أولًا- من هم الأرمن؟
هم شعب ينتمي للعرق الآري، وبلاده تمتد من أرمينيا التاريخية إلى الشرق من المنابع العليا لنهر الفرات وحتى بحر قزوين وإيران، وتحدها من الجنوب سلسلة جبال طوروس الأرمنية، في حين تمتد أرمينيا الصغرى إلى الغرب من منابع نهر الفرات. وتبلغ مساحة أرمينيا العظمى وأرمينيا الصغرى معًا، حسب بعض المؤرخين، نحو 358 ألف كيلومتر مربع، وهي تعادل نحو 12 ضعف مساحة جمهورية أرمينيا الحالية.
ثانيًا- الأرمن والأمويون
لقد كانت علاقة الأمويين بالأرمن علاقة الحليف بحليفه، وكان هذا التحالف ضد الإمبراطورية البيزنطية، والفارسية، وكان الأمويون قد أبدوا بهذا الحلف عن نظرة سياسية ثاقبة؛ فأرمينيا تتوسط هذه الإمبراطوريتين، ومثل هذا الحلف لا يؤدي إلى الخلف، بل إلى التقدم؛ وهذا ما حصل.
ثالثًا- الأرمن والعباسيون
لقد حصل الأرمن على ما لم يكونوا يحلمون به، وهو الاستقلال باختيار من كان يعتقد أن من واجبه منع مجرد الحلم بمثل هذا الحلم؛ لقد كانت أرمينيا ذات نظام سياسي تابع للخليفة بشكل أو بآخر، وأرمينيا مؤلفة من إقطاعيات مسيحية تغلغلت بينها بعض المواقع الإسلامية، وكانت حائرة بين جذب البيزنطي لها، وجذب العربي، وكان الذي قطع هذه الحيرة هو الخليفة العباسي الذي عرض على البيزنطي أن تكون إرمينيا مملكة مستقلة، وعاصمتها آني.
******
يعتقد “كلود كاهن” أن لا بد من إزالة أوهام راسخة روجتها دعاية الصليبيين ضد المسلمين؛ فعندما انتشر الإسلام واستقرت الأحوال لم يعد “للذميين” تلك المكانة التي كانت لهم قديمًا، يوم كانت الدولة الإسلامية في بداية نشأتها، إلا في عهد الحاكم بأمر الله، والذي كان يبدي من نفسه بعض الأفعال التي لا يأتيها عاقل.
Sunna Files Free Newsletter - اشترك في جريدتنا المجانية
Stay updated with our latest reports, news, designs, and more by subscribing to our newsletter! Delivered straight to your inbox twice a month, our newsletter keeps you in the loop with the most important updates from our website
“… ما أكثر الشهادات التي تثبت خلاف ذلك -يقصد كاهن خلاف تلك الأوهام المروجة-؛ ذلك أن المسيحيين المحليين ما إن يعود الاستقرار ويستتب الأمن حتى يتنفسوا الصعداء ويشيدون بسلطة السلاجقة”. وهولاء المسيحيون لم يستعينوا قط بالجند الغربي.
لقد بدأت الأزمة الحقيقية حينما هاجمت شريحة من المغول خرسان، وكان من بين هؤلاء المغول مسيحيون نساطرة، وكان كبيرهم أب مسيحي من آسيا الوسطى؛ فولدت عنده شخصية الأب يوحنا، إنها شخصية “بحث عنها الغرب تجاوبًا مع كوارث التاريخ، عند المغول ثم الحبشة”.
ومن جانب آخر، استقر الصليبيون الأوربيون في أثناء انهيار الدولة السلجوقية في سوريا وفلسطين وفيما وراء الفرات حتى مدينة الرها (أدس) الأرمنية اليونانية، وقد كان استقرارهم لإهمال المسؤولين، وانهماك المواطنين في المدنية رغم أن الظروف كانت توجب عليهم التفاتًا للجانب القتالي.
