إن الحمدَ للهِ نَحمدهُ ونَستغفرهُ ونَستَعينهُ ونستهديهِ ونعوذُ بالله من شرورِ أنفُسِنا ومن سيئاتِ أعمالِنا، من يهدِ الله فلا مضلَّ له ومن يضلل فلا هاديَ له وأشهدُ أن لا إله إلا الله وحدَهُ لا شريكَ له وأشهدُ أنَّ محمدًا عبدهُ ورسولهُ من بعثَهُ الله رحمةً للعالمينَ هاديًا ومبشرًا ونذيرًا بلّغَ الرسالةَ وأدّى الأمانةَ ونَصَحَ الأمة فجزاهُ الله عنَّا خيرَ ما جزى نبيًّا من أنبيائهِ صلوات الله وسلامُهُ عليهِ وعلى كُلّ رسولٍ أرسلَه.
أما بعد، فأوصيكم ونفسي بتقوى الله عز وجل، قال الله تعالى: {مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُم مَّن قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُم مَّن يَنتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا}.
إخوة الإيمان والإسلام، الحديث عن العظماء من العلماء ليس أمرًا سهلًا، فمهما اجتهدت لتستوعب حياة أحدهم فسيعجز قلمك، ويقصر علمك، بل قد يغيب عنك الكثير.
سيرة العظماء من العلماء الأوائل هي القدوة المثلى، وإبرازها تحفيز لفتياننا وفتياتنا للإفادة منها، ولئلا يلتفتوا لأمور هزيلة هابطة لا وزن لها في الحياة ولا قيمة لها في التاريخ.
خطبتنا اليوم عن إمامٍ جليل، نشأ محبًا للعلم مغترفًا منه، ارتفع ذكره، وملأ الأرض علمه، إنه الإمام أبو حنيفة رضي الله عنه.
هو الإمام التابعي الجليل النعمان بن ثابت، ولد في الكوفة سنة ثمانين من الهجرة، كان أبوه ثابت من أهل التقوى والصلاح اشتغل بتجارة القماش، أدّب ابنه وسار به مسار العلماء بتعليمه. وقد ذهب ثابت إلى سيدنا علي بن أبي طالب رضي الله عنه وهو صغير ودعا له بالبركة فيه وفي ذريته.
التقى أبو حنيفة بستة من الصحابة، وروى عن خلق كثيرين من علماء التابعين وتتلمذ على يديه كبار العلماء.
قال فيه الإمام الشافعي: “الناس في الفقه عيالٌ على أبي حنيفة”. وقال يزيد بن هارون: “ما رأيت أورع ولا أعقل من أبي حنيفة”.
Sunna Files Free Newsletter - اشترك في جريدتنا المجانية
Stay updated with our latest reports, news, designs, and more by subscribing to our newsletter! Delivered straight to your inbox twice a month, our newsletter keeps you in the loop with the most important updates from our website
ارتحل إلى الكوفة نيفًا وعشرين مرة فخصم المعتزلة والدهريين بالكلام وناظرهم وفضح أمرهم وأقام عليهم الحجة حتى أصبح أشهر متكلمي أهل السنة في زمانه، ومع هذا كله كان يختم القرءان في شهر رمضان ستين ختمة، وروى أنه داوم على قراءة القرءان في ركعة من الصلاة ثلاثين سنة وكان يصلي في كل ليلة 400 ركعة.
والإمام أبو حنيفة داخل في حديث رسول الله: “لو كان الإيمانُ عند الثُّريَّا لنالَهُ رجالٌ مِن فارِس”، لأنه كما هو معلوم فارسي الأصل.
وسريان سرّ الحديث في أبي حنيفة أمر ظاهر ذلك أنه رضي الله عنه اشتهر بالذبّ عن عقيدة أهل السنة فألف كُتُبًا عدة في بيان العقيدة الصحيحة منها الفقه الأكبر وهو كتاب مشهور، والفقه الأبسط والعالم والمتعلم والرسالة والوصية.
ففي كتابه الفقه الأكبر قال: “والله واحدٌ لا من طريقِ العدد ولكن من طريق أنه لا شريك له، لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوًا أحد، لا يشبه شيئًا من الأشياءِ من خَلقه ولا يشبهُهُ شيءٌ منْ خَلقه”.
وفي كتابِ الوصية للإمام قال: “لقاءُ اللهِ تعالى لأهلِ الجنّة حقٌّ بلا كيفيةٍ ولا تشبيهٍ ولا جهة”.
وفي الوصية أيضا قال: “نُقِرُّ بأنَّ اللهَ على العرشِ استوى من غيرِ أن يكونَ له حاجةٌ إليه واستقرار عليه وهو الحافظُ للعرش وغيرِ العرش منْ غيرِ احتياج، فلو كان محتاجًا لما قَدَرَ على إيجادِ العالم وتدبيرِه كالمخلوق ولو كان محتاجًا إلى الجلوسِ والقرار فقبل خلقِ العرشِ أين كان الله تعالى! تعالى الله عن ذلك علوًّا كبيرا”.
وفي الفقه الأبسط قال: “كانَ اللهُ ولا مكان، كانَ قبلَ أن يَخْلُقَ الخلق كانَ ولم يكن أينٌ ولا خَلقٌ ولا شيء وهو خالقُ كل شيء“.
هؤلاء هم العلماء الصادقون الذين ملؤوا الدنيا بعلمهم وعملهم، ومع ذلك نجد أناسا اليوم يرفضون أقوال الأئمة الأعلام، ويقولون: هم رجالٌ ونحن رجال، وشتان ما بين رجالٍ ورجال، أولئك تحيا القلوبُ بذكرهم، وهؤلاء تموتُ القلوب بمجالستهم. إذا ذُكر الأئمة: أبو حنيفة ومالك والشافعي وابن حنبل، فالجهلة مع هؤلاء الأئمةِ أقزام، أولئك الأئمة كانوا قممًا في الأدب والعلم، كانوا علماء في التقوى، علماء في العبادة، علماء في الزهد والورع والخشية والخوف.
ومع ذلك يقول الواحد من هؤلاء الأعلام أحيانًا: “لا أدري”، وإنك لتعجب أشد العجب من أقوام ليس لهم حظ يذكر من العلم الشرعي يؤهلهم للفتيا، ثم يتقحمون حمى الشريعة فيخوضون تحليلًا وتحريمًا، وقد تُطرح مسألة شرعية في منتدى أو مجلس فلا ينقضي المجلس حتى يُفتي الجميع على اختلاف فئاتهم وتخصصاتهم، هذا يقول: في ظني، وذلك: في اعتقادي، ءاخر يجزم بالتحليل والتحريم، فسبحانك ربي هل غدا التحليل والتحريم مرتعًا للجهل والظنون والأوهام؟! لو خرج إلى الناس مهندس فأخذ يمارس الطب ويصف الدواء للمرضى، ماذا تقولون عنه؟! وبم تصفونه؟! وما مصيره؟! فكيف بمن يتقحم حمى الشريعة ويسوِّد صفحات الكتب والصحف بالتحليل والتحريم، وهو ليس من أهل الشريعة، فضلًا عن أن يكون من أهل الفتيا، خاصة في نوازل الأمة التي لو نزلت على عُمر لجمع لها أهل بدر؟!
لقد غدت الفتوى في عصرنا الحاضر مجالًا فسيحًا يتسابق فيه من يريد الشهرة أو من يلتمس رضى الناس بسخط الله.
إخوة الإسلام، مسائل أصول العقيدة توقيفية لا يدخلها الاجتهاد، والمسائل التي فيها نص من الشارع لا يدخلها الاجتهاد، فلا اجتهاد مع نص، والمسائل المجمع عليها لا اجتهاد فيها، لأنه لا تجوز مخالفة الإجماع. إن على الأمة أن تَكِلَ النظر في مسائل العلم إلى أهله من العلماء العاملين، وأن لا يدخلوا فيما لا يُحسنون في أي مسألة من الحلال والحرام.
إخوة الإيمان والإسلام، وانظروا إلى احترام الأئمة لأبي حنيفة رضي الله عنه لتنبذوا أقوال الفئة الضالة الذين وصل تحقيرهم للعلماء إلى أن قالوا في الإمام الجليل أبي حنيفة: أبا جيفة، ففي تاريخ بغداد للحافظ الكبير الخطيب البغدادي بإسناده إلى الإمام الشافعي رضي الله عنه قال: “إني لأتبرك بأبي حنيفة وأجيء إلى قبره في كل يوم– يعني زائرًا- فإذا عرضت لي حاجةٌ صليت ركعتين وجئت إلى قبره وسألتُ الله تعالى الحاجةَ عندَه فما تبعد عني حتى تقضى”. انتهى بلفظه.
هذا وقد ذكر ابن الأهدل أن أبا جعفر المنصور نقل أبا حنيفة إلى بغداد ليوليه القضاء، فأبى فحلف عليه ليفعلن، فحلف أبو حنيفة أن لا يفعل، فأمر بحبسه وقيل إنه كان يرسل إليه في الحبس أنك إن أجبت وقبلت ما طلبت منك لأخرجنك من الحبس ولأكرمنك، فأبى، فأمر بأن يخرج كل يوم فيضرب عشرة أسواط فكان يخرج به كل يوم فيضرب، فأكثر الدعاء فلم يلبث إلا يسيرًا حتى مات في الحبس مبطونًا سنة 150 هجرية. فأخرجت جنازته وكثر بكاء الناس عليه وصلى عليه خمسون ألفًا ودفن في مقابر الخيزران في بغداد.
إخوة الإيمان، هذه لمحة مما كان عليه الإمام الفاضل أبو حنيفة من دأب على نشر العلم وإحقاق الحق وإزهاق الباطل ومحاربة أهله والصبر على قضاء الله واحتمال الجلد والسجن بالصبر خوفا على دينه وحرصا عليه.
اللهم اجعل همنا نشر العلم ودأبنا إحقاق الحق وإزهاق الباطل. ءامين.
هذا وأستغفر الله لي ولكم.