الجزء الثاني – هل كان آريوس مسلمًا؟
لا يختلف اثنانِ بعد نحو 17 قرنًا مِن وفاة آريوس في انقطاع أسانيد النَّاقلين عنه؛ مع ما شاب ذلك النَّقل الخالي من التحقيق الفني والفارغ من الأمانة العلمية من اجتماع كل عيوب الترجمة؛ مرورًا بتدخُّل خصوم آريوس أنفسهم في نقل عقيدته؛ وصولا إلى انقسام الآريوسيين أنفسهم في فهم شروحات صاحب مذهبهم. ولكننا نستطيع استخلاص الكثير مما أجمعوا على نسبته إليه (بالأصل) لا (بالاستدراك) وهنا عنيت بالاستدراك ما لم يتفقوا على نسبته إليه – أو ما نسبوه إليه نسبةً مرحليةً بدواع مختلفة – أو ما نسبوه إليه بالاقتباس عن إحدى الفرق المنتسبة إليه لا عنه هو شخصيا.
فمن عقائد آريوس:
– نفي إلهية عيسى عليه السلام،
– ونفي إلهية روح القدس وهو جبريل عليه السلام،
– مع ما يتبع ذلك من إنكار عقيدة الثالوث.
ومن عقائده:
– أن الإله ليس أصلا لغيره،
– أن الإله ليس فرعا لغيره،
– مع ما يتبع ذلك من إنكار أن المسيح هو ابن الله.
ومنها:
– تنزيه الله عن الجسم، والحدوث، والتغيّر، والتجزئة، ومشابهة المخلوقات.
ومنها:
– نفي خبر الصلب؛ وعقيدة الفداء والخلاص عندهم، واتهامهم باستلهامها من العقائد الوثنية التي كانت لا تزال منتشرة بقوة في ذلك الزمان.
الجُزء الثَّاني
المفصل الأوَّل:
لا يختلف العُقلاء أنَّ اختلاف التَّرجمات كان سِمَة ذلك العصر؛ وقد ساقهم عجز اللُّغة اللَّاتينيَّة عن مقارعة اللُّغات القديمة إلى تفويض المُترجمين بالزِّيادة الحرفيَّة والتَّصرُّف بالمعاني؛ فرُبَّما هذا منشأ إشكاليَّة وُجود ألفاظ الأب والابن في الإنجيل المُحرَّف، فآريوس يقول: (إنَّ الإله غير مولود) بينما (المسيح مولود) و(المولود ليس جُزءًا ولا فرعًا مِن غير المولود) وهذا ينطبق تحت قول الله في القُرآن الكريم: {لم يلد ولم يُولد} ويُساعد (اعتراف بيشوي عن أنَّ الغالبيَّة العُظمَى مِن الأساقفة المُجتمعين في نيقية لم يكونوا قد حدَّدوا رأيهُم في القضيَّة بعد) في ثبوت براءة الإنجيل الصَّحيح مِن الخلط الَّذي اعتمدوه تحت رهبة سُلطة إمبراطور وثنيٍّ!
أضف إلى ما تقدَّم عدم اختصاص المُترجمين بعلوم العقائد ومُصطلحات أهل ذلك الفنِّ؛ وللتَّقريب: فإنَّ لفظ الأزليِّ قد يُطلق على الخالق فيُراد به الموجود بلا بداية وقد يُطلق على المخلوق فيُراد به الكلام عن تقادم العهد والزَّمان؛ فلو مرَّتِ الكلمة على مُترجِم لا يعرف الفرق بين الإطلاقَيْن عند أهل علم الأُصول فإنَّه سيُلصق فَهمَه الخاصَّ بهذا اللَّفظ ويُثبته في التَّرجمة فيُحرِّف النَّصَّ الَّذي بَين يديه؛ وكذلك قد يُوجد في لُغة آريوس كلمات تحتمل معانٍ مُتعدِّدة غابت معانيها الاصطلاحيَّة عن المُترجمين لعدم اختصاصهم فوقعوا في أخطاء كُبرى. فآريوس الَّذي أنكر على الآخرين اعتقاد أنَّ عيسى ابنُ الله؛ لن يتفوَّه بكلام لا يعني إلَّا ما أنكره واعترض عليه ومات في سبيل مُكافحته.