لقد كان الاعتداء الصليبي وحشيًا بكل ما تعنيه الكلمة من معنى، ورغم محاولات الأمراء المتحررين من تبعية السلطنة ومحاولتهم عقد اتفاق مع الفرنجة؛ إلا أن الغزاة لم يظهروا أي رحمة بالسكان المحليين العزل، وهذه الوحشية أعادت لمفهوم (الجهاد) قيمته التي يحتاجها ليفعل في نفس المؤمن مفعوله العجيب. وكانت القيمة التي استرجعها مفهوم الجهاد عبر خطوة تنبه لها القائد “عماد الدين زنكي” وهي خطوة لا بد منها لتوحيد الصف الذي شققته الخلافات المذهبية، وقد كان عماد الدين يتمذهب بمذهب سني هو المذهب الأشعري، القائم على أساس نظر له الإمام “أبو الحسن الأشعري” صاحب المذهب، وهو ما يسمى (العقائد المشتركة) وكان الدافع للتنظير لهذا الرأي شيوع التكفير بين طوائف المعتزلة والخوارج وأهل الحديث والشيعة، وقد استمر على هذا الهدي السلطان “نور الدين بن عماد”.
وكانت مصر، المحكومة من قبل الفاطميين، مهددة من الغزاة الصليبين؛ فأرسل نورالدين إليها جيشًا كرديًا عرمرمًا بقيادة “شيركوه” الذي توفّي بعد أن استقر في مصر، فخلفه “صلاح الدين” الذي لم يحد عن سياسة ونهج نورالدين، وكان صلاح الدين قد ألغى الخلافة الإسماعيلية بعد انتصاره المشهور، وقد ناصر صلاح الدين جموع سنية، فالمصريون رغم أنهم محكومون من قبل عائلة تصنف من غلاة الشيعة؛ إلا أنهم بقوا سنة، لكن قلوبهم لانت لجانب آل البيت.
وقد اعتمد الأيوبيون بعد وفاة صلاح الدين على سياسة السلم، وقد ازدهرت بين البلدين والمواطنين علاقات تجارية، لكن أوقات السلم تنقطع بين فينة وأخرى، والغرب الذي يبادر إلى قطع هذه العلاقة لاحتراقه على القدس.
لقد كانت الدولة الأيوبية تجنح للسلم علّ الغربي يجنح؛ فأرسل السلطان الأيوبي إلى الطرف الغربي يقترح أن تكون القدس مدينة منزوعة السلاح، متاحة للجميع، فتم الاتفاق؛ لكن الاستنكار كان كبيرًا لهذه الخطوة الواعية كالعادة.
يؤكد “كلود كاهن” على أن: “… المناخ الذي عاشه المسيحيون المحليون واليونان في الغرب، والأرمن، وأحيانًا السريان أصحاب عقيدة الطبيعة الواحدة للمسيح، في الشرق، غدا لا يختلف في شيء عن المناخ الذي عاشه المسيحيون في الدول الإسلامية القديمة -لاحظ المعيار هو الدولة الإسلامية القديمة- بل كان أحيانًا أفضل منه من حيث الحقوق والواقع المعيش … كان ذلك المناخ أشبه بانصهار عناصر شديدة التنوع في بوتقة واحدة، ضمنتها الدولة السلجوقية الواحدة، التي لم يكن فيها من يترحم على الدولة البيزنطية؛ حيث كان فيها من يبكون من وطأة الضرائب وكثرتها، ومن يشكون من التمييز الديني”.
******
تحت قيادة “جنكيز خان”، كان غزو المغول للعالم الإسلامي كارثة أعظم مع سيطرة الصليبيين على أكثر الأراضي الإسلامية. ففي عام 1256 غرقت بغداد في دماء أهلها، وذبح آخر خليفة عباسي على يد “هولاكو”. وقد أعلن كل من الأرمن وفرنجة أنطاكية خضوعهما التام لمن ظنا أنهم حلفاؤهما ضد المسلمين، وشاركا في حصار حلب، ثم احتلال دمشق، وغمرت الفرحة قلوب بعض المسيحين؛ لأنه كان من بين المغول إخوان لهم من النساطرة، وكان الاعتقاد أن نهاية الإسلام قد بدأت.
