لايحرمون ما يفعلون ويحرمون عمل المولد والصلاة على النبي جهرة عقب الأذان محتجين بأنالرسول لم يفعله.
—————————————————————————————————————————————————————————————————————————————————————————————————————————————————————————————————————————————————————————————————————————————————————————————————————————————
الفصل الأول
شذوذ الألباني في العقيدة
ينقل [4] ناصر الألباني عن بعض المشبهة ومقرًا له بأنمن قال عن الله: “ويُرى لا في جهة فليراجع عقله”، وقال الألباني [5]: “إن أريدبالجهة أمر عدمي وهو ما فوق العالم فليس هناك إلا الله وحده” اهـ.
الرد: قال الإمام أبو جعفر الطحاوي في العقيدة التي ألفها لبيانعقيدة أهل السنة والجماعة: “لا تحويه –أي الله- الجهات الست كسائر المبتدعات” اهـ،أي أن الله تعالى منزه عن الجهة لأن في ذلك نسبة المكان والحد لله وتوابعهما منالحركة والسكون ونحو ذلك مما هي من صفات المخلوقات، فالألباني بكلامه الأول يكوناتهم أهل السنة والجماعة بأنهم لا عقل لهم وحكم على نفسه أنه شذ عن مذهبهم والرسولصلى الله عليه وسلم قال: “عليكم بالجماعة وإياكم والفُرقة فإن الشيطان مع الواحدوهو من الاثنين أبعد فمن أراد بُحبوحة الجنة فليلزم الجماعة” رواه الترمذي [6]،وقال: “ثلاث لا يُغل عليهن قلب مسلم: إخلاص العمل لله، ومناصحة ولاة الأمر، ولزومالجماعة فإن دعوتهم تحيط مَن وراءهم”، رواه ابن حبان وصححه [7] والحافظ ابن حجر فيالأمالي وحسّنه، ثم هو لا يرتدع بكلام الطحاوي ولا بكلام أهل السنة قاطبة ولا يردهإجماع الأمة فيدعي مغرورًا بجهله أن الله فوق العرش بذاته.
ومما انفرد به فيالعقيدة حيث شبّه الله تعالى أنه محيط بالعالم من جميع الجهات كما أن الحقَّة تحيطبما في ضمنها ولم يسبقه بهذا أحد لا من أهل السنة ولا من المشبهة، وقد ذكر ذلك فيكتابه المسمى “صحيح الترغيب والترهيب” [8]، فكيف جمع بين هذا وبين قوله إن اللهبذاته فوق العرش؟! وفي هذا تناقض لا يخفى، وهذا ضد عقيدة طائفته الوهابية المشبهةالمجسمة “أن الله فوق العرش فقط”، فهذه من مفرداته التي انفرد بها عن طائفته، وهذانشأ من سوء فهمه بقوله تعالى: {وكانَالله بكلِّ شئٍ محيطًا} [سورة النساء/126]. ومعنىالآية أن الله محيط بكل شئ علمًا، فهذا الرجل من شدة تهوره يناقض نفسه وهو لا يدري،فماذا تقول فيه طائفته وقد أثبت عقيدة ضد عقيدتهم هل تتبرأ منه أم تسكت له مداهنة؟لأن طائفته الوهابية تعتبره قدوة لهم وزعيمًا كبيرًا بل تعتبره مجدد العصر لهم، فقدشبه الألباني الله تعالى بالحقّة التي تحيط بما فيها من جميع الجهات كما ذكر فيكتابه المسمى “صحيح الترغيب والترهيب” فجعله تحت العالم وفوق العالم وعن شمالالعالم وعن يمين العالم وأمام العالم وخلف العالم، ولم يقل بذلك قط مسلم ولا كافرقبله، هذا ما شهر عنه، وقد ذكر في بعض مؤلفاته في أكثر من موضع أن الله متحيز فوقالعرش بذاته، فها هو ذا ينتقل من ضلال إلى ضلال ليس له مستقر في فساده في العقيدةوالأحكام.
فائدة: قال الألباني: “اعلم أن قوله فيهذا الحديث فإن الله قبل وجهه وفي الحديث الذي قبله فإن الله عز وجل بين أيديكم فيصلاتكم لا ينافي كونه تعالى على عرشه فوق مخلوقاته كلها كما تواترت فيه نصوص الكتابوالسنة وءاثار الصحابة والسلف الصالح رضي الله عنهم ورزقنا الاقتداء بهم فإنه تعالىمع ذلك واسع محيط بالعالم كله، وقد أخبر أنه حيثما توجه العبد فإنه مستقبل وجه اللهعز وجل بل هذا شأن مخلوقه المحيط بما دونه فإن كل خط يخرج من المركز إلى المحيطفإنه يستقبل وجه المحيط ويواجهه وإذا كان عالي المخلوقات يستقبل سافلها المحاط بهابوجهه من جميع الجهات والجوانب فكيف بشأن من هو بكل شئ محيط وهو محيط ولا يحاط به” اهـ.