وللتَّقريب مرَّة أُخرى أُورد ما نقله بعضُهُم عن آريوس مِن قوله: (الله واحد، غير مولود وحده، سرمديٌّ وحده، ليس له بداية وحده. الحقيقيُّ وحده، الَّذي له الخُلود وحده. وبجانب الله، لا يُوجد كائن آخَر) فهذا الكلام الَّذي يُوضح ويُؤكِّد أنَّ عقيدة آريوس تقوم على اعتقاد الوحدانيَّة في الله سُبحانه وتعالى؛ أجد فيه لفظ (الحقيقي وحده) خارج سياق المعاني المُرتَّبة أيُّما ترتيب؛ فمَن يجزم أنَّ آريوس لم يقُل هنا: (الإله الحقُّ وحده) أي: (الَّذي لا شريك له في الأُلوهيَّة) أو (الواجب الوُجود وحده) لكن المُترجم ولغفلته عن المُصطلح الأُصوليِّ لم يفهم مدلول كلام آريوس فقام بترجمته ترجمة مُحرَّفة فغيَّر المعنى وخرج بالسِّياق عن مُراد آريوس.
وآريوس مُفكِّر درس أُصولًا عقائديَّة فاستعمل مُصطلح (واجب الوُجود) في حقِّ الله ويُراد بذلك أنَّ وُجود الله واجب في حُكم العقل فلا يُصدِّق العقل عدم وُجود الخالق. وكذلك لو أخذنا قوله: (وبجانب الله لا يُوجد كائن آخَر) فلا يبعد أنْ تكون صِيغت بحسب قُوَّة لُغة المُترجم وفهمِه للمعاني المقصودة وليست عين ألفاظ آريوس الَّذي بدوره لا يبعد أنَّه قال: (الَّذي ليس معه أحد) كما في الحديث النَّبويِّ ونصُّه: <كان الله ولم يكُن شيء غيره> رواه البُخاريُّ أو أنَّه قال: (لا شريك له) وهي أكثر ملاءمة للسِّياق والمعاني المُرتَّبة.
والمقال يطول لكن أختم هذا المفصل بالإشارة إلى أنَّهم كانوا ينقلون مِن نُسَخ قديمة ولُغة قيل إنَّها كانت مكتوبة بحُروف مُتقطِّعة لا يُفصل فيها بين الكلمة والكلمة ولرُبَّما لم يسع السَّطر كلمةً ما فأُكمِلت في السَّطر التَّالي فضلًا عن اختلافهم في مدلولات كثير مِن الكلمات مثل (يم) ففي حين وجدها البعض أداة للجمع وجدها الآخرون بمعنى البحر.
وهُم قبل ذلك كُلِّه يزعُمون أنَّ الشَّعب اليهوديَّ لمَّا عاد مِن الأسر والسَّبي البابليِّ -الَّذي استمرَّ مُدَّة سبعين سنة- عاد يتكلَّم الآراميَّة وما عاد قادرًا على فهم النُّصوص الدِّينيَّة المكتوبة بالعبرانيَّة وهذا ما يُؤكِّد -في حال صحَّته- دَور التَّرجمة في تحريف شريعة بعض الأنبياء مِن جهة وفي تحريف شُروحات المُنظِّرين لها. وبكُلِّ حال فإنَّ طعنهم طال كُلَّ التَّرجمات بما فيها المُعتمَدة عندهم كالآراميَّة واليونانيَّة والسُّريانيَّة والقبطيَّة واللَّاتينيَّة والحبشيَّة والإنكليزيَّة والعربيَّة علمًا أنَّ بعض التَّرجمات كانت تنبثق مِن ترجمة في لُغات أُخرى غير الَّتي نزل بها الكتاب وهكذا..