لقد خاب أمل هؤلاء المستبشرين بالغزو المغولي خيبة جعلت أحفادهم من بعض مؤرخي عصرنا الحديث كما يقول كاهن “ينتابهم حنين في غير موضعه إلى المغول؛ فيأخذون على أوربا تفويتها فرصة تاريخية سنحت بظهور المغول، للقضاء نهائيًا على الإسلام، ونسوا المجازر التي ارتكبها المغول بحق المسيحيين في أوربا الشرقية والتي لا تقل همجية عن تلك التي ارتكبوها بحق مسلمي آسيا الغربية”.
بعد كل ذلك، لا تسأل عن التعايش؛ فالمسلمون لم يصفحوا عن أولئك الذين أعانوا عليهم المغول، وستظهر أزمة عدم تسامح وتعصب ديني، وستستمر حتى يومنا هذا، مع انقطاع طويل واختفاء لهذه الأزمة تحت الرماد، وهذه الحالة وإن كانت غير كافية؛ إلا أنها بمبادرة وتجاهل من المسلمين.
وقد لاحظت أن الدافع إلى الانطواء على النفس وعدم الانفتاح على الآخر هو غدر ذلك الآخر، الذي جعل العلماء المتشددين يملكون حجة ووجاهة نظر، ويحرج أمثال “المأمون” وفيلسوف العرب الأول “الكندي” و ”ابن رشد” وغيرهم ممن كانوا يدافعون عن الانفتاح، وأن الحق في الانفتاح، والذي لا يعكس الانصراف عن علوم السلف، بل يعكس الثقة فيها.
ولم يبق لنا في هذا العرض الأول والمختصر لتاريخ العلاقة بين شعب الأرمن والأمة الإسلامية ممثلة برجال السياسة، إلا ذكر أن الفاتح العثماني ما كان ليفتح القسطنطينية لولا نقمة المسيحيين على إخوانهم اللاتينيين، وضمان قوة العثمانيين ومقدرتهم على حمايتهم، والعيش في ظل الدولة الإسلامية محميين من أنفسهم قبل الآخرين، ولولا أنهم لم يعلموا ذلك، ما كانوا ليغامروا هذه المغامرة
مقدمة ثانية: الأرمن والعثمانيون “حديثًا”
لقد جاء وقت كانت فيه رقعة الدولة العثمانية على القارات الثلاث، آسيا وأوروبا وإفريقيا، والأكثرية الساحقة من سكان الدولة في آسيا كانت للمسلمين، أتراكًا وعربًا وأكرادًا، مع أقلية مسيحية ويهودية. أما في البلقان، فكانت الأكثرية من المسيحيين اليونان والبلغار والصرب والجبل الأسود والڤلاس، مع أقليات مسلمة من البوسنيين ومعظم الألبان والبوماك -المسلمين البلغار-؛ هذه تقسيمات سكان الدولة.
وقد كانت الدولة تلزم المسلم بدفع الزكاة، وغير المسلم بدفع الجزية.
لقد تمتعت جماعات “الذميين” بقدر من الاستقلالية في ممارسة شؤونهم الخاصة، وكانوا ممثلين بزعمائهم الروحيين في تعاملاتهم مع ممثلي الدولة، وهذا التفاعل يتم تحت نظام اسمه ” نظام الملة” هذا النظام الذي أسيء فهمه، على حد تعبير المؤرخ “إريك زوركر”، وقد حدد السبب وهو عجيب ولا يتعجب من علم السبب الحقيقي؛ وهو أن الباحثين كتبوا ما كتبوا بناءً على التنظير وليس ما هو بالفعل (!) لقد كان الذميون يتمتعون باستقلال، لكن سجلات المحاكم الشرعية العثمانية (قاضي سجلاري) تسجل اعتماد المسيحيين واليهود على المحاكم الشرعية الإسلامية وعزوفهم عن التحاكم إلى محاكمهم الخاصة.