هذه عبارته حتى يتأكد المطالع أنه قال إن الله يحيط بالعالم من جميعالجهات بالذات لا يعني بالعلم كما هو معتقد المسلمين، وهي صريحة في أنه أراد إحاطةالله بالعالم بذاته لا بالعلم والقدرة كما هو معتقد المسلمين سلفهم وخلفهم، وهذهالمقالة التي قالها لم تقل بها فرقته غير أن شابًّا دمشقيًا من المنتسبين إليه صرحبذلك يومًا وشبّه ذلك بضم كفه إلى الأخرى.
وأما زعمه أنه ليس فوق العرش شئمن المخلوقات فهذا دليل جهله بالحديث وعلومه رغم ادعائه أنه اشتغل بهذا العلم سنينعديدة، فقد روى البخاري ومسلم [9] عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: “لماقضى الله الخلق كتب في كتابه فهو عنده فوق العرش إن رحمتي غلبت غضبي”، وفي روايةعند مسلم [10]: “فهو موضوع عنده”، وفي رواية عند ابن حبان [11] بلفظ: “وهو مرفوعفوق العرش” وقد ذكر الحافظ ابن حجر عند شرحه [12] لهذا الحديث أنه لا مانع من أنيكون فوق العرش مكان، وروى النسائي في سننه الكبرى [13]: “فهو عنده على العرش” وهذاصريح في أن فوقية هذا الكتاب هي الفوقية المتبادرة فاندفع ما يقال إن “فوق” في حديثالبخاري بمعنى تحت، ويبطل هذه الدعوى قول بعض أهل الأثر إن اللوح المحفوظ فوق العرشمقابل قول الآخرين إنه تحت العرش، وهذا الحديث فيه رد على الألباني وعلى كل من ينفيوجود مخلوق فوق العرش، وفيه أيضًا دليل على أن فوق العرش مخلوق غير العرش، وفيهأيضًا دليل على أن فوق العرش مكان، فلو كان الله متحيزًا في جهة فوق العرش لكان لهأمثال وأبعاد وطول وعرض وعمق ومن كان كذلك كان محدثًا محتاجًا لمن حدّه بذلك الطولوبذلك العرض والعمق.
ويكفي في الرد عليه قول الله تعالى: {وكلُّ شئٍ عندهُ بمقدار} [سورة الرعد/8] ومعناه أن الله خلق كل شئ على مقدار أي على كميةوكيفية مخصوصة، فالعرش له كمية وحبة الخردل لها كمية، فالمعنى المفهوم من هذه الآيةأن الله الذي خلق كل شئ على كمية –أي حجم وشكل مخصوص- لا يجوز أن يكون ذا حجم لاحجم كبير ولا حجم صغير، ومعلوم أن الجالس على شئ له حجم إما بقدر ما جلس عليه أوأقل منه أو أوسع منه، فلا يجوز على الله الجلوس، والموجود المتحيز في مكان له مقداروالمقدار صفة المخلوق فالإنسام له مقدار أي حجم وشكل مخصوص والملائكة كذلك، وكذلكالحجم الصغير كحجم حبة الخردل، فالله تعالى هو الذي خصص هذه الأشياء بحجم وشكلمخصوص، وقد أفهمنا الله بقوله: {وكل شئٍعندهُ بمقدار} أن هذا وصف الخلق وهو سبحانه الخالقلا يجوز أن يتصف بصفات المخلوقين، فلا يجوز على الله التحيز في المكان، ولا يجوزوصفه بالحركة ولا السكون، ولا الهيئة ولا الصورة، ولا التغير، هذا الدليل منالقرءان.
أما الدليل من الحديث فما رواه البخاري وابن الجارود والبيهقيبالإسناد الصحيح [14] أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: “كان الله ولم يكن شئغيره“.
وقال الحافظ البيهقي في كتابه “الأسماء والصفات” ما نصه [15]: “استدلبعض أصحابنا في نفي المكان عنه تعالى بقول النبي صلى الله عليه وسلم: “أنت الظاهرفليس فوقك شئ وأنت الباطن فليس دونك شئ”، وإذا لم يكن فوقه شئ ولا دونه شئ لم يكنفي مكان” انتهى، وهذا الحديث فيه أيضًا الرد على القائلين بالجهة في حقهتعالى.