المفصل الثَّاني:
وقد احتكر خصوم آريوس نقل عقيدته؛ والمُتخاصمون يتَّهمون بعضهم بالكذب على الله فكيف يُنّزَّهون مِن الكذب على بعضهم! والأريوسيَّة أُبيدت تمامًا في نهاية القرن الثَّامن الروميِّ وانقطعت أسانيد العقائد الأريوسيَّة انقطاعًا تامًا ولم يعد مِن مُخَبِّرٍ عنها سوى الخصم. أضف إلى ما سبق أن أقلَّ الخصوم عداوة وأكثرُهُم إنصافًا قد لا يرقى إلى فهم عقائد المُخالفين لا سيَّما مع كثرة الشُّبُهات الَّتي أُحيطت بترجمات ذلك العصر.
ثُمَّ إنَّ المُتَتَبِّع لِمَا نقلوه عن آريوس يلحظ -وبسهولة- استدراكات كثيرة في ذلك وخلطًا مِن المُتناقضات لا أتصوَّر وُقوعها مِن رجل ثبت على مواقفه رغم الطَّرد والنَّفي والسِّجن والتَّنكيل حتَّى الاغتيال؛ فمِن ذلك إقرارهم أصلًا بإنكاره أزليَّة عيسى وإصراره على أنَّه مولود مخلوق ثُمَّ استدراكهم في النِّسبة إليه بعد ذلك بأنَّه قال عن المسيح إنَّه مولود قبل كُلِّ الدُّهور!
وهذا المفصل [تدخُّل الخصوم في نقل عقيدة آريوس] لا يقلُّ خطورة عن الَّذي سبقه [مفصل التَّرجمة] وإنِ احتاج الأوَّل مِن الشَّرح ما لم يحتج إليه الثَّاني لشدَّة وُضوح فكرته، إلَّا أنَّ في خاتمة هذا الجزء استكمال بيان المفصل الثَّاني بالأمثلة المُنبثقة مِن المنقولات.
المفصل الثَّالث:
واختلاف الآريوسيِّين بعد آريوس في فهم شُروحاته ساهم في وُقوع الخلط في العقائد المنسوبة له وتسبب بتحريف دعوته وشوَّه مذهبه وأقواله؛ وهذا مُحتمَل بدرجة كبيرة؛ فطالمَا التَّحريف وقع في شريعة عيسى عليه السَّلام بعد مائتي سنة -أكثر أو أقلَّ- وهُو النَّبيُّ الرَّسول مِن أُولي العزم فكيف يُستغرب بعد ذلك في وقوع التَّحريف ولو جُزئيًّا في دعوة رجل صاحب فكر لا يرقى أنْ يكون نبيًّا ورسولًا بعد مائة سنة مِن وفاته!
خاتمة الجُزء الثَّاني:
تقدَّم في مقدمة هذا الجُزء -الثَّاني- مِن المقال بيان عقائد آريوس المُوافِقة للعقائد الإسلاميَّة؛ وأختُمُهُ بإذن الله بالجواب عن احتمالات نُشوء ما خالفها فيما نقلوا عنه.
فقد نسب بعض الكتبة إلى آريوس القول بأنَّ المسيح “مولود مِن الله” وهذا غاية منهُم في مُناقضةِ صريحِ ما نُقِل عنه مِن قوله: (صُنِعَ ممَّا هُو غير موجود) وهي عبارة مُثبَتَة عنه عندهُم فيما يُسمُّونه قانون الإيمان النِّيقاويِّ وهي صحيفة يُجمعون حتَّى اليوم على الثِّقة بها. كذلك في عبارته المُثبتة عندهُم في رسالة إلى أسقف نيقوميديَّة ونصُّها الحرفيُّ: (ولا جُزء مِن غير المولود) أي المسيح ليس جُزءًا ولا فرعًا مِن الله.
ولا أظُنُّ الحقيقة في هذه المسئلة إلَّا أنَّه قال: (مخلوق مِن الله) وذلك لأنَّ كلمة المخلوق gegenimenos لو زِيد عليها حرف n لصارت تعني المولود gegennimenos؛ فاحتمال استعمال آريوس عبارة (خَلْقُ الله) أو (عبدالله) فترجمُوها تحريفًا “ابن الله” أو “ولد الله” والعياذ بالله. وفي هذا المفصل بيان احتمال نُشوء ألفاظ الأب والابن المنسوبة إليه بالمعنى الَّذي أرادوه لا باللَّفظ الَّذي استعمله حقيقة ولا بمعناه الحقيقيِّ.