الثورة الفرنسية
لقد كان تأثير الثورة الفرنسية على أفراد الطوائف المسيحية من المثقفين في الدولة، أما المسلمون فلم يتأثروا بشكل لافت، أما على مستوى الخليفة، فقد كان هناك تأثر، لكن للأسف ليس بالثورة، بل بالملك صاحب الصلاحيات المطلقة والذي انتهى به آخر المطاف إلى المقصلة؛ إن هذا لمحزن، وإنه لكريه، أن يكون الحاكم بلا آلة ولو حتى كانت (المؤخرة) -وليسامحني القارئ العزيز- ليعتبر، ويخاف من غضب الناس الذين ملوا الذل والهوان؛ ما هذه القسوة التي لا تجعله يفكر في احتمال أن يلقى مثل حال من أعجبهُ بعض حاله؟ ما هذا الأمان لمكر العبيد؟ قيل من أمن العقوبة أساء الأدب.
لقد تمسك المثقفون بخيار الحرية، ومن الحرية من وجهة نظرهم (حق تقرير المصير) والانفصال عن الإمبراطورية العثمانية وحق الحكم الذاتي، وقد شهدت سنة 1808 بداية العصيان الصربي المسلح، وقد كان قبل تحوله للمسلح مجرد احتجاجات على تجاوزات أصحاب الأراضي (المسلمين والانكشارية). ولن ندخل في معمعات مشروعية هذه الخطوة. لكن، من المهم أن نذكر أن القائد الأول لهذه (الحركة الانفصالية) كان تاجر خنازير يدعى “قره جورج”، وهو أحد أعضاء (فيليكي إيتريا)، وهي جماعة أخوية سرية تعيش على أمل إحياء الإمبراطورية البيزنطية التي قضت نحبها على يد السلطان الشاب ذي (21) ربيعًا، محمد الثاني بن مراد العثماني “محمد الفاتح”، ضد حلف مكون من البيزنطيين والبنادقة والجنويين بقيادة قيصر الروم الإمبراطور قسطنطين پاليولوگ الحادي عشر.
وفي حالة توتر بين الباب العالي وجنوده الانكشارية، قاد قره جورج انتفاضة في صربيا ضد تجاوزات حاميات الانكشارية عام 1804. وقد تسامحت حكومة سليم الثالث مع هذه الانتفاضة، وذلك لانخراطها في صراع أهم مع الانكشارية، عصب حياة دولة آل عثمان، والذين سيصبحون في آخر الأمر عصب الموت لدولته. وبعد سنتين من التاريخ أعلاه، انتفضت مرة أخرى الجماهير، ونتجت عن انتفاضتهم هذه معاهدة بين القائد الصربي ميلوش أوبرانوفيتش والعثمانين تقضي بحكم ذاتي لإمارة صربيا.
ا1821:لقد ترأس “ألكسندر إبسلانتيس”، وهو جنرال في الجيش الروسي، جمعية (فيليكي إيتريا)؛ واعتبر هو ومجموعته أن الوقت قد حان من أجل قيام ثورة شاملة، وعينهم على احتلال الأفلاق ورومانيا، من أجل إقامة إمبراطورية بيزنطية جديدة بقيادة يونانية، وليس فقط دولة قومية يونانية، وقد فشل الغزو المرافق لهذه الثورة لعدم اتفاق القوم؛ إلا أن ثورة شعبية أخرى متأثرة بأفكار الجمعية ضجرت من سوء الحكم العثماني قد اندلعت، وبالرغم من انقسام الثوار؛ إلا أنها انتصرت 1812/ 1824. وبعدها بسنة، وبطلب من السلطان؛ تدخل المصريون وكادوا ينهون نجاحاتهم المبهرة بانهيار المتمردين بشكل كامل لولا أن تدخلًا أوربيًا حدث، وهو عن تعاطف ليبرالي مع أصحاب الحضارة الكلاسيكية وطموحات القومية اليونانية، وقد كان محدودًا بالدعم المعنوي والسلاح. ولولا أن الغرب الأوربي كان يخاف أن تتحول دولة اليونانيين إلى دمية في يد الروس، وإلا لاستجابوا لدعوة القيصر الروسي في التدخل العسكري وإقامة هذه الدولة.