وقال الإمام علي رضي الله عنه [16]: “كان الله ولا مكان وهو الآن علىما عليه كان“.
وأما رفع الأيدي عند الدعاء إلى السماء فلا يدل على أن اللهمتحيز في جهة فوق كما أن حديث مسلم [17] عن أنس بن مالك رضي الله عنه: “أن النبيصلى الله عليه وسلم استسقى فأشار بظهر كفيه إلى السماء” لا يدل على أن الله في جهةتحت، فلا حجة في هذا ولا في هذا لإثبات جهة تحت أو فوق لله تعالى بل الله تعالىمنزه عن الجهات كلها.
وقال الإمام أبو جعفر الطحاوي في عقيدته التي ذكر أنهاعقيدة أهل السنة والجماعة: “تعالى –يعني الله- عن الحدود والغايات والأركانوالأعضاء والأدوات لا تحويه الجهات الست كسائر المبتدعات“.
وممن نقل إجماعالمسلمين سلفهم وخلفهم على أن الله موجود بلا مكان الإمام النحرير أبو منصورالبغدادي الذي قال في كتابه “الفرق بين الفرق” ما نصه [18]: “وأجمعوا –أي أهل السنةوالجماعة- على أنه تعالى لا يحويه مكان ولا يجري عليه زمان” انتهىبحروفه.
وقال إمام الحرمين عبد الملك الجويني في كتابه “الإرشاد” ما نصه [19]: “مذهب أهل الحق قاطبة أن الله يتعالى عن التحيز والتخصص بالجهات” انتهى.
فكما صح وجود الله تعالى بلا جهة قبل خلق الأماكن والجهات فكذلك يصحوجوده بعد خلق الأماكن بلا مكان وجهة وهذا لا يكون نفيًا لوجوده تعالى.
قالالقشيري [20]: “والذي يدحض شبههم –أي شبه المشبهة- أن يقال لهم قبل أن يخلق العالمأو المكان هل كان موجودًا أم لا؟ فمن ضرورة العقل أن يقولوا: بلى، فيلزمه لو صحقوله لا يُعلم موجود إلا في مكان أحد أمرين إما أن يقول المكان والعرش والعالم قديم –يعني لا بداية لوجودها- وإما أن يقول الرب محدث وهذا مآل الجهلة الحشوية، ليسالقديم بالمحدَث والمُحدَثُ بالقديم” انتهى.
وقد قال الحافظ النووي الشافعيفي شرح صحيح مسلم [21] ما نصه: “قال القاضي عياض: لا خلاف بين المسلمين قاطبةفقيههم ومحدّثهم ومتكلمهم ونظارهم ومقلدهم أن الظواهر الواردة بذكر الله تعالى فيالسماء كقوله تعالى: {ءأَمِنتُم مَنْ فيالسماءِ} [سورة الملك/16] ونحوه ليس على ظاهرها بلمتأوِّلة عند جميعهم” انتهى، يعني تأويلاً إجماليًا أو تأويلاًتفصيليًا.
وكذا قال المفسرون من أهل السنة كالإمام فخر الدين الرازي فيتفسيره [22] وأبي حيان الأندلسي في تفسيره [23] وأبي السعود في تفسيره [24] والقرطبي في تفسيره [25] وغيرهم، وعبارة القرطبي: {ءأمنتم من في السماء} قال ابن عباس: “ءأمنتم عذاب من في السماء إن عصيتموه”، ثم قال: “وقيل هو إشارة إلى الملائكة، وقيلإلى جبريل وهو الملك الموكل بالعذاب. قلت: ويحتمل أن يكون المعنى: ءأمنتم خالق منفي السماء أن يخسف بكم الأرض كما خسفها بقارون” اهـ.
