روى أبو داوود رحمه الله عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال “إنّ الله يبعث لهذه الأمة على رأس كل مائة سنة من يجدد لها دينها”. وقد اتفقت الكلمة واتحدت عند العلماء المعاصرين لابن دقيق العيد بأنه مجدد تلك المائة، والإمام المقدَّم بالعلم والفتوى والزهد والقضاء. وحينما توفي قاضي القضاة في مصر، وهو التقيّ عبد الرحمن ابن بنت الأعز ، وخلا بموته هذا المنصب، وذلك في عهد السلطان منصور بن لاجين، أشار أحد المقربين إلى هذا السلطان قائلاً “ألا أدلك على محمد بن إدريس الشافعي، وسفيان الثوري، وإبراهيم بن أدهم؟ قال له: نعم. قال: عليك بابن دقيق العيد.
المولد والنشأة
في عرض البحر ولد ابن دقيق العيد، وأبواه متوجهان إلى الحجاز لأداء فريضة الحج في (25 من شعبان 625هـ =31 من يونيو 122م)، ولما قدم أبوه مكة حمله، وطاف به البيت، وسأل الله أن يجعله عالمًا عاملاً. ونشأ ابن دقيق العيد في قوص بين أسرة كريمة، تعد من أشرف بيوتات الصعيد وأكرمها حسبًا ونسبًا، وأشهرها علمًا وأدبًا، فأبوه أبو الحسن علي بن وهب عالم جليل، مشهود له بالتقدم في الحديث والفقه والأصول، وعُرف جده لأبيه بالعلم والتقى والورع، وكانت أمه من أصل كريم، وحسبها شرفًا أن أباها هو الإمام تقي الدين بن المفرج الذي شُدّت إليه الرحال، وقصده طلاب العلم. وتعود سبب شهرته باسم ابن دقيق العيد، أن جده “مطيعًا” كان يلبس في يوم عيد طيلسانًا ناصع البياض، فقيل كأنه دقيق العيد، فسمي به، وعُرف مطيع بدقيق العيد، ولما كان “علي بن وهب” حفيده دعاه الناس بابن دقيق العيد، واشتهر به ابنه تقي الدين أيضًا، فأصبح لا يُعرف إلا به.
بدأ ابن دقيق العيد طريق العلم بحفظ القرآن الكريم، ثم تردد على حلقات العلماء في قوص، فدرس الفقه المالكي على أبيه، والفقه الشافعي على تلميذ أبيه البهاء القفطي، ودرس علوم العربية على محمد أبي الفضل المرسي، ثم ارتحل إلى القاهرة واتصل بالعز بن عبد السلام، فأخذ عنه الفقه الشافعي والأصول، ولازمه حتى وفاته. ثم تطلعت نفسه إلى الرحلة في طلب العلم، وملاقاة العلماء، فارتحل إلى دمشق في سنة (660هـ=1261م) وسمع من علمائها ثم عاد إلى مصر.
قيامه بالتدريس والتأليف
استقر ابن دقيق العيد بمدينة قوص بعد رحلته في طلب الحديث، وتولى قضاءها على مذهب المالكية، وكان في السابعة والثلاثين من عمره، ولم يستمر في هذا المنصب كثيرًا، فتركه وولى وجهه شطر القاهرة وهو دون الأربعين، وأقام بها تسبقه شهرته في التمكن من الفقه، والمعرفة الواسعة بالحديث وعلومه. وفي القاهرة درس الحديث النبوي في دار الحديث الكاملية، وهي المدرسة التي بناها السلطان الكامل سنة (621هـ=1224م)، ثم تولى مشيختها بعد ذلك، وكان على تبحره في علوم الحديث يتسدد في روايته، فلا يروي حديثًا إلى عن تحرٍّ واحتراز، ومن ثم كان قليل التحديث لا عن قلة ما يحفظه ولكن مبالغة في التحري والدقة. ويصف ابن سيد الناس مكانة شيخه ابن دقيق العيد في هذا الفن بقوله “وكان للعلوم جامعًا، وفي فنونها بارعًا مقدمًا في معرفة علل الحديث على أقرانه، منفردًا بهذا الفن النفيس في زمانه”. ولابن دقيق العيد كتاب عمدة في علم مصطلح الحديث سماه “الاقتراح في معرفة الاصطلاح” والكتاب مطبوع نشرته وزارة الأوقاف بالعراق.