ا1860: تطورت المشاكل بين المسيحيين الموارنة والدروز في جبل لبنان إلى حرب أهلية؛ لقد ثار المسيحيون على الإقطاعيين الدروز والموارنة معًا، وتدخل المقاتلون الدروز وارتكبوا مذابح ألفية في الفلاحين، وبعدها قام بعض الغوغاء من المسلمين بقتل 500 مسيحي في دمشق؛ لقد كان الباب العالي مجاهرًا بعجزه، لذلك لم يجد بدًا من توكيل متصرف عثماني مسيحي يعين بموافقة القوى العظمى التي ضغطت عليه.
ا1866: وقد ثار سكان جزيرة كريت احتجاجًا على سوء إدارة العجوز العثمانية، ثم تحولت ثورتهم إلى حركة قومية للوحدة مع اليونان، والأخيرة تحمست فأرسلت المقاتلين لدعم الثوار، وحثت روسيا الدول الأوربية على التدخل؛ إلا أن تردد بعض الدول منع دون ذلك، وتم الاكتفاء بالضغط على الباب العالي بالعفو والإصلاح وبذلك انتهت الثورة 1868. وقد كان الإقطاعيون المسلمون في البوسنة والهرسك في أخذ ورد مع الفلاحين المسيحيين الغاضبين من 1853 حتى 1862 وانفجرت ثورة دعمها الجبل الأسود، قمع الحاكم العثماني هذه الثورة واحتل الجبل الأسود، وقد كاد هذه الاحتلال أن يكون نهاية تواجد العثمانيين في أوروبا.
لقد كان المصرفيون الأرمن يقرضون حكومات الإصلاح العثماني التي تعاني من أزمة مالية ملازمة وبنسب فائدة عالية تصل من 16: 18% سنويًا. وفي تلك الأوقات، كانت الطبقة البرجوازية اليونانية والأرمنية أكثر ثقة. كما أن علاقتها بأوروبا أدت إلى نشر الأفكار السياسية الفرنسية بين أفراد الطبقة التي دبت فيها حركة بروستانتية.
******
مع التدخل الفاعل من قبل القوى الليبرالية العظمى في الشأن العثماني، ومع تفاقم مشاكل المقدونيين والأرمن، ومع استخدام الجمعيات السرية والتنظيمات الإرهابية تكتيكات لحث هذه القوى على التدخل العسكري، إلا أن تلك الدول تكتفي بالمطالبة بالإصلاحات وقدرًا من الحكم الذاتي. إنها في الواقع خطة لاستنزاف ما بقي من نشاط العجوز العثمانية، وهذه السياسة مازالت محل ثقة تلك الدول العظمى.
وفي 1887: شكلت مجموعة من الطلاب الأرمن في جنيف جمعية قومية راديكالية تدعى “الجرس” وتبعتها جمعية أكثر اعتدالًا وأكثر توجهًا إلى الديمقراطية تدعى “الاتحاد الثوري الأرمني”، وقد توسل هؤلاء الإرهاب للفت انتباه العالم؛ فوجه لهم فرقة الحميدية، وهي فرقة غير مسجلة (شبيحة)، فقتلت في خريف 1894 أعدادًا كبيرة من الأرمن. وبعد ذلك بسنة واثنتين احتلت مجموعة أرمنية المركز الرئيس للمصرف العثماني، وقد تسبب ذلك بمجزرة أمام ناظر القوى العظمى الفرحة بتصرفات هذه العجوز المخرفة، وبذلك خمدت المنطقة وانتهت المعارك.
حركة تركيا الفتاة
عبدالحميد أنشأ المؤسسة التربوية الحديثة التي ستخرج أجيالًا من المتعلمين الذين سينجذبون بطبيعة الحال إلى الأفكار الليبرالية مع الوطنية العثمانية التي نشهرها “العثمانيون الشبان”، وهؤلاء نشيطون فكريًا وبشكل سري، وكانت مؤلفاتهم ورسائلهم رائجة في مدارس الملكية والحربية. لقد كان عبدالحميد البديل لمراد الخامس الذي تولى بعد انتحار السلطان عبدالعزيز 1878 وكان انتحاره قد أثر على مراد لدرجة الحكم عليه بعدم الأهلية للخلافة.
ظهرت شائعات أن مراد قد تعافى مما جعله مؤهلًا لاستعادة العرش، ولكن عبدالحميد الذي قرب أهل التصوف كان متمسكًا بالخلافة، فقامت محاولتان للانقلاب عليه: إحداها للعثمانيين الشبان، والثانية لأصدقاء مراد الماسونيين. والمحاولتان قد فشلتا.
وفي 1889: وكان عبدالحميد قد عطل الدستور وأغلق البرلمان، وكانت أول مجموعة معارضة قد أبصرت النور في المعهد الطبي العسكري؛ عندما أسس أربعة طلاب (جمعية الاتحاد العثماني) الداعية إلى استئناف العمل بالدستور وفتح البرلمان.
انتقلت هذه الجمعية إلى باريس، وبقيادة العلماني “أحمد رضا” اتخذت الجمعية تسمية، هي شعار للوضعيين، “جمعية النظام والترقي”، لكن جماعتهم في إسطنبول رفضت هذه التسمية واختارت (جمعية الاتحاد والترقي).
بالرغم من أن تركيا الفتاة قد ناضلت لإعادة إحياء البرلمان، وكانت ضد الحكم السلطاني الأوتوقراطي؛ إلا أنها لم تكن حركة ديمقراطية. وقد كان للمفكر الفرنسي غوستاف لوبون أثر عظيم في الاتحادين. وقد كانوا معارضين لما رضي به الشق الثاني من المعارضة وهم الماسونيون والأرمن ومجموعة صباح الدين من مشروعية التدخل الأجنبي والعنف في سبيل إزاحة عبدالحميد، وذلك خوفًا على استقلالية الإمبراطورية.
لقد نجح العثمانيون الشبان بعد نضال قد تجاوزتُ ذكر تفاصيلة في إعادة العمل بالنظام الدستوري وفتح البرلمان، وكانوا توقعوا أن يكون ذلك النجاح آية مصداقيتهم عند الدول الغربية الليبرالية التي كانوا يتوقعون دعمها؛ إلا أن توقعاتهم لم تقع، وآمالهم عادت إليهم خائبة، فقد قسمت أراضي الإمبراطورية على الطرف الأوروبي على النمسا وبلغاريا واليونان، وبريطانيا راضية، وباقي الدول العظمى ساكته. وحينها علم الاتحاديون أن عليهم أن يستخدموا الورقة الإسلامية والمقاومة، خاصة وأن ضغط التوسع الإمبريالي في مشاريع حكومتي فرنسا وبريطانيا وألمانيا ظاهر في العراق وسوريا. ولقد أحست إيطاليا بأنها لن تكون قوة عظمى بلا توسع إلى الجنوب في ليبيا، ولما ضمنت موافقة بريطانيا وفرنسا وسكوت ألمانيا والنمسا، سعت إلى طرابلس الغرب واحتلتها بدعوى خوفها على مواطنين طليان من المتعصبين الإسلاميين؛ عندها قرر الاتحاديون دعم مجاهدي الطريقة السنوسية (ومنهم شيخ المجاهدين عمر المختار)؛ فدفعت بضباط قادوا البدو في هجمات ناجحة أعاقت تقدم الطليان.
#العثمانيون في الحرب العالمية الأولى
لم يكن الحليف الألماني واثقًا من جاهزية وقدرة العسكرية العثمانية؛ إلا أنهم شجعوا العثمانيين على اتباع استراتيجية هجومية. ولقد كلفت ألمانيا القائد “برونسارت فون شلندروف” برئاسة أركان الجيش العثماني.
وعلى جبهة القوقاز، كان الروس أول المهاجمين؛ إلا أن الجيش العثماني تمكن من صدهم بنجاح. هذا النجاح سيكون سببًا للخسارة الفادحة أمام الروس بعد ذلك؛ فـ “أنور باشا”، الذي أخذ المخططات الألمانية بحماس شديد، نسي أن مع الروس قوة غير العسكرية وهي الطبيعية. لقد هزم الجيش العثماني الذي يتألف من 90 ألف عسكري ولم يتبق منهم سوى 12 ألفًا.
القضية الأرمنية
ترك هذا الإخفاق العسكري التام شرقي الأناضول الباب مفتوحًا أمام الروس، ومن الباب نفسه سيدخل الموت على الشعب الأرميني الذي رأى في الانتصار الروسي فرصه لا تعوض لنيل الاستقلال وإقامة دولة أرمينية. وقد شجع الروس هذه الطموحات، بل إن بعض الأرمن انضموا إلى الجيش الروسي رسميًا، وهؤلاء غير الذين فروا من الخدمة في الجيش العثماني.
لقد وصل الغضب في حكومة الاتحاد والترقي إلى غايته، فصدر قرار بإخلاء المنطقة من الأرمن وإسكانهم دير الزور، وبحلول صيف عام 1915 كان شرقي الأناضول خاليًا تمامًا من الأرمن.
لقد تسبب هذا الترحيل في فاجعة الأرمن؛ فقد توفت أعداد هائلة منهم، وقد اختلف في عدد المتوفين؛ فالأتراك قدروا العدد بحوالي 200 ألف نسمة، والأرمن يدعون عشرة أضعاف هذا العدد، ويعتقد المؤرخ “إريك زوركر” أن تقدير “جوستن مكارثي” 600 ألف إلى 800 ألف حالة وفاة هو الرقم الأكثر احتمالًا.
ويتمسك الأرمن بوثائق تسمى (أوراق أندونيان) وهي وثيقة وحيدة وثقت هذه الفاجعة، ولكن قد تبين فيما بعد أن هذه الأوراق مزورة. أما وثائق الألمان الناشطين في شرقي الأناضول فما فيها غير إبداء الصدمة، وقد طالبوا حكومتهم أن تفعل شيئًا؛ لكن الجواب كان الترك لأجل مصلحة الدولة.
من المتورط؟
الأكيد أن الباب العالي بريء من دم الأرمن، والأكيد أن أمر الترحيل صادر من حلقة داخل لجنة الاتحاد والترقي، والعجب أن الأرمن الذين كانوا الضحية مارسوا دور الجلاد على أنفسهم بتحريض من الدول العظمى التي استغلت سوء علاقتهم مع الدولة للكيد للباب العالي.
إن الغرب يتحمل المسؤولية من وجه آخر أيضًا هو الوجه الفكري، فالقائمون على حكومة الاتحاد والترقي كانوا مهووسين بالنظريات المادية والفلسفات الحداثية التي يروجها الغرب؛ فالأتراك الشبان الذين تعلموا في فرنسا، وعارضوا الباب العالي من فرنسا، كانوا تحت تأثير المادية البيولوجية الداروينية الاجتماعية، لذلك؛ نجد “كوشتو باشي زاده أشرف بيه” وهو عضو بارز في التنظيم الخاص يصف العثمانيين اليونانيين بالورم الداخلي الذي ينبغي إزالته. أما “د محمد رشيد” فقد اعتبر المسألة لا تخرج عن خيارين: فإما قتل المرض بقتل المريض، أو رؤية الأمة التركية تدمر على أيدي رجال متهورين. وقد كان موقف الأمين العام للجنة (الاتحاد والترقي) الجنرال “مدحت بيه” موافقًا على هذا التقييم كله.