تعد القسطنطينية من أهم المدن العالمية، وقد أسست في عام 330ر على يد الإمبراطور البيزنطي قسطنطين الأول، وقد كان لها موقع عالمي فريد حتى قيل عنها “لو كانت الدنيا مملكة واحدة لكانت القسطنطينية أصلح المدن لتكون عاصمة لها”، وقد فاتهم أن مكة المكرمة حماها الله هي الأصلح، ومنذ تأسيسها فقد اتخذها البيزنطيون عاصمة لهم وهي من أكبر المدن في العالم وأهمها عندما دخل المسلمون في جهاد مع الدولة البيزنطية كان لهذه المدينة مكانتها الخاصة من ذلك الصراع، ولذلك فقد بشر الرسول صلى الله عليه وسلم أصحابه بفتحها في عدة مواقف، من ذلك ما حدث أثناء غزوة الخندق، ولهذا فقد تنافس خلفاء المسلمين وقادتهم على فتحها عبر العصور المختلفة طمعاً في أن يتحقق فيهم حديث الرسول صلى الله عليه وسلم [لتفتحن القسطنطينية على يد رجل، فلنعم الأمير أميرها ولنعم الجيش ذلك الجيش] (1).
لذلك فقد امتدت إليها يد القوات المسلمة المجاهدة إحدى عشرة مرة قبل هذه المرة الأخيرة التي تم فيها فتحها، منها سبعة في القرنين الأولين للإسلام، فحاصرها معاوية بن أبي سفيان في خلافة الإمام علي بن أبي طالب رضي الله عنه سنة 34 هـ (654ر)، وحاصرها يزيد بن أبي معاوية سنة 47 هـ (667ر)، وحاصرها سفيان بن أوس في خلافة معاوية سنة 52 هـ (672ر)، وفي سنة 97 هـ (715ر) حاصرها مسلمة بن عبد الملك في زمن الخليفة عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه، وفي المرة السابعة حاصرها أحد قواد الخليفة العباسي هارون الرشيد سنة 182 هـ (798ر).
السلطان محمد الثاني (الفاتح)
ولد السلطان محمد خان الثاني ابن السلطان مراد الثاني بن محمد الأول في 26 رجب سنة 833 هـ (20 نيسان/أبريل 1429ر)، وقد جلس على سرير الملك بعد وفاة أبيه بعهد منه إليه سنة 855 ﻫـ سنة 1451ر وهو شاب لم يتجاوز عمره اثنتين وعشرين سنة وحكم لمدة ثلاثين سنة (1451-1481ر).وكان سلطانًا جليلاً من أعظم الملوك جهادًا وأقواهم إقدامًا وأكثرهم توكلاً على اللهِ واعتمادًا.
كان محمد الفاتح يتطلع إلى فتح القسطنطينية ويفكر في فتحها ولقد ساهمت تربية العلماء على تنشئته على حب الإسلام. وقد بذل جهوده المختلفة للتخطيط والترتيب لفتح القسطنطينية، وبذل في ذلك جهوداً كبيرة في تقوية الجيش العثماني بالقوى البشرية حتى وصل تعداده إلى قرابة ربع مليون مجاهد وهذا عدد كبير مقارنة بجيوش الدول في تلك الفترة، كما عني عناية خاصة بتدريب تلك الجموع على فنون القتال المختلفة وبمختلف أنواع الأسلحة التي تؤهلهم للعملية الجهادية المنتظرة.
الاستعدادات (التحصينات)
قبل التعرض لفتح القسطنطينية أراد السلطان محمد الثاني أن يحصن مضيق البوسفور حتى لا يأتي لها مدد من مملكة طرابزون وذلك بأن يقيم قلعة على شاطئ المضيق من جهة أوروبا تكون مقابلة للحصن الذي أنشأه السلطان بايزيد ببرّ آسيا. كان السلطان بايزيد الأول قد أنشأ على ضفة البوسفور الآسيوية في أثناء حصاره للقسطنطينية حصنا تجاه أسوارها عُرف باسم قلعة الأناضول، وكانت تقوم على أضيق نقطة من مضيق البوسفور، وعزم محمد الفاتح أن يبني قلعة على الجانب الأوروبي من البوسفور في مواجهة الأسوار القسطنطينية، وقد جلب لها مواد البناء وآلاف العمال، واشترك هو بنفسه مع رجال دولته في أعمال البناء، وهو ما ألهب القلوب وأشعل الحمية في النفوس، وبدأ البناء في الارتفاع شامخ الرأس في الوقت الذي كان فيه الإمبراطور قسطنطين لا يملك وقف هذا البناء، واكتفى بالنظر حزنا وهو يرى أن الخطر الداهم سيحدق به دون أن يملك من دفعه شيئا.
ولم تمض ثلاثة شهور حتى تم بناء القلعة على هيئة مثلث سميك الجدران، في كل زاوية منها برج ضخم مغطى بالرصاص، وأمر السلطان بأن ينصب على الشاطئ مجانيق ومدافع ضخمة، وأن تصوب أفواهها إلى الشاطئ، لكي تمنع السفن الرومية والأوروبية من المرور في بوغاز البوسفور، وقد عرفت هذه القلعة باسم “رومللي حصار”، أي قلعة الروم. وقد وصل ارتفاعها إلى 82 متراً وأصبحت القلعتان متقابلتين ولا يفصل بينهما سوى 660م تتحكمان في عبور السفن من شرقي البسفور إلى غربيه وتستطيع نيران مدافعهما منع أي سفينة من الوصول إلى القسطنطينية من المناطق التي تقع شرقها مثل مملكة طرابزون وغيرها من الأماكن التي تستطيع دعم المدينة عند الحاجة.
في الحقيقة، لقد اعتنى السلطان عناية خاصة بجمع الأسلحة اللازمة لفتح القسطنطينية، ومن أهمها المدافع التي أخذت اهتماماً خاصاً منه حيث أحضر مهندساً مجرياً يدعى أوربان كان بارعاً في صناعة المدافع فأحسن استقباله ووفر له جميع الإمكانيات المالية والمادية والبشرية، ولم تمض ثلاثة أشهر حتى تمكن هذا المهندس من صنع مدفع عظيم لم يُر مثله قط، فقد كان يزن 700 طن، ويرمي بقذائف زنة الواحدة منها 12 ألف رطل، ويحتاج جره إلى 100 ثور يساعدها مائة من الرجال، وعند تجربته سقطت قذيفته على بعد ميل، وسمع دويه على بعد 13 ميلا، وقد قطع هذا المدفع الذي سُمي بالمدفع السلطاني الطريق من أدرنة إلى موضعه أمام أسوار القسطنطينية في شهرين.
ومما يذكر، أن هذه المدافع الضخمة والتي كان على رأسها المدفع السلطاني المشهور، كانت تحتاج إلى مئات الثيران القوية لتحريكها، وقد أشرف السلطان بنفسه على صناعة هذه المدافع وتجريبها. ويضاف إلى هذا الاستعداد ما بذله الفاتح من عناية خاصة بالأسطول العثماني حيث عمل على تقويته وتزويده بالسفن المختلفة ليكون مؤهلاً للقيام بدوره في الهجوم على القسطنطينية، تلك المدينة البحرية التي لا يكمل حصارها دون وجود قوة بحرية تقوم بهذه المهمة وقد ذكر أن السفن التي أعدت لهذا الأمر بلغت أكثر من أربعمائة سفينة.
Sunna Files Free Newsletter - اشترك في جريدتنا المجانية
Stay updated with our latest reports, news, designs, and more by subscribing to our newsletter! Delivered straight to your inbox twice a month, our newsletter keeps you in the loop with the most important updates from our website
قبيل الهجوم
ولما شاهد قسطنطين آخر ملوك الروم هذه الاستعدادات استنجد بأهل جنوة فأرسلوا له عمارة بحرية تحت إمرة جوستنياني، القائد الجنوبي “جون جستنياني” مع 700 مقاتل محملين بالمؤن والذخائر، الذي نجح في الوصول إلى المدينة المحاصرة، فاستقبله الإمبراطور قسطنطين استقبالا حسنًا وعينه قائدًا عامًا لقواته، فنظم الجيش وأحسن توزيعهم ودرب الرهبان الذي يجهلون فن الحرب تمامًا، وقرر الإمبراطور وضع سلسلة لإغلاق القرن الذهبي أمام السفن القادمة، تبدأ من طرف المدينة الشمالي وتنتهي عند حي غلطة.
وفي هذه الأثناء، أخذ محمد الفاتح يفكر في طريقة لدخول مراكبه إلى الميناء لإتمام الحصار براً وبحراً، فخطر بباله أن ينقل المراكب إلى البر ليجتازوا السلاسل الموضوعة لمنعه،وتم هذا الأمر بأن مهد طريقاً إلى البر رصّت فوقه ألواح من الخشب صبت عليها كميات من الزيت والدهن لسهولة زلق المراكب عليها، وبهذه الطريقة أمكن نقل سبعين سفينة في ليلة واحدة حتى أصبح النهار، ونظرها الروم، أيقنوا أن لا مناص من نصر العثمانيين عليهم.
ومن ناحية أخرى، أرسل السلطان إلى قسطنطين يخبره أنه لو سلم البلد إليه طوعاً يتعهد له بعدم مس حرية الأهالي أو أملاكهم، وإن يعطيه جزيرة موره، فلم يقبل قسطنطين بذلك. أمر الفاتح جنوده بالصيام قبل الهجوم بيوم لتطهير نفوسهم وتزكيتها، ثم قام بزيارة للسور وتفقد الأسطول، وفي تلك الليلة تعالت أصوات التكبير والتهليل، ورتلت آيات الجهاد على مسامع الجند، ودوت الأناشيد الإسلامية الحماسية.. ودعا الفاتح قادة جيشه، ثم خاطبهم قائلاً:
»إذا تم لنا فتح القسطنطينية تحقق فينا حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، وسيكون من حظنا ما أشاد به هذا الحديث من التقدير.. فأبلغوا أبناءنا العساكر فرداً فرداً أن الظفر العظيم الذي سنحرزه سيزيد الإسلام قدراً وشرفاً، ويجب على كل جندي أن يجعل تعاليم ديننا الحنيف نصب عينيه، فلا يصدر عن واحد منهم ما ينافي هذه التعاليم، وليتجنبوا الكنائس والمعابد، ولا يمسوها بسوء بأذى، وليدعوا القساوسة والضعفاء الذين لا يقاتلون..«.
سقوط المدينة
بعد أن تم نقل السفن أمر السلطان محمد بإنشاء جسر ضخم داخل الميناء، عرضه خمسون قدما، وطوله مائة، وصُفَّت عليه المدافع، وزودت السفن المنقولة بالمقاتلين والسلالم، وتقدمت إلى أقرب مكان من الأسوار، وحاول البيزنطيون إحراق السفن العثمانية في الليل، ولكن العثمانيين علموا بهذه الخطة فأحبطوها، وتكررت المحاولة وفي كل مرة يكون نصيبها الفشل والإخفاق.
استمر الحصار بطيئا مرهقا والعثمانيون مستمرون في ضرب الأسوار دون هوادة، وأهل المدينة المحاصرة يعانون نقص المؤن ويتوقعون سقوط مدينتهم بين يوم وآخر، خاصة وأن العثمانيين لا يفتئون في تكرار محاولاتهم الشجاعة في اقتحام المدينة التي أبدت أروع الأمثلة في الدفاع والثبات، وكان السلطان العثماني يفاجئ خصمه في كل مرة بخطة جديدة لعله يحمله على الاستسلام أو طلب الصلح، لكنه كان يأبى، ولم يعد أمام السلطان سوى معاودة القتال بكل ما يملك من قوة.
وفي فجر يوم الثلاثاء (20 من جمادى الأولى 857هـ= 29 من مايو 1453ر)، وكان السلطان العثماني قد أعد أهبته الأخيرة، ووزَّع قواته وحشد زهاء 100 ألف مقاتل أمام الباب الذهبي، وحشد في الميسرة 50 ألفًا، ورابط السلطان في القلب مع الجند الإنكشارية، واحتشدت في الميناء 70 سفينة بدأ الهجوم برًا وبحرًا، واشتد لهيب المعركة وقذائف المدافع يشق دويها عنان السماء ويثير الفزع في النفوس، وتكبيرات الجند ترج المكان فيُسمع صداها من أميال بعيدة، والمدافعون عن المدينة يبذلون كل ما يملكون دفاعا عن المدينة، وما هي إلا ساعة حتى امتلأ الخندق الكبير الذي يقع أمام السور الخارجي بآلاف القتلى.
ولما رأى قسطنطين الأعلام العثمانية ترفرف على الأبراج الشمالية للمدينة، أيقن بعدم جدوى الدفاع وخلع ملابسه حتى لا يُعرف، ونزل عن حصانه وقاتل حتى قتل في ساحة المعركة. وكان لانتشار خبر موته دور كبير في زيادة حماس المجاهدين العثمانيين وسقوط عزائم النصارى المدافعين وتمكنت الجيوش العثمانية من دخول المدينة من مناطق مختلفة وفر المدافعون بعد انتهاء قيادتهم، وهكذا تمكن المسلمون من الاستيلاء على المدينة.
إسلام بول – استانبول
قرر الفاتح اتخاذ القسطنطينية عاصمة لدولته، وأطلق عليها اسم “إسلام بول” أي “دار الإسلام”، ثم حُرفت واشتهرت بـ “إستانبول”، وانتهج سياسة سمحة مع سكان المدينة.وتجدر الإشارة هنا إلى؛ أن المؤرخ الانجليزي ادوارد شيبرد كريسي حاول في كتابة “تاريخ العثمانيين الأتراك” أن يشوه صوره الفتح العثماني للقسطنطينية ووصف السلطان محمد الفاتح بصفات قبيحة حقداً منه وبغضاً للفتح الإسلامي المجيد وسارت الموسوعة الأمريكية المطبوعة في عام 1980ر في حمأة الحقد الصليبي ضد الإسلام، فزعمت أن السلطان محمد قام باسترقاق غالبية نصارى القسطنطينية، وساقهم إلى أسواق الرقيق في مدينة أدرنة حيث تم بيعهم هناك. لكن الحقيقة التاريخية تقول، أن محمد الفاتح عندما دخل المدينة ظافرا عامل أهل القسطنطينية معاملة رحيمة وأمر جنوده بحسن معاملة الأسرى والرفق .
وهكذا، لم يكن فتح القسطنطينية أمراً سهلاً كما يحلو لبعض المؤرخين أن يصوروه بسبب ضعف الدولة البيزنطية، والانشقاق الكنسي في الشرق والغرب، بل الحق يقال: إن الجنود الإسلاميين بذلوا أرواحهم في سبيل ذلك، وقاموا بالتضحية والفداء حتى تم لهم النصر المبين، كما أن السلطان محمداً أعدّ كل ما يمكن من الوسائل العسكرية الناجحة، ولم يشك لحظة في ثقته بنصر الله عز وجل حتى تم له ذلك، وصدق المؤرخ الفرنسي الشهير (كارادي فو Carra De Vaux) في قوله بهذا الصدد »إن هذا الفتح لم يتيسر لمحمد الفاتح اتفاقاً، ولا تيسر بمجرد ضعف الدولة البيزنطية، بل كان هذا السلطان يدبر التدابير اللازمة له من قبل ويستخدم له ما كان في عصره من العلم«.
—————————–
(1) حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي شَيْبَةَ، وَسَمِعْتُهُ أَنَا مِنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي شَيْبَةَ، قَالَ حَدّثَنَا زَيْدُ بْنُ الْحُبَابِ، قَالَ حَدَّثَنِي الْوَلِيدُ بْنُ الْمُغِيرَةِ الْمَعَافِرِيُّ، قَالَ حَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ بِشْرٍ الْخَثْعَمِيُّ، عَنْ أَبِيهِ، أَنَّهُ سَمِعَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ [لَتُفْتَحَنَّ الْقُسْطَنْطِينِيَّةُ فَلَنِعْمَ الْأَمِيرُ أَمِيرُهَا وَلَنِعْمَ الْجَيْشُ ذَلِكَ الْجَيْشُ]
السلطان محمد الفاتح والجيش الذي كان معه كانوا ماتريدية أشعرية وقد شهد لهم الرسول بأنهم على حال حسن. دل ذلك على أنهم على الحق فهم أهل السنة والجماعة.فمن ذمهم فهو المذموم.