ودرّس الفقه الشافعي في المدرسة الناصرية التي أنشأها صلاح الدين الأيوبي بجوار قبة الإمام الشافعي، ولما كان شيخًا قد تضلّع في الفقه وأحاط بمسائله في المذهبين المالكي والشافعي؛ فقد قام بتدريسهما في المدرسة الفاضلية. ولم يقف الشيخ الجليل على أدلة المذهبين، والاجتهاد في نطاقهما، وإنما تجاوز ذلك إلى مرحلة الاجتهاد المستقل في بعض ما كان يعرض له من قضايا، حيث كان يستخرج الأحكام من الكتاب والسنة، غير مقلد لأحد في اجتهاده، وقد شهد له معاصروه بالسبق والتقدم في الفقه، وأقروا له بالاجتهاد، فوصفه الإسنوي بأنه “حافظ الوقت خاتمة المجتهد”. ويقول الأدفوي “ولا شك أنه من أهل الاجتهاد ولا ينازع في ذلك إلا من هو من أهل العناد، ومن تأمل كلامه علم أنه أكثر تحقيقًا وأمتن وأعلم من بعض المجتهدين فيما تقدم وأتقن”.
قال الأدفوي في طالعه السعيد “كان له قدرة على المطالعة، رأيت خزانة المدرسة النجيبية بقوص فيها جملة كتب من جملتها عيون الأدلة لابن القمار في نحو ثلاثين مجلدة وعليها علامات له، وكذلك رأيت في المدرسة السابقية السنن الكبير للبيهقي على كل مجلدة علامة له أيضاً. ويقال إنه طالع كتب المدرسة الفاضلية بالقاهرة عن آخرها. وقد كان دأبه أن يقضي الليل في المطالعة والعبادة، فكان يطالع في الليلة الواحدة المجلد أو المجلدين، وربما تلا آية واحدة من القرآن الكريم فكرّرها حتى مطلع الفجر. استمع له بعض أصحابه ليلة وهو يقرأ فوصل إلى قوله تعالى (فإذا نفخ في الصور فلا أنساب بينهم يومئذ ولا يتساءلون) قال: فما زال يكررها إلى طلوع الفجر. وكان يقول: ما تعلمت كلمة ولا فعلت فعلاً إلا وأعددت له جواباً بين يدي الله عز وجل”.
وله مؤلفات فقهية تنطق بعلو كعبه في هذا الميدان، منها: إحكام الأحكام شرح عمدة الأحكام للعلامة الحافظ عبد الغني النابلسي. وكتاب العمدة يحتوي على مجموعة من الأحاديث مبوبة على أبواب الفقه، مثل باب الطهارة وباب الوضوء، وباب التيمم، وقد قام ابن دقيق العيد بشرح الكتاب، فتصدى لبيان معاني الحديث، وما به من بيان، واستنبط ما فيه من أحكام، وأقوال الفقهاء فيه واختلافاتهم. وقد أملى ابن دقيق العيد هذا الشرح على تلميذه عماد الدين بن الأثير. وقد طُبع هذا الكتاب بالقاهرة سنة (1342هـ= 1924م) واعتنى بنشره محمد منير الدمشقي. وإلى جانب هذا له شرح مقدمة المطرزي في أصول الفقه، وشرح مختصر الزبيدي في فقه الشافعية، وشرح مختصر ابن الحاجب في فقه المالكية، غير أن هذه الكتب فُقدت ولم يصل إلينا منها شيء. وله جملة من الفتاوى والمباحثات الفقهية والأصولية، لا يجمعها كتاب، وقد أورد السبكي في طبقات الشافعية نماذج منها، وقد صدرها بقوله: “فوائد الشيخ تقي الدين ومباحثه أكثر من أن تُحصى، ولكنها غالبًا متعلقة بالعلم من حيث هو؛ حديثًا وأصولاً وقواعد كلية”.
الأديب
كان ابن دقيق العيد على انشغاله بالفقه والحديث أديبًا بارعًا، وخطيبًا مفوهًا، ولو انصرف إلى الأدب لكان له منزلة ومكانة، ويجمع معاصروه على براعته في الخطابة وتفوقه فيها، فكان يملك أفئدة الناس بأسلوبه المؤثر ونبراته الصادقة، وعظاته البالغة، وذكر السبكي أن لابن دقيق العيد “ديوان خطب”. وله أيضًا “ديوان شعر” جمعه صلاح الدين الصفدي المؤرخ المعروف، ونُشر بالقاهرة.
