رحل ابن المنذر إلى مصر طلباً للحديث والفقه، والتقى بالربيع بن سليمان (ت 270 هـ) صاحب الشافعي وتلميذه، فوقف على كتب الشافعي التي صنّفها في مصر. وتيسّرت لابن المنذر التلمذة على يد أعلم فقهاء عصره بأقوال الصحابة والتابعين: الإمام محمد بن عبد الله بن الحكم، الذي وصل إلى منصب مفتي الديار المصرية ومات في سنة 268 هـ.
وسمع ابنُ المنذر الحديث من قاضي مصر ومحدِّثها: بكار بن قتيبة المتوفَّى 270 هـ؛ كما سمع الحديث في نيسابور من إمامها و مفتيها الحافظ محمد بن يحيى الذهلي الذي مات شهيداً في شوال سنة 267 هـ. وقد رحل ابن المنذر إلى مكة وسمع محدثَها محمد بن إسماعيل الصائغ المتوفَّى 276 هـ، وطاب له المقام في مكة، فصنَّف ودرَّس وأفتى، وعلا أمرُه، وارتفع مقامه حتى صار شيخ الحرم المكِّي؛ لأنه كان المفسر المدقِّق، والمحدث الثقة والراوي لآثار الصحابة، رضوان الله عليهم، في الفقه وآراء التابعين، وأئمة المجتهدين مع عرض أدلّتهم والموازنة بينها، فترجّحتْ له بالتحقيق الآراءُ، فلا يلتزم التقيُّدَ في الاختيار بمذهب أحد بعينه، ولا يتعصّب لأحد ولا على أحد بل يدور مع ظهور الدليل ودلالة السنة الصحيحة يقول بها مع من كان.
مات ابن المنذر رحمه الله بمكة المكرمة على التحقيق سنة 318 هـ.
آثاره العلمية:
خلَّف ابن المنذر المصنفات التالية:
1- تفسير القرآن الكريم:
يبدو لنا أن تفسير ابن المنذر من أجلِّ التفسيرات، فقد قوَّمه الداوديُّ في “طبقات المفسرين”، وصرّح بأنه لم يُصَنَّفْ مثله. وقد أشار ابن المنذر نفسه إلى تفسيره في كتابه “الأوسط”، ويبدو لنا أنه كان يفسر القرآن بما صحّ لديه من الحديث، وينقل لنا ما ثبت من أقوال الصحابة والتابعين فيه. ويبدي رأيه في بعض الآيات التي تحتمل الاجتهاد، لكونه مجتهداً لا يقلِّد أحداً. وقد وقف السيوطي على تفسيره واستند إليه كثيراً في تفسيره “ترجمان القرآن” و”الدرّ المنثور في التفسير المأثور”.
2- السنن المبسوط:
أشار ابن المنذر إلى هذا الكتاب في كتابه “الأوسط” أكثر من مرة. ويبدو لنا أن كتاب “السنن المبسوط” هو أكبر كتب ابن المنذر الفقهية، وقد أطلق عليه الذهبي “المبسوط في الفقه”، وقال: “لم يصنَّف مثلُه”.
3- السنن والإجماع والاختلاف:
هو أصل كتاب “الأوسط” وعنه اختصره. وقف عليه السبكي واستند إليه وقال عنه: “إنه كتاب مبسوط حافل”.
4- الأوسط من السنن والإجماع والاختلاف:
هو مختصر لكتاب “السنن والإجماع والاختلاف”؛ ويصفه حاجي خليفة في كتابه “كشف الظنون”: “إنه كتاب كبير الحجم في نحو خمسة عشر مجلداً؛ عزيز الوجود”. والكتاب يعرض لمذاهب العلماء بأدلتهم، ويرجح وفقاً للدليل.
5- الإشراف:
يتضمن بيان المذاهب للأئمة والعلماء السابقين عليه، ويعدّ من أجل الكتب في الاختلافات الفقهية. اعتمد عليه الموافق والمخالف.
6- الإقناع:
وهو كتاب موجز دقيق في الفقه، مدعَّم بالدليل من الكتاب والسنة وإجماع أهل العلم ممن يحفظ عنهم ابن المنذر.
7- إثبات القياس:
ويبدو أن هذا الكتاب يتعرَّض للاجتهاد وشروطه وأركانه وأنواعه، مع التركيز على أقيسة الرسول صلى الله عليه وسلم والصحابة.
8- جامع الأذكار.
9- الإجماع:
وهو في المسائل الفقهية المتفق عليها بين أكثر علماء المسلمين. وقد عددنا المسائل التي أوردها ابن المنذر في كتابه هذا فوصلت إلى 765 مسألة، معظمها له أصل من كتاب أو سنة، بعضها غير قاطع الدلالة على المعنى.
ثناء الأئمة على ابن المنذر
ويبدو لنا أن ابن المنذر كانت غايته العمل الصالح، والعلم النافع، فقد بذل كل طاقته في سبيل ذلك، وأخلص النية لله، فنفع الله بعلمه، وكان محل تقدير أعلام الإسلام وثنائهم.
أما الذهبي فقد قال عنه: “شيخ الحرم، وصاحب الكتب التي لم يصنَّف مثلها، ككتاب المبسوط في الفقه، وكتاب الإشراف في اختلاف العلماء، وكتاب الإجماع، وغير ذلك، وكان غايةً في معرفة الاختلاف والدليل، وكان مجتهداً لا يقلّد أحداً”.
وقال عنه الإمام السبكي: “أحد أعلام هذه الأئمة ,أحبارها. كان إماماً مجتهداً، حافظاً ورعاً.. وله التصانيف المفيدة السائرة”.
وقال ابن حجر العسقلاني فيه: “عدْل صادق فيما علمت.. وقد اعتمد على ابن المنذر جماعة من الأئمة فيما صنّفه من الخلافيات”.
وقال فيه ابن شهبة: “أحد الأئمة الأعلام، وممن يقتدى بنقله في الحلال والحرام. صنّف كتباً معتبرة عند أئمة الإسلام”.
وقال عنه السيوطي أنه: “من المتضلِّعين في الحديث، الباحثين عن فقهه ومعانيه، الذاكرين لأقوال العلماء ومذاهبهم من غير تقيُّد”.