فبعد هذا يقال لهذاالمجسم أعني الألباني وجماعته: أنتم تعتقدون أن الله جسم متحيز فوق العرش له مقدارعندكم وهو أنه بقدر العرش لا أصغر ولا أكبر على ما قال زعيمكم ابن تيمية في بعضمؤلفاته وفي بعض إنه يقدر بالعرش ويزيد، ولو قال لكم عابد الشمس: كيف تقولون معبوديالذي هو الشمس لا يجوز أن يكون إلهًا مع أنه موجودٌ مشاهَدٌ لنا ولكم وكثير النفعينفع البشر والشجر والنبات والهواء ويطيّب الماء، وضوؤه يعُمُّ البشر، وأما معبودكمالذي هو جسم تخيلتموه فوق العرش لم تشاهدوه ولا نحن شاهدناه ولا شاهدنا له منفعة،فغاية ما تحتجّون به إيراد بعض الآيات كقوله: {اللهُ خالقُ كلِّ شئٍ} [سورة الرعد/16] فيقول لكم عابد الشمس: “أنا لا أؤمن بكتابكم أعطوني دليلاً عقليًا” فهل عندكم منجواب يقطعه كلا، أما نحن أهل السنة الأشاعرة والماتريدية نقول لعابد الشمس: معبودكهذا له حجم وشكل مخصوص فهو محتاج لمن أوجده على هذا الحجم وعلى هذا الشكل، ومعبودناموجود ليس ذا حجم ولا شكل فلا يحتاج لمن خصَّصهُ بحجم وشكل بخلاف الشمس، فهو الذييستحق أن يكون إله العالم لأنه لا يشبه شيئًا من العالم، ويقال أيضًا: أنواع العالمالعلوي والسفلي له حجم وشكل مخصوص فعلى قولكم الله له أمثال لا تحصى، فتبين أنكممخالفون لقوله تعالى: {ليسَ كمثلهِشئٌ} [سورة الشورى/11]، فكلمة شئ تشمل كل ما دخل فيالوجود من علوي وسفلي وكثيف ولطيف، فالآية نصٌّ على أن الله تعالى لا يشبه شيئًا منهؤلاء أي لا يكون مثل العالم حجمًا كثيفًا ولا حجمًا لطيفًا ولا متحيزًا في جهة منالجهات، ولم يقل الله تعالى ليس كمثله البشر ولا قال ليس كمثله الملائكة ولا قالليس كمثله الشمس بل عمَّم فقال: {ليسكمثله شئ}، قال شيخنا العلامة المحدث عبد اللهالهرري المعروف بالحبشي ما نصه: “والنكرة عند أهل اللغة إذا وقعت في حيّز النفي فهيللعموم، فمعنى الآية ليس كثله تعالى شئ من الأشياء على الإطلاق بلا استثناء” اهـ،أما أنتم فقد جعلتموه حجمًا في جهة فوق تلي العرش وجعلتم له أعضاء فقد شبهتموهبخلقه، فلم يبق لكم إلا أن تقولوا إنه إنسان، تعالى الله عن ذلك علوًّاكبيرًا.
الهوامش:
[1] أخرجه مسلم في صحيحه: كتابالإيمان: باب بيان كون النهي عن المنكر من الإيمان.
[2] أخرجه البخاري في صحيحه: كتاب الأدب: باب ما يجوز من الظن.
[3] أخرجه مسلم في صحيحه: كتاب الأقضية: بابنقض الأحكام الباطلة ورد محدثات الأمور.
[4] كتابه المسمى العقيدة الطحاوية شرحوتعليق الألباني [ص/27].
[5] كتابه المسمى مختصر العلو [ص/72].
[6] أخرجهالترمذي في سننه: كتاب الفتن: باب ما جاء في لزوم الجماعة.
[7] انظر الإحسانبترتيب صحيح ابن حبان [2/35].
[8] أنظر كتابة المسمى “صحيح الترغيب والترهيب” [1/116].
[9] أخرجه البخاري في صحيحه: أول كتاب بدء الخلق، وكتاب التوحيد: بابوكان عرشه على الماء، وباب قوله تعالى: {ولقد سبقتْ كلمتُنا لعبادنا المُرسلين}،وباب قوله تعالى: {بل هوَ قرءانٌ مجيدٌ* في لوحٍ محفوظ}، وأخرجه مسلم في صحيحه: كتاب التوبة: باب في سعة رحمة الله تعالى وأنها سبقت غضبه.
[10] المرجع السابق.
[11] أنظرالإحسان بترتيب صحيح ابن حبان [8/5].
[12] فتح الباري [6/291].
[13] السننالكبرى [6/240].
[14] أخرجه البخاري في صحيحه: أول كتاب بدء الخلق، والبيهقي فيالأسماء والصفات [ص/375].
[15] الأسماء والصفات [ص/400].
[16] رواه الإمامأبو منصور البغدادي في الفرق بين الفرق [ص/333].
[17] أخرجه مسلم في صحيحه: كتابصلاة الاستسقاء: باب رفع اليدين بالدعاء في الاستسقاء.
[18] الفرق بين الفرق [ص/333].
[19] الإرشاد إلى قواطع الأدلة في أصول الاعتقاد [ص/58].
[20] إتحافالسادة المتقين [2/109].
[21] شرح صحيح مسلم [5/24].
[22] تفسير الرازي [30/99].
[23] البحر المحيط [10/226].
[24] تفسير أبي السعود [9/7].
[25] الجامع لأحكام القرءان [18/215].