وقد نسبوا له أنَّه قال: “الابن قد وُلِدَ قبل كُلِّ الدُّهور” وهي عبارة استدركوا نسبتها إليه لا وُجود لها في المُناظرات الأُولى موجودة في رسالة له مزعومة حفظها عنه أعتى خُصومه ومُناظريه! وهي مُناقضة لِمَا أثبتوه عنه في ما يُسمُّونه قانون الإيمان النِّيقاويِّ وهي صحيفة يُجمعون حتَّى اليوم على الثِّقة بها ونصُّ المنسوب إليه في ذلك القانون هُو التَّالي: (كان هناك وقتٌ فيه الكلمة لم يكُن) والكلمة هُنا يعني المسيح عليه السَّلام.
فما نقلوه عنه كان مُوافقا للعقيدة الإسلاميَّة؛ وما نقلوه عنه -استدراكًا- كان مُناقضا للأصليِّ أو مُقتبَسًا مِن الفِرق التي انقسمت في فهم شُروحاته بعد مماته مُنبَثَقًا مِن ألفاظ غيره في التَّعبير عنه؛ وإنَّ القليل المردود بالأعلى يعطي فكرة يمكن البناء عليها والتَّأسيس لتحرير منهجية آريوس العقائديَّة المُتوافقة مع مَن يفهم اصطلاحات الأُصوليِّين الخاصَّة بهم؛ لأنَّ العارف باصطلاحات الأُصوليِّين لو اطَّلع على هذه التَّرجمة المنسوبة لآريوس في رسالته المُوجزة إلى يوسابيوس النِّيقوميديِّ.
ونصُّ الرِّسالة: (إنَّ منهُم مَن يقول إنَّ الابن هُو تجشُّؤ الله، والبعض الآخر إنَّه إنتاج الله، والبعض الآخر إنَّه أبديٌّ أيضًا، وهذا ما لا نستطيع قَبوله أو الاستماع عليه. على الرُّغم مِن أنَّه قد حُكِمنا بالهرطقة وقُتل منَّا الآلاف، لكنَّنا نقول ونعتقد كما تعلم وتعلم أنَّ الابن ليس أبديًّا ولا في أيِّ شكل مِن الأشكال، بل هُو جُزء مِن الأبديِّ. فالله كامل ووحيد وثابت. إنَّنا مُضَّطهدون لأنَّنا نقول إنَّ للابن بداية لكنَّ الآب هُو البداية) انتهى.
ولا يُتصوَّر صُدور بعضه ممَّن ثبت عنه أعلاه مِن العقائد ما ثبت؛ بل يُتصوَّر وبقُوَّة احتماليَّة أنْ تكون ألفاظ آريوس الحقيقيَّة على الشَّكل التَّالي: (إنَّ منهُم مَن يقول إنَّ المخلوق/المولود هُو “تجشُّؤ الله”؛ والبعض الآخر إنَّه “مولود لله”؛ والبعض الآخَر إنَّه “بلا بداية”، وهذا ما لا نستطيع قَبوله أو الاستماع إليه، على الرُّغم مِن أنَّه قد حُكِمَ علينا بالكُفر وقُتل منَّا الآلاف، لكنَّنا نقول ونعتقد -كما تعلم وتُعلِّم- أنَّ المخلوق ليس أزليًّا بل ويستحيل أنْ يكون كذلك، بل هُو مخلوق أوجده الخالق. فالله هُو الإله الحقُّ الواحد الموصوف بكُلِّ كمال يليق به والمُنزَّه عن كُلِّ نقص في حقِّه. إنَّنا مُضطهدون لأنَّنا نقول إنَّ للمسيح بداية وإنَّه لا بداية للخالق).
انتهى.
Sunna Files Free Newsletter - اشترك في جريدتنا المجانية
Stay updated with our latest reports, news, designs, and more by subscribing to our newsletter! Delivered straight to your inbox twice a month, our newsletter keeps you in the loop with the most important updates from our website