Sunna Files Free Newsletter - اشترك في جريدتنا المجانية
Stay updated with our latest reports, news, designs, and more by subscribing to our newsletter! Delivered straight to your inbox twice a month, our newsletter keeps you in the loop with the most important updates from our website
قاضي القضاة
تولى ابن دقيق العيد منصب قاضي القضاة في أخريات حياته في (18 من جمادى الأولى 695هـ= من مارس 1296م) بعد وفاة القاضي ابن بنت الأعز، وقبله بعد تردد وإلحاح، وكانت فترة توليه القضاء على قصرها من أكثر سني عمره خطرًا وأعظمها شأنًا، فقد أصبح على اتصال وثيق بالسلطان وكبار رجال الدولة، لكن كان له من ورعه ودينه وعلمه ما يجعله يجهر بالحق ويدافع عنه، فلا يقبل شهادة الأمير؛ لأنه عنده غير عدل، وإن كان الكبراء والعلماء يتملقونه ويقتربون إليه، فرد شهادة “منكوتمر” نائب السلطنة حين بعث إليه يعلمه أن تاجرًا مات وترك أخًا من غير وارث سواه، وأراد منه أن يثبت استحقاق الأخ لجميع الميراث بناء على هذا الإخبار، فرفض ابن دقيق العيد، وترددت الرسل بينهما، لكن القاضي كان يرفض في كل مرة، على الرغم من إلحاح منكوتمر عليه؛ لأن الأدلة لم تكن كافية لإثبات أخوة المذكور إلا شهادة منكوتمر، وأمام إصرار نائب السلطنة، استقال ابن دقيق من منصب القضاء احترامًا لنفسه وإجلالاً لمنصب القضاء، فلما بلغ السلطان “حسام الدين لاجين” ذلك أنكر على نائبه تصرفه في التدخل في عمل القضاء، وأرسل في طلب الشيخ، فلما جاء قام إليه وأجلسه بجواره، وأخذ يسترضيه ويتلطف به حتى قبل أن يعود إلى منصبه.
ويذكر له وهو في منصبه أن رفض قيام السلطان “الناصر محمد بن قلاوون” بجمع المال من الرعية لمواجهة التتار، معتمدًا على الفتوى التي أصدرها العز بن عبد السلام بجواز ذلك أيام سيف الدين قطز، وقال للسلطان: إن ابن عبد السلام لم يفت في ذلك إلا بعد أن أحضر جميع الأمراء كل ما لديهم من أموال، ثم قال له في شجاعة: كيف يحل مع ذلك أخذ شيء من أموال الرعية، لا والله لا جاز لأحد أن يتعرض لدرهم من أولاد الناس إلا بوجه شرعي” واضطر السلطان أن يرضخ لكلام القاضي الشجاع.
ولا شك أن ابن دقيق العيد قد ارتفع بمنزلة القاضي وحافظ على كرامة منصبه، فتطبيق الأحكام الشرعية هو سبيله إلى العدل دون تفرقة، والالتزام بالحق هو الميزان الذي يستعمله في قضاياه وفتاواه، فحين رأى بعض الناس تستحلّ أموال اليتامى القصّر الذين لا يستطيعون التصرف فيما يرثونه من أموال أنشأ ما يسمى “المودع الحكمي”، وهو شبه في زماننا “الديوان الحسبي” تُحفظ فيه أموال اليتامى الصغار، يقول ابن حجر العسقلاني: “وهو أول من عمل المودع الحكمي، وقرر أن من مات وله وارث إن كان كبيرًا أقبض حصته، وإن كان صغيرًا أحمل المال في المودع، وإن كان للميت وصي خاص ومعه عدول يندبهم القاضي لينضبط أصل المال على كل تقدير”.
وكان ابن دقيق معنيًا بشئون القضاة الذين يتبعونه في الأقاليم، فيرسل إليهم الرسائل المطولة التي ترسم لهم ما يجب عليهم أن ينتهجوه ويلتزموه في أحكامهم، وكيفية معالجة قضايا الناس، وتضمنت رسائله أيضًا وصاياه لهم بالتزام العدل وتطبيق أحكام الشرع.
وفاته
يذكر عدد كبير من المؤخرين أن ابن دقيق العيد كان على رأس المائة السابعة الذي حدد للأمة أمر دينها بعلمه الغزير واجتهاده الواسع، وشهد له معاصروه بالسبق والتقدم في العلم، فقد كان ضليعًا في جميع العلوم اللغوية والشرعية والعقلية. ويؤكد السبكي ذلك فيقول: “ولم ندرك أحدًا من مشايخنا يختلف في أن ابن دقيق العيد هو العالم المبعوث على رأس السبعمائة، المشار إليه في الحديث النبوي، وأنه أستاذ زمانه علمًا ودينًا”.
وقضى الشيخ حياته بين التأليف والتدريس نهارًا، والعبادة والصلاة ليلاً، حتى توفاه الله في يوم الجمعة (11 من صفر 702هـ=5 من أكتوبر 